(صفحه118)
يعتمد عليه العقلاء في محاوراتهم وإثبات مقاصدهم، بل هي عندهم كالعلم ليعتنون باحتمال مخالفة الطريق للواقع ... ولابدّ في الأمارة من أن يكون لهجهة كشف عن الواقع كشفاً ناقصاً، فللشارع تتميم كشفها ولو إمضاء بإلقاءاحتمال الخلاف في عالم التشريع، كما ألقى احتمال الخلاف في العلم في عالمالتكوين؛ فكأنّ الشارع أوجد في عالم التشريع فرداً من العلم، وجعل الطريقمحرزاً للواقع كالعلم، بتتميم نقص كشفه وإحرازه، ولذا قامت الطرقوالأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقيّة.
وإذا عرفت حقيقة المجعول في باب الطرق والأمارات وأنّ المجعول فيهنفس الوسطيّة في الإثبات ظهر لك أنّه ليس في باب الطرق والأمارات حكمحتّى ينافي الحكم الواقعي ليقع في إشكال التضادّ أو التصويب، بل ليس حالالأمارة المخالفة إلاّ كحال العلم المخالف، فلا يكون في البين إلاّ الحكم الواقعيفقط مطلقاً، أصاب الطريق الواقع أو أخطأ، فإنّه عند الإصابة يكون المؤدّىهو الحكم الواقعي كالعلم الموافق، ويوجب تنجيز الواقع وصحّة المؤاخذةعليه، وعند الخطأ وعدم الإصابة يوجب المعذوريّة وعدم صحّة المؤاخذةعليه كالعلم المخالف من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول. هذا ملخّصكلامه قدسسره .
ويتحقّق في هذا الكلام ما يكون صحيحاً عندنا من عدم تحقّق حكمتكليفي مجعول على طبق مفاد الطرق والأمارات، وأنّه ليس فيما بأيدينا منالطرق والأمارات ما لا يعتمد عليه العقلاء في محاوراتهم.
ولعلّه يستفاد من صحيحة أبي يعفور الواردة في معنى العدالة أنّ حسنالظاهر أمارة معتبرة شرعيّة لإحراز العدالة وإن لم يفد المظنّة، مع أنّه لايكونمعتبراً عند العقلاء ظاهراً، وعلى هذا تكون النسبة بين الأمارة الشرعيّة
(صفحه 119)
والعقلائيّة عموم من وجه.
ولكن مع ذلك يرد عليه: أوّلاً: أنّ عطف الطريقيّة والكاشفيّة على الحجّيةليس بصحيح، فإنّ الحجّية قابلة للجعل بخلافهما، فإنّهما من الاُمور التكوينيّة،وما هو حاصل تكويناً لا معنى لجعله الشرعي لارتباطه كحرارة الناربالخالقيّة، فالأثر التكويني للقطع والظنّ هو الكشف التامّ أو الناقص، وهكذعنوان الوسطيّة في الإثبات.
وثانياً: أنّ مقايسة الأمارة الشرعيّة بالقطع ليست بصحيح، فإنّ العملبالعلم المخالف للواقع إنّما هو ضرورة يبتلى بها المكلّف لقصور منه، ويكونمعذوراً عقلاً في مخالفة الواقع، ولايرتبط بجعل الحجّية للقطع من الشارع،وهذا بخلاف جعل الحجّية للأمارة المخالفة للواقع ولو إمضاءً، فإنّه ينتهي إلىترخيص من الشارع في مخالفة الأحكام الواقعيّة الفعليّة كما ذكرناه في جوابالمحقّق الخراساني قدسسره ، فكيف يكون هذا قابلاً للتوجيه؟!
وأمّا الاُصول المحرزة فقال قدسسره : فالأمر فيها مشكل، وأشكل منها الاُصولغير المحرزة كأصالة الحلّ والبراءة، فإنّ الاُصول بأسرها فاقدة للطريقيّة لأخذالشكّ في موضوعها، والشكّ ليس فيه جهة إراءة وكشف عن الواقع حتّىيقال: إنّ المجعول فيها تتميم الكشف، فلابدّ وأن يكون في مورد الاُصول حكممجعول شرعي، فيلزمه التضادّ بينه وبين الحكم الواقعي عند مخالفة الأصل له.
هذا، ولكنّ الخطب في الاُصول التنزيليّة هيّن؛ لأنّ المجعول فيها هو البناءالعملي على أحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر وجعلهكالعدم، ولأجل ذلك قامت مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجهالطريقيّة... فالمجعول في الاُصول التنزيليّة ليس أمراً مغايراً للواقع، بل الجعلالشرعي إنّما تعلّق بالجري العملي على المؤدّى على أنّه هو الواقع، كما يرشد
(صفحه120)
إليه قوله عليهالسلام في بعض أخبار قاعدة التجاوز «بلى قد ركعت»(1)، فإن كانالمؤدّى هو الواقع فهو، وإلاّ كان الجري العملي واقعاً في غير محلّه من دون أنيكون قد تعلّق بالمؤدّى حكم على خلاف ما هو عليه.
ويرد عليه: أنّ المنافاة لا ترتفع بهذا الحلّ ـ كما مرّ منّا مراراً ـ فإنّالترخيص في ترك الركوع بمقتضى قوله عليهالسلام : «بلى قد ركعت» مع أنّه لم يركعخارجاً لا يجتمع مع تعلّق الإرادة الجدّية القطعيّة بجزئيّة الركوع للصلاةبصورة الجزئيّة المطلقة، وأنّ تركه نسياناً أيضاً يوجب بطلان الصلاة، ففيالواقع ترك الركوع مستند إلى ترخيص الشارع وحكمه بأنّك قد ركعت،فيعود الإشكال.
وأمّا الاُصول غير المحرزة كأصالة الاحتياط والحلّ والبراءة فقال قدسسره : قدعرفت أنّ الأمر فيها مشكل، فإنّ المجعول فيها ليس الهوهويّة والجري العمليعلى بقاء الواقع، بل مجرّد البناء على أحد طرفي الشكّ من دون إلقاء الطرفالآخر والبناء على عدمه، بل مع حفظ الشكّ يحكم على أحد طرفيه بالوضعأو الرفع، فالحرمة المجعولة في أصالة الاحتياط، والحلّية المجعولة في أصالة الحلّتناقض الحلّية والحرمة الواقعيّة على تقدير تخلّف الأصل عن الواقع، بداهة أنّالمنع عن الاقتحام في الشيء كما هو مفاد أصالة الاحتياط أو الرخصة فيه كمهو مفاد أصالة الحل، ينافي الجواز في الأوّل والمنع في الثاني.
ثمّ قال في مقام الجواب عنه: إنّ للشكّ في الحكم الواقعي اعتبارين:
أحدهما: كونه من الحالات والطوارئ اللاّحقة للحكم الواقعي أوموضوعه كحالة العلم والظنّ، وهو بهذا الاعتبار لا يمكن أخذه موضوعلحكم يضاد الحكم الواقعي؛ لانحفاظ الحكم الواقعي عنده.
- (1) الوسائل 6: 317، الباب 13 من أبواب الركوع، الحديث 3.
(صفحه 121)
ثانيهما: اعتبار كونه موجباً للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلاً إليهومنجّزاً له، وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعاً لما يكون متمّماً للجعلومنجّزاً للواقع وموصلاً إليه، كما أنّه يمكن أخذه موضوعاً لما يكون مؤمّناً عنالواقع حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمريّة ومناطات الأحكامالشرعيّة، فلو كانت مصلحة الواقع مهمّة في نظر الشارع كان عليه جعل المتمّمكمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه، فإنّه لمّا كان حفظ نفس المؤمن أولىبالرعاية وأهمّ في نظر الشارع من مفسدة حفظ دم الكافر اقتضى ذلك تشريعحكم ظاهري طريقي بوجوب الاحتياط في موارد الشكّ، حفظاً للحمىوتحرّزاً عن الوقوع في مفسدة قتل المؤمن، وهذا الحكم الظاهري إنّما يكون فيطول الحكم الواقعي، نشأ عن أهمّية المصلحة الواقعيّة... ولا مضادّة بينهما، فإنّالمشتبه إن كان ممّا يجب حفظ نفسه واقعاً فوجوب الاحتياط يتّحد معالوجوب الواقعي ويكون هو هو، وإن لم يكن المشتبه ممّا يجب حفظه فلا يجبالاحتياط لانتفاء العلّة، وإنّما المكلّف يتخيّل وجوبه لعدم علمه بحال المشتبه.
ولايخفى أنّ هذا الذيل من طغيان قلمه قدسسره ولايكاد ينبغي من مثله، فإنّموضوع وجوب الاحتياط هو المشتبه، سواء انكشف الواقع فيما بعد أم لا،وموضوع وجوب الحفظ هي نفس المسلم، وانكشاف الواقع لا يكون كاشفعن عدم تعلّق وجوب الاحتياط على المشتبه من الشارع.
ثمّ قال قدسسره : هذا كلّه إذا كانت مصلحة الواقع تقتضي جعل المتمّم من إيجابالاحتياط، وإن لم تكن المصلحة الواقعيّة تقتضي ذلك ولم تكن بتلك المثابة منالأهمّية بحيث يلزم الشارع رعايتها كيفما اتّفق، فللشارع جعل المؤمّن، سواءكان بلسان الرفع كقوله صلىاللهعليهوآله : «رفع ما لا يعلمون» أو بلسان الوضع كقوله صلىاللهعليهوآله :«كلّ شيء لك حلال»، فإنّ المراد من الرفع في قوله صلىاللهعليهوآله : «رفع ما لا يعلمون»
(صفحه122)
ليس رفع التكليف عن موطنه حتّى يلزم التناقض، بل رفع التكليف عمّيستتبعه من التبعات وإيجاب الاحتياط، فالرخصة المستفادة من قوله صلىاللهعليهوآله :«رفع ما لا يعلمون» نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلبيان، فكما أنّ الرخصة التي تستفاد من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لتنافي الحكم الواقعي ولا تضادّه، كذلك الرخصة التي تستفاد من قوله صلىاللهعليهوآله :«رفع ما لا يعلمون».
والسرّ في ذلك: هو أنّ هذه الرخصة تكون في طول الحكم الواقعي ومتأخّررتبتها عنه؛ لأنّ الموضوع فيها هو الشكّ في الحكم من حيث كونه موجبللحيرة في الواقع وغير موصل إليه ولا منجّز له، فقد لوحظ في الرخصة وجودالحكم الواقعي، ومعه كيف يعقل أن تضادّ الحكم الواقعي؟!
وبالجملة، الرخصة والحلّية المستفادة من حديث الرفع وأصالة الحلّ تكونفي عرض المنع والحرمة المستفاد من إيجاب الاحتياط، وقد عرفت أنّ إيجابالاحتياط يكون في طول الواقع ومتفرّعاً عليه، فما يكون في عرضه يكون فيطول الواقع أيضاً، وإلاّ يكون ما في طول الشيء في عرضه. هذا تمام كلامه قدسسره بتلخيص وإيجاز.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ ما ذكره من الاعتبارين للشكّ في الحكم الواقعي، وأنّباعتبار كونه من الطوارئ والعوارض للحكم الواقعي لا يمكن أخذه موضوعلحكم آخر، وأمّا باعتبار كونه موجباً للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلاً إليهفيمكن أخذه موضوعاً لما يكون متمِّماً أو مؤمّناً لكونه بهذا الاعتبار متأخّرعن الحكم الواقعي، فليس بصحيح.
فإنّ الشكّ باعتبار الأوّل أيضاً متأخّر عن الحكم الواقعي، ويشهد لهالتعبير بالعوارض والطوارئ، فإنّ كلّ عارض متأخّر عن المعروض ولو