(الصفحة 307)
المنفرد ، إذ من البعيد عدم تحقق الاخلال فيما لو صلّى الرجل من خراسان إلى بغداد خلف رجل ظهر كونه يهوديّاً مع بعد المسافة بينهما وطول المدّة في الطريق خصوصاً في الأزمنة السابقة ، مع أنه مورد بعض تلك الروايات(1) .
هذا ، مضافاً إلى أنّه يمكن دعوى الفرق بأنّ فقدان شيء من أوصاف الإمام لا يضرّ بتحقّق عنوان الجماعة الذي مرجعه إلى جعل المأمومين واحداً واسطة في مقام العبادة والخضوع ، بحيث كانت عبادتهم تابعة لعبادته ، وخضوعهم متعقباً لخضوعه ، بل المعتبر أصل وجود الإمام الذي يكون حافظاً لوحدتهم ناظماً لاجتماعهم ، ولا يعتبر في تحقّقها إلاّ مجرّد إحراز كونه واجداً للشرائط ، ولو لم يكن واجداً لها واقعاً .
وهذا بخلاف ما إذا تحقق الفصل بينهما ، أو كان هناك حائل ، أو تقدّم المأموم على الإمام ، فإنّه مع ذلك لا يكاد يتحقّق عنوان الجماعة ، وبه يختلّ نظامها ، وإن شئت قلت في الفرق بين المقامين: إنّ النزاع في المقام إنّما هو فيما لو انكشف فقدان ما هو الشرط ، والمفروض في تلك الروايات تحقّقه ، إذ ليس الشرط هو الإسلام الواقعي ، وكذا الطهر الواقعي ، وكذا غيرهما من الأوصاف المعتبرة في الإمام ، بل المعتبر هو إحراز تلك الأوصاف ولو بأمارة أو أصل ، والمفروض فيها تحقق ما هو الشرط ، فلا يقاس المقام بذلك أصلا .
وكيف كان، فلا مجال لرفع اليد عن رواية السكوني المتقدّمة الدالّة على وجوب الاستئناف فيما إذا قال كلّ واحد منهما: كنت أئتمّ بك ، خصوصاً بعد كونها معمولا بها هنا لدى الجميع ، وإن كان الصدوق لا يعمل بما انفرد به السكوني تبعاً لشيخه «ابن الوليد» إلاّ أنه أيضاً أفتى على طبق روايته هنا ، فلا مجال لطرحها .
- (1) الوسائل 8: 374 . أبواب صلاة الجماعة ب37 ح1 و 2 .
(الصفحة 308)
وقد عرفت أنّ حمل وصف الفساد على الفساد من حيث الجماعة ـ نظراً إلى بعض العبارات الواقعة في أدلّة اعتبار تلك الاُمور في الجماعة كقوله(عليه السلام) في رواية زرارة الواردة في البعد والحائل: «إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يُتخطّى فليس ذلك الإمام لهم بإمام»(1) ـ خلاف الظاهر ، لأنّه مضافاً إلى ظهور بعض العبارات الاُخر في بطلان أصل الصلاة بل وأظهريّته من ذلك لا يمكن هذا الحمل في رواية السكوني الظاهرة في وجوب الاستئناف ، كما لا يخفى .
كما أنّ دعوى تعارض الظهورين ووجوب الرجوع إلى القاعدة التي تقتضي الصحّة كما عرفت; مندفعة ، بأنّه لا مجال لها مع وجود الدليل الاجتهادي الحاكم بوجوب الإعادة والاستئناف .
فالإنصاف أنّه لابدّ من الحكم بالبطلان في مورد رواية السكوني وما يشابهه من الموارد التي يكون فقدان بعض الاُمور المعتبرة فيها موجباً لاختلال نظم الجماعة ، ومخلاًّ بالوحدة التي بها تتقوّم الجماعة ، ويحكم بالفرق بينها وبين ما لو انكشف فقدان بعض أوصاف الإمام كما عرفت .
مسألة: اعتبار قصد القربة من حيث الجماعة وعدمه
قال في العروة: لا يعتبر في صحة الجماعة قصد القربة من حيث الجماعة ، بل يكفي قصد القربة في أصل الصلاة ، فلو كان قصد الإمام من الجماعة هو الجاه ، أو مطلب آخر دنيويّ ولكن كان قاصداً للقربة في أصل الصلاة صحّ ، وكذا إذا كان قصد المأموم من الجماعة سهولة الأمر عليه أو الفرار من الوسوسة . . .(2) .
- (1) الوسائل 8: 410 . أبواب صلاة الجماعة ب62 ح2 .
- (2) العروة 1: 605 مسألة 22 .
- وعلّق على الحكم بالصحّة في الفرض الأول سيّدنا العلاّمة الأستاذ (مدّ ظلّه العالي) في حاشية العروة ص59 قوله: وهذا في غاية الإشكال ، ولكنّه لم يستشكل فيه أحد من محشّي العروة إلاّ بعض الأعاظم من المعاصرين ، بل زاد على مجرّد الإشكال قوله: وهذا ممّا تزلّ منه أقدام الرجال . «المقرّر».
(الصفحة 309)
ولا بأس ببسط الكلام في هذا المقام في النيّة وتحقيق حال الخصوصيات المفردة المقرونة مع الطبيعة المكتنفة بها ، فنقول:
قال بعض الأعاظم من المعاصرين في كتاب صلاته في هذا المقام ما ملخّصه: إنّ إيجاد الضمائم المتّحدة مع الصلاة من جهة الأغراض الدنيوية مع قصد القربة في أصل الصلاة يتصوّر على وجوه:
أحدها:
أن يكون الداعي إلى إيجادها متولّداً من أمر الشارع المتعلّق بالطبيعة ، بمعنى أنّ إرادة امتثال أمر الشارع ألجأه إلى تعيين فرد من بين أفراد الطبيعة ، ولولا أمر الشارع بإيجادها لم يكن له داع إلى إيجاد ذلك الفرد أصلا ، ولمّا أمره بإيجاد أصل الطبيعة وصار عازماً على ذلك ودار أمره بين هذا الفرد وباقي الأفراد ، رجّح هذا الفرد لكونه موافقاً لبعض الأغراض الدنيوية ، وهذا لا مجال لتوهّم الإشكال فيه .
ثانيها:
أن يكون ما يترتّب عليه الغرض الدنيويّ عنواناً غير عنوان العبادة يمكن اتحادهما في الخارج ، ويمكن انفكاكهما ، كما إذا فرض حصول الغرض بنفس الكون في مكان خاصّ ، سواء اتّحد مع الصلاة أم لا ، فأوجد الصلاة بهذا الكون بواسطة الأمر بها .
ثالثها:
أن يحصل الغرض الدنيوي بالصلاة على وجه خاصّ ، وفي كلّ من القسمين الأخيرين بعد فرض كفاية أمر الآمر في إيجاد العمل، وإن لم يضمّ إليه داع آخر ، إمّا أن يكون الداعي الآخر أيضاً يكفي في إيجاد العمل وإن لم يكن أمر الآمر مؤثّراً ، وإمّا أن يكون ضعيفاً .
ثمّ قال ما ملخّصه: إنّه قد عرفت عدم الإشكال في صحة القسم الأول من الأقسام المذكورة ، وهو أن يكون الداعي الراجع إلى نفسه إنّما نشأ من أمر المولى
(الصفحة 310)
بمعنى أنّ أمر المولى لمّا ألجأه إلى إيجاد الطبيعة من دون اقتضاء لخصوص فرد من الأفراد ، اختار الفرد الخاصّ منها لجهة من الجهات الراجعة إلى نفسه ، كاختيار الماء البارد في الصيف للوضوء ، والماء الحارّ في الشتاء .
وأمّا القسم الثاني، فالظاهر أنّه بقسميه كالأوّل، ومطابق لما ذكر فيه . وأمّا القسم الثالث فيشكل الأمر فيه مطلقاً ، سواء كان الداعي الآخر ضعيفاً أو قويّاً ، لأنّ العمل الخاصّ مستند إلى المجموع في كلتا الصورتين ، ثمّ بيّن الفرق بينه وبين القسم الثالث وذكر في طريق التخلّص أنّه يمكن رفع اليد عن الغرض الدنيويّ والإغماض منه ، بناءً على ما قرّرناه في الاُصول من كون الإرادة من الأفعال الاختيارية للنفس ، وأنّه لا طريق للتخلّص على غير هذا المبنى .
ثمّ بيّن حكم الضمائم الراجحة وأنهى الأمر بعد ذلك إلى الضميمة المحرّمة، وقال فيها ما ملخّصه: إنّ الضميمة المحرّمة إن كانت مرغّبة في عرض داعي الأمر، فبطلان العبادة بعد فرض اعتبار الاخلاص معلوم ، مضافاً إلى الأخبار الكثيرة ، وإن كانت موجبة لترجيح فرد من بين أفراد الطبيعة المأمور بها ، فمقتضى القاعدة عدم البطلان .
ثمّ حكى عن شيخنا المرتضى بطلان عمل المرائي مطلقاً ، من دون فرق بين ما إذا كان داخلا في أصل العمل أو في ترجّح بعض أفراده على بعض ، وأنّ الرياء ليس كالضميمة المباحة غير القادحة في ترجيح بعض الأفراد على بعض(1) ، ثمّ استشكل في الحكم بالبطلان في القسم الثاني ، وذكر جملة من الأخبار الواردة في الرياء ، وقال: إنّ الناظر في أخبار الباب يكاد يقطع بأنّ المحرّم والممنوع والمبطل للعبادة هو إظهار عبادة الله تعالى مع أنّه لا يكون كذلك في نفسه ، لا مطلق الاظهار ولو كان
- (1) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري 2 : 104 ، الأمر الثالث من بحث الرياء .
(الصفحة 311)
مطابقاً لما في نفسه(1) . إنتهى ملخّص موضع الحاجة من كلامه ، زاد الله في علوّ مقامه .
تحقيق حول الرياء والجاه
الظاهر في باب الرياء ما أفاده شيخنا المرتضى(قدس سره) من عدم الفرق في بطلان العمل بين ما إذا كان داخلا في أصل العمل ومرغّباً في عرض داعي الأمر ، سواء كان ضعيفاً أو قويّاً ، وبين ما إذا صار محرّكاً لترجيح بعض الخصوصيات المفردة المقترنة مع الطبيعة في الوجود المكتنفة بها على البعض الآخر .
ودعوى عدم دلالة الأخبار الواردة في باب الرياء على بطلان العمل في الصورة الثانية .
ممنوعة ، خصوصاً مثل قول أبي جعفر(عليه السلام) في رواية زرارة وحمران: «لو أنّ عبداً عمل عملا يطلب به وجه الله والدار الآخرة وأدخل فيه رضى أحد من الناس كان مشركاً»(2) ، أفلا يصدق على مثل ذلك العمل أنّه أدخل فيه رضى أحد من الناس؟ وكذا قول أبي عبدالله(عليه السلام) في رواية عليّ بن سالم: «قال الله تعالى: أنا أغنى الأغنياء عن الشريك ، فمن أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلاّ ما كان خالصاً»(3) .
هذا ، مضافاً إلى أنّ الرياء بحسب الغالب إنّما يكون في الخصوصيات دون أصل الطبيعة ، لأنّه لا يكاد يتحقّق الرياء بالنسبة إلى أصل الإتيان بالصلاة من
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري : 456 ـ 461 .
- (2) المحاسن 1 : 212 ح384; الكافي 2 : 293 ح3; عقاب الأعمال: 289 ح1; الوسائل 1: 67 . أبواب مقدّمة العبادات ب11 ح11 .
- (3) الزّهد: 63 ح167; الوسائل 1: 73 . أبواب مقدّمة العبادات ب12 ح11 .