(الصفحة 347)
وإن وقع في غير محلّه .
والمتابعة وإن لم تكن بعنوانها مأموراً بها في الروايات الصادرة عن العترة الطاهرة «صلوات الله عليهم أجمعين» إلاّ أنه يستفاد اعتبارها من الفروع التي وقع التعرض لها فيها ، بل يستفاد أنّ وجوبها كان مفروغاً بين الرواة ولم يكن لهم ارتياب في ذلك ، فالظاهر بمقتضى ما ذكرنا لزوم المتابعة في المورد المفروض .
ثمّ إنّه لو وقع التخلّف في شيء من الموارد المذكورة مستنداً إلى التعمّد والاختيار دون النسيان أو الزحام والاضطرار ، فهل يوجب ذلك بطلان القدوة أم لا؟ التحقيق أن يقال : إن قلنا باعتبار المتابعة العمليّة في حقيقة القدوة عرفاً ، بحيث لم يمكن تحقّقها بدونها عند العرف ، كما ربّما يحكى ذلك عن الشيخ الأعظم العلاّمة الأنصاري(قدس سره)(1) ، فالتخلّف والاخلال بالمتابعة يوجب اختلال القدوة بلا ارتياب ، إلاّ أنّ هذا القول ممّا لا يساعده الدليل ، ولا ينبغي الالتزام به ، فإنّه لو كانت المتابعة دخيلا في حقيقة القدوة وماهيتها ، لم يكن فرق في ذلك بين صورتي الاختيار والاضطرار أصلا ، مع ظهور الروايات المتقدّمة في بقائها ، وعدم اختلالها بالتخلّف الناشئ عن السهو أو الزحام .
فهذا المعنى ممّا لا يمكن الالتزام به ، اللّهم إلاّ أن يراد أنّ الاخلال بالمتابعة عمداً لا يجتمع مع نيّة الاقتداء المقرونة بالشروع في الصلاة ، ولكنّه يرد عليه أيضاً أنّ عدم إمكان اجتماع ذلك مع تلك النيّة متفرّع على عدم إمكان اجتماعه مع المنويّ ، بل ليست المضادّة والمنافاة إلاّ معه ، ضرورة أنّ النيّة من حيث هي مع قطع النظر عن ملاحظة المنويّ ، لا مضادّة بينها وبين التخلّف والاخلال بالمتابعة العمليّة ، كما هو أوضح من أن يخفى .
- (1) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : 298 .
(الصفحة 348)
نعم ، لو قلنا : بعدم اعتبار المتابعة في حقيقة القدوة عرفاً ، بل باعتبارها فيها شرعاً ، فاللازم الالتزام بعدم تحقّقها مع التخلّف الاختياري فقط ، لدلالة الأدلّة المتقدّمة على عدم قدح الاخلال بها في حالتي السهو والاضطرار .
هذا ولكن هذا المبنى أيضاً عندنا غير صحيح ، لأنك قد عرفت أنّ وجوب المتابعة على ما يعطيه التأمّل في الدليل الدالّ عليه ، لا يكون وجوباً شرطيّاً بحيث يكون لمتعلّقه دخل في الاقتداء شرعاً ، بل لا يكون إلاّ وجوباً نفسياً لا يترتّب على مخالفته سوى الإثم واستحقاق العقوبة .
وممّا ذكرنا يظهر الخلل فيما أفاده صاحب المصباح حيث قال :
والذي يقتضيه التحقيق هو أنه لابدّ في تحقّق مفهوم الائتمام عرفاً أو شرعاً من المتابعة ، ألا ترى أنّه لو سبق المأموم الإمام في مجموع صلاته أو تأخّر عنه كذلك لا يعدّ مؤتمّاً به ، ولكنّه قد يلاحظ الائتمام بالنظر إلى مجموع الصلاة على سبيل الاجمال ، وبهذه الملاحظة يصحّ أن يقال لمن صلّى خلف زيد الظهر مثلا بنيّة الائتمام إذا تابعه في معظم أفعالها : أنه صلّى الظهر مقتدياً بزيد ، وإن تخلف عنه في بعض أفعالها بتقديم أو تأخير .
وقد يلاحظ كونها فعلا تدريجيّاً حاصلا بمتابعة الإمام في أفعالها المتدرّجة ، ففي كلّ جزء تخلّف عنه بتقديم أو تأخير لا يتحقّق بالنسبة إليه الاقتداء ، ولكن لا ينفي ذلك صدق كونه مقتدياً في أصل الصلاة عند ملاحظتها على سبيل الإجمال ، فلا يبطل به الائتمام من أصله ما لم يكن ذلك مقروناً بنية الإعراض عن الجماعة أو بالعزم على الإتيان به كذلك من أوّل الأمر ، بحيث يكون هذا الجزء بنفسه مستقلاًّ بالملاحظة .
فمن نوى الائتمام بشخص في صلاته مقتضاه أن يتابعه في جميع الهيآت الصادرة منه من القيام والقعود والركوع والسجود ، فلو خالفه في شيء منها وهو على هذا
(الصفحة 349)
العزم فقد تعدّى عمّا هو وظيفته من المتابعة ، فهو آثم لكونه مشرّعاً ، ولكن لا تبطل قدوته بذلك ما لم يكن التخلّف بمقدار ينقطع به علاقة الائتمام عرفاً(1) ، إنتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه .
ويرد عليه أنه لا وجه لدعوى اعتبار المتابعة في ماهية الجماعة عرفاً أو شرعاً ، لأنك قد عرفت أنّ مقتضى التأمّل في دليل وجوب المتابعة أنه لا يكون وجوبها إلاّ وجوباً نفسيّاً لا يترتّب على مخالفته سوى الإثم واستحقاق العقوبة ، وقد عرفت أيضاً أنّ معروض وصف الجماعة على حسب ارتكاز المتشرّعة منذ تشريعها الحاصل بتشريع أصل الصلاة ، إنّما هو مجموع الصلاة لا كلّ جزء على سبيل الاستقلال .
فلحاظ الصلاة من حيث اتّصافها بالجماعة تارة على سبيل الاجمال ، واُخرى على نحو التفصيل ، ثمّ دعوى أنّ الاخلال بالمتابعة في جزء موجب لبطلان القدوة في خصوص ذلك الجزء دون غيره من الأجزاء السابقة اللاحقة ممّا لا وجه له ، بعدما عرفت من كون معروض الجماعة هو المجموع ، ولا يقدح بذلك التخلّف عمداً ، فضلا عن السهو والاضطرار .
قراءة المأموم خلف الإمام
هذه المسألة ممّا اختلف فيه الأقوال وتشتّت فيه الآراء ، والتحقيق أنّ الخصوصيّات التي بها يختلف الحكم لا بدّ من النظر فيها مستقلاًّ ، لأجل التعرّض لها في الروايات تصريحاً أو تلويحاً ، فهنا أُمور :
- (1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 648 .
(الصفحة 350)
أحدها :
الركعتان الأوّلتان من الصلوات الجهرية مع عدم سماع صوت الإمام ولو همهمة .
ثانيها :
هذا الفرض مع سماع صوت الإمام .
ثالثها :
الصلوات الإخفاتيّة .
رابعها :
الركعتان الأخيرتان مطلقاً .
وقد وقع الخلاف بين الفقهاء في حكم كلّ من هذه الخصوصيّات(1) ، وهنا خصوصية اُخرى ، وهي كون الإمام مرضيّاً ومقتدى به أو غير مرضيّ لعدم كونه من الإمامية ، ولكن هذه الخصوصيّة خارجة عن محطّ النظر في المقام ، ولعلّه يجىء التكلّم في حكم القراءة خلف من لايقتدى به في ما بعد .
وكيف كان ، فالأخبار الواردة في هذا المقام كثيرة جدّاً ، وقد أوردها في الوسائل في أبواب متعدّدة ، ولكنّها مختلفة من حيث المورد ، لأنّ طائفة منها واردة في الصلاة الجهرية ، واُخرى في الصلاة الإخفاتيّة ، كما أنّ ما ورد منها في الصلاة الجهرية بعضها وارد في حكم القراءة مع سماع صوت الإمام ، وبعضها في حكمها مع عدمه ، كما أنّ بعضاً منها وارد في حكم القراءة في الاخيرتين .
أمّا ما ورد منها في الركعتين الأوّلتين من الصلاة الجهرية مع سماع صوت الإمام فهي كثيرة ، ومدلولها النهي عن القراءة بعضها بالصراحة وبعضها بالاطلاق .
منها :
صحيح الحلبي الذي رواه المشايخ الثلاثة ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه قال : «إذا صلّيت خلف إمام تأتمّ به فلا تقرأ خلفه سمعت قراءَته أم لم تسمع ، إلاّ أن تكون
- (1) الحدائق 11 : 123 ـ 137 ; جواهر الكلام 13 : 181 ـ 200 ; مفتاح الكرامة3 : 445 ـ 459; مستند الشيعة 8 : 74 ـ 92 .
(الصفحة 351)
صلاة تجهر فيها بالقراءة ولم تسمع فاقرأ»(1) .
ومنها :
رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «إن كنت خلف إمام فلا تقرأَنّ شيئاً في الأوّلتين وانصت لقراءَته ولا تقرأنّ شيئاً في الأخيرتين ، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول للمؤمنين :
(وإذا قُرئ القرآن ـ يعني في الفريضة خلف الإمام ـ
فاستمعوا له وانصتوا لعلّكم ترحمون)(2) فالأخيرتان تبعان للأوليين(3) .
ومنها :
رواية زرارة ومحمد بن مسلم قالا : قال أبو جعفر(عليه السلام) : «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول : من قرأ خلف إمام يأتمّ به فمات بعث على غير الفطرة(4)» . والظاهر أنّ النظر في ا لرواية إنّما هو إلى العامّة الذاهبين إلى لزوم القراءة خلف الامام ، فالمراد أنّ ذلك تشريع يوجب البعث على غير الفطرة الاسلاميّة .
ومنها :
رواية المرافقي والبصري عن جعفر بن محمد(عليهما السلام) أنه سئل عن القراءة خلف الإمام ، فقال : إذا كنت خلف الإمام تولاّه وتثق به ، فإنّه يجزيك قراءَته ، وإن احببت أن تقرأ فاقرأ فيما يخافت فيه ، فإذا جهر فأنصت ، قال الله تعالى :
(وانصتوا لعلّكم ترحمون)(5) .
ومنها :
رواية يونس بن يعقوب قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الصلاة خلف من ارتضي به أقرأ خلفه؟ قال : «من رضيت به فلا تقرأ خلفه»(6) .
- (1) الكافي3 : 377 ح2; الفقيه 1 : 255 ح1156; التهذيب 3 : 32 ح115; الاستبصار1 : 428 ح1650; الوسائل 8 : 355 . أبواب صلاة الجماعة ب31 ح1 .
- (2) الأعراف : 204 .
- (3) الفقيه1 : 256 ح1160; السرائر 3 : 585; الوسائل 8 : 355 . أبواب صلاة الجماعة ب31 ح3 .
- (4) الكافي3 : 377 ح6; الفقيه 1 : 255 ح1155; عقاب الأعمال : 274; المحاسن 1 : 158 ح220; التهذيب 3 : 269 ح 770; السرائر 3 : 585; الوسائل 8 : 356 . أبواب صلاة الجماعة ب31 ح 4 .
- (5) التهذيب 3 : 33 ح120; الوسائل 8 : 359 . أبواب صلاة الجماعة ب31 ح15 .
- (6) التهذيب 3 : 33 ح 118; الاستبصار1 : 428 ح1653; الوسائل 8 : 359 . أبواب صلاة الجماعة ب31 ح 14 .