(الصفحة 380)
ومعنى اختياره تعالى أنّه يأمر بضبطه في طومار العمل وبالثواب عليه في الآخرة ، وإلاّ فهو تعالى غنيّ لا يفتقر إلى أعمالنا ولا عائدة فيها إليه ، وليس المراد باختيار الأحبّ ومحبوبيّة الأفضل والأتمّ أنّ غيره من التام والمفضول لا يترتّب عليه ثواب أصلاً ، ويصير بعد اختيار الأحبّ كأنّه لم يصدر ، بل الظاهر ترتّب الثواب عليه أيضاً ، غاية الأمر أنّ ما يتحقّق به الامتثال ويسقط به الأمر يجعل ما هو الأكمل والأتمّ .
وكيف كان ، فمقتضى هذا التعبير أنّ الاختيار في ذلك إلى الله وهو لا يختار إلاّ الأتم . وأمّا قوله(عليه السلام) : «يجعلها الفريضة» ، فإن لم يكن معلّقاً على مشيئة المصلّي كما في رواية حفص ، فظاهره أنّه يكون المكلّف مخيّراً في الصلاة المعادة بين أن ينويها نفس الفريضة التي صلاّها منفرداً ، وبين أن ينويها صلاة اُخرى من قضاء أو غيرها .
وأمّا مع التعليق على المشيئة كما في رواية ابن سالم ، فظاهره أنّ المكلّف مخيّر بين أن يجعل فريضته التي أمر بإتيانها هذه التي أتى بها ثانياً ، وبين أن يجعلها تلك التي أتى بها منفرداً ، ومرجع ذلك إلى أنّ الاختيار بيد المصلّي من حيث تعيين ما به يتحقّق الامتثال .
اللّهم إلاّ أن يكون المراد من جعل الثانية فريضة ، ما ذكرنا في معنى رواية حفص ، نظراً إلى أنّه لا فرق في ذلك بين التعليق على المشيئة وعدمه ، ولو لم يكن ظاهراً في ذلك لوجب الحمل عليه ، لئلاّ يعارض مع ما يدلّ على أنّ الاختيار بيد الله وأنّه يختار أحبّهما وأفضلهما .
نعم ، يبقى في المقام; الكلام في الامتثال عقيب الامتثال ، ولقد أجاب عن هذا الإشكال بعض الأعاظم من المعاصرين في كتابه في الصلاة بما حاصله : إنّ الطبيعة المتعلّقة للأوامر بملاحظة صرف الوجود تنقسم باعتبار الغرض الداعي إليها على
(الصفحة 381)
قسمين :
1 ـ
ما يكون وجود الطبيعة محصّلاً لغرضه الأصلي ، كما إذا أمر المولى بإحضار الماء وكان غرضه حضور الماء عنده آناً مّا ، فإذا أحضر الماء عنده سقط الغرض الأصلي .
2 ـ
ما يكون وجود الطبيعة توطئة لتحصيل الغرض الآخر وإن كان العبد غير مأمور إلاّ بإيجاد الطبيعة المفروضة ، كما إذا أمر باحضار الماء لغرض الشرب ، فإنّ إحضار الماء حينئذ وإن كان موجباً لسقوط الأمر ، ولكنّه لو أتى ثانياً بفرد آخر من الماء بملاحظة أنّه أحلى من الأوّل يكون مقرّباً عقلاً كما هو واضح .
وهذا المثال الذي ذكروا إن كان في الموالي العرفيّة بالنسبة إلى عبيدهم ، وهي تفارق مع الأمر الشرعي من حيث أنّه ليس الأوامر الشرعيّة منبعثة عن أغراض الآمر وحصول المنافع لنفسه تعالى ، إلاّ أنّه يمكن تصوير كلا القسمين في الأغراض الراجعة إلى العبيد التي صارت موجبة لأمر الشارع(1) ، انتهى .
والحكم بالنسبة إلى الأوامر العرفيّة صحيح كما أفاده(قدس سره) ، إلاّ أنّ تطبيقها على الأوامر الشرعيّة مع عدم كون الغرض المترتّب على المأمور بها راجعاً إلى المولى أصلاً ، بل الغرض يرجع إلى كمال العبد وارتقائه في غاية الإشكال ، فتأمّل .
الاقتداء بمن يصلّي عن الغير
هل يجوز الاقتداء بمن يصلّي عن الغير ـ إمّا لكونه وليّاً بالنسبة إليه ، وإمّا لكونه أجيراً لأن يصلّي عنه ـ أم لا؟
قد يقال بالجواز نظراً إلى أنّ العمل الصادر عن الولي أو النائب إنّما هو صادر
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري : 533 .
(الصفحة 382)
عن كلّ واحد منهما حقيقة ، ولا يكون العمل إلاّ عملاً له ولا يجعل النائب عمله عمل الغير تنزيلاً ، بحيث كأنّه صدر من ذلك الغير حتّى لا يجوز الاقتداء به ، لعدم كون العامل أهلاً للاقتداء به ، بل العمل عمل للنائب حقيقة ، ولا يعتبر إلاّ كذلك واستحقاق الأجرة في صورة الاستيجار ليس إلاّ بلحاظ كونه صادراً بنيّة الغير ، فالأجرة ليست في مقابل نفس العمل ، بل إنّما هي في مقابل إصداره بتلك النيّة .
وربّما يؤيّد ذلك ما ورد في شأن بعض الواجبات الإلهيّة من أنّه دين الله(1) ، بضميمة أنّ الاعتبار في باب دين الخلق ، إنّه كما أنّ المديون له السلطنة على إفراغ ذمّته من الدين وجعل الكلّي المتعلّق بعهدته مشخّصاً في فرد يدفعه إليه بعنوان إداء الدين ، كذلك هذه السلطة ثابتة لغير المديون ، فإنّ له أن يفرغ ذمّته بأداء دينه تبرّعاً ، وجعلت له هذه السلطنة أيضاً ، فيمكن له أن يجعل الكلّي المتعلّق بعهدة المديون مشخّصاً في فرد يدفعه بذلك العنوان .
فيقال في العرف : إنّه قضى عن فلان دينه ، ولكن ذلك لا يوجب أن يعتبر العمل عملاً صادراً عن المديون ، بل العمل إنّما يعتبر عملاً للمتبرّع ، غاية الأمر إنّه حيث أتى به بنيّة سقوط الدين عن الغير ، وصار في النتيجة مثل العمل الصادر عن نفس المديون ، فعمله يشترك مع العمل الصادر عن المديون في الأثر المترتّب عليه ، وإلاّ فهما مختلفان من جهة القيام الصدوري ، ومن يصدر عنه العمل ، فيقال في المقام الذي هو دين الله ، أنّ العمل الصادر عن النائب يحسب عملاً له لا للغير ، غاية الأمر أنّ إصداره كان لأجل الغير وإفراغ ذمّته من التكليف المتوجّه إليه من جهة الخالق ، فلا فرق بين دين الخلق ودين الخالق من هذه الجهة أصلاً .
هذا ، ولكنّ الظاهر أنّ الحكم بجواز الاقتداء بمثل من ذكر في غاية الاشكال ،
- (1) الوسائل 1 : 15 و 20 . أبواب مقدّمة العبادات ب1 ح4 و20 وج16 : 209 . أبواب الأمر والنهي ب24 ح19 وص215 ب25 ح4 .
(الصفحة 383)
لأنّه مضافاً إلى أنّه يحتمل أن يكون الاعتبار في باب عمل النائب أن يكون عملاً للمنوب عنه ويحسب فعلاً له تنزيلاً ، يدلّ على عدم الجواز أنّه ليس لنا في باب الجماعة دليل مطلق حتّى يؤخذ باطلاقه ، بل العمدة هي السيرة التي مبدؤها قدوم النبيّ(صلى الله عليه وآله) المدينة المنوّرة ، بل قبله كما عرفت سابقاً ، واستمرار السيرة بعده ، ولم ينقل لنا انعقاد جماعة كان الإمام فيها مؤدّياً للصلاة عن الغير(1) .
هذا ، وأنّه لا محيص في مسألة النيابة الاستيجاريّة من أن يقال : إنّ عمل الأجير منطبق عليه عنوانان :
أحدهما :
عنوان الوفاء بعقد الاجارة الذي هو متعلّق للأمر الوجوبيّ المتوجّه إلى الأجير بسبب الاجارة ، ولا محالة يحسب الفعل بهذا الاعتبار فعلاً للأجير ، لأنّه يحبّب عليه الوفاء بعقد الاجارة ، ولا يتحقّق الوفاء إلاّ باتيان العمل المستأجر عليه .
ثانيهما :
العنوان الذي يكون متعلّقاً للأمر الوجوبيّ المتوجّه إلى المنوب عنه ، ولا محالة يحسب فعل الأجير بهذا الاعتبار فعلاً للمنوب عنه ، وإلاّ لما كان مسقطاً للتكليف المتوجّه إليه ، ففعل الأجير ينطبق عليه عنوانان ، نظير سائر الموارد التي يكون الفعل الواحد منطبقاً عليه عنوانان متعلّقان لحكمين متماثلين أو مختلفين .
والفرق بين المقام وبين تلك الموارد أنّ في تلك الموارد يكون الحكمان المتعلّقان بالعنوانين المتغايرين مفهوماً متوجّهين إلى شخص واحد هو الموجد للفعل ، وهنا يكون أحد الحكمين متوجّهاً إلى المنوب عنه والآخر إلى النائب ، وقد تحقّق متعلّقاهما في فعل واحد صادر من الأجير ، فلا محالة لابدّ من أن يحسب فعلاً
- (1) ولذا قال سيّدنا العلاّمة الاُستاذ (أدام الله أظلاله على رؤوس المسلمين) : إنّه قد كان الحكم بالجواز مشكلاً عندنا من أوّل الأمر ، ولذا استشكلنا فيه في حاشية كتاب منتخب الرسائل للمرحوم المحقّق اليزدي صاحب العروة الذي هو أوّل كتاب علّقنا عليه . «المقرّر» .
(الصفحة 384)
للأجير والمستأجر معاً .
فباعتبار كونه وفاء لعقد الاجارة يحسب فعلاً للأجير ، وباعتبار كونه صلاة أو صياماً أوحجّاً أو نحوها يحسب فعلاً للمستأجر ، والذي يعتبر فيه قصد التقرّب هو متعلّق الأمر الوجوبيّ المتوجّه إلى المستأجر ، وأمّا الوجوب المتوجّه إلى الأجير فلايكون تعبّدياً .
هذا آخر ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ ـ دام ظلّه الوارف ـ في مبحث الصلاة ، وقد وقع الفراغ من تسويده في شهر جمادى الاُولى من شهور سنة 1378 من الهجرة النبويّة ، بيد الفقير إلى الله الغني ، محمّد الموحدي اللنكراني عفى عنه ، والحمد لله ربّ العالمين والصلاة على نبيّنا وعترته أجمعين .