(صفحه136)
ثمّ إنّه رتّب على هذا التفصيل ثمرة انسداد باب العلم والعلمي في معظمالأحكام الشرعيّة؛ لأنّ ظواهر الكتاب والأخبار ليست حجّة من باب الظنّالخاصّ في حقّنا، وذلك لاختصاص حجّيتها بالمشافهين والمقصودين بالإفهام،فإنّ خطابات القرآن غير متوجّهة إلينا، والروايات أكثرها أجوبة عنالأسئلة، فهي موجّهة إلى خصوص الرواة السائلين دون غيرهم، وعليهفيكون العمل بالآيات والأخبار من باب الظنّ المطلق الذي هو حجّة بدليلالانسداد.
وجوابه: أوّلاً: أنّ أساس حجّية الظواهر هو بناء العقلاء، وبعد الرجوعإليهم يستفاد عدم الفرق بين من قصد بالإفهام وغيره في حجّية الظواهر،ويدلّ عليه عدم الفرق في سبّ الإنسان بين حضوره وغيابه عندهم، وهكذصحّة الشهاده بالإقرار من كلّ أحد سمع ذلك الإقرار، فإذا سمع زيد شخصيقول: «لعمرو عليّ مائة تومان» يصحّ لزيد أن يشهد بالإقرار وإن لم يكنمقصوداً بالإفهام، ونستكشف من ذلك عموم بناء العقلاء في الأخذ بالظواهر.
وثانياً: أنّ الثمرة التي رتّبها على كلامه ـ من عدم حجّية ظواهر الكتابوالروايات المتضمّنة للجواب والسؤال إلاّ من باب الظنّ المطلق وطريق دليلالانسداد ـ ليست بصحيحة وإن كان أصل التفصيل صحيحاً، فإنّ الخطاباتالقرآنيّة وإن كانت مختصّة بالحاضرين في مجلس التخاطب فقط إلاّ أنّ هذا ليستلزم اختصاص من قصد بالإفهام أيضاً بهم؛ إذ يمكن أن يكون المخاطبخاصّاً، والمقصود بالإفهام عامّاً بحيث يشمل جميع المؤمنين إلى يوم القيامة،والنسبة بين هذين العنوانين عموم من وجه لا التساوي، مع أنّ الراوة كانويتعلّمون الأحكام لا لعمل أنفسهم وابتلائهم بها فقط، بل الغرض انتقالها إلىالآخرين لينشروا أحكام الإسلام وحفظها للحوزات الشيعيّة والمجامع العلميّة
(صفحه 137)
في عصر الغيبة، فلامجال لتوهّم حجّية ظواهر الكتاب والروايات من طريقالظنّ المطلق وجداناً وإنصافاً، ولا فرق بين آية الصوم وآية الحجّ في العموميّةعند العقلاء.
القول الخامس: التفصيل بين ظواهر الكتاب وظواهر الروايات بحجّيةالثاني دون الأوّل، هذا هو مختار أصحابنا الأخباريّين.
ونذكر أوّلاً أدلّة حجّية ظواهر الكتاب، ثمّ الجواب عن شبهاتالأخباريّين.
وتستفاد حجّية ظواهر الكتاب من وجوه متعدّدة بعد ملاحظة عدم اتّخاذالشارع طريقاً خاصّاً للتفهيم والتفهّم سوى الطريق المتداول بين العقلاء فيمحاوراتهم من الأخذ بظواهر الكلام:
الأوّل: أنّ الغرض من نزول القرآن تفهيم الناس معانيه والعمل به كيينالوا السعادة الدنيويّة والاُخرويّة، وينجوا من الهلكة الأبديّة، فإنّ القرآن هو:«تِبْيَـنًا لِّكُلِّ شَىْءٍ»(1)، و«كِتَـبٌ أَنزَلْنَـهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّـلُمَـتِإِلَى النُّورِ»(2)، و«وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ»(3)، ولايخفى أنّ ظواهر الكتابمن محكماته لا متشابهاته، فلا محالة تكون ظواهر الكتاب حجّة، وإلاّ كيفيكون كتاب الهداية والموعظة والمخرج إلى النور؟!
الوجه الثاني: أنّ القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لرسول اللّه صلىاللهعليهوآله إلى يومالقيامة، وقد تحدّى جميع البشر من الأوّلين والآخرين على أن يأتوا بمثله،فقال سبحانه وتعالى: «قُل لَّـلـءِنِ اجْتَمَعَتِ الاْءِنسُ وَ الْجِنُّ عَلَىآ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِهَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِى وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا»(4) ونحو ذلك،
(صفحه138)
ومعلوم أنّ التحدّي وتحريك المخالفين بالإتيان بمثل القرآن دليل على حجّيةظواهر الكتاب، فإنّ الإتيان بمثله متوقّف على فهم القرآن والالتفات إلىمفاهيمه، ولو لم تفهم مقاصد القرآن من ألفاظه وكان من قبيل الرموز والألغازالتي لا تفهم ولا تُعرف فلا مجال للتحدّي.
الوجه الثالث: المتواتر عند الخاصّة والعامّة أنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله قال: «إنّيتارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي،وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض»(1)، ومعلوم أنّ معنى التمسّك بكتاباللّه ليس مجرّد الاعتقاد بأنّه نازل من عند اللّه تعالى، وأنّه معجزة خالدةلرسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، بل معنى التمسّك به الموجب لعدم تحقّق الضلالة هو الأخذ به،والعمل بما فيه، وجعله إماماً في جميع شؤون الحياة، وهذا كلّه لا يجتمع مععدم حجّية ظواهر الكتاب.
الوجه الرابع: الروايات الكثيرة الدالّة على عرض الأخبار الواصلة إلينعلى الكتاب وطرح ما خالف منها، كقوله عليهالسلام : «ما خالف قول ربّنا لم نقله»(2)،ومعلوم أنّ تعيين المخالف عن غيره وتمييزه عمّا سواه قد اُوكل إلى فهم العرف،فإنّهم هم المرجع في تشخيص ذلك، وعليه فلا محيص من حجّية ظواهرالكتاب، وإلاّ كيف يمكن للعرف تشخيص المخالف عن غيره؟!
ولايخفى أنّ هذه الضابطة تختصّ بالموارد المشكوكة، وإلاّ فبعد إثباتصدور الرواية عن المعصوم عليهالسلام ولو بواسطة خبر الواحد لابدّ من الأخذ بهوإن كانت مخالفة لظاهر الكتاب.
الوجه الخامس: الأخبار الواردة في ردّ الشروط المخالفة للكتاب، منها:
- (1) الوسائل 27: 33 ـ 34، الباب 5 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
- (2) اُنظر: الوسائل 27: 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.
(صفحه 139)
صحيحة عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: سمعته يقول: «من اشترطشرطاً مخالفاً لكتاب اللّه فلا يجوز له، ولايجوز على الذي اشترط عليه،والمسلمون عند شروطهم ممّا وافق كتاب اللّه عزّوجلّ»(1).
والمرجع في تشخيص الشرط المخالف هو العرف، وهو لا يقدر على ذلك إلبعد الرجوع إلى الكتاب وفهم مقاصده من ظواهره.
الوجه السادس: الروايات التي تدلّ بوضوح على أنّ الأئمّة عليهمالسلام أرجعوالرواة إلى القرآن الكريم، منها: ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال: قلتلأبي جعفر: ألا تخبرني من أين علمت وقلت: إنّ المسح ببعض الرأس وبعضالرجلين؟ فأجاب عليهالسلام : «لمكان الباء في قوله تعالى: «فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْوَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ»(2)»(3).
ومن المعلوم أنّ السؤال كان لأجل عدم الالتفات إلى وجود الباء، لا لأجلعدم ظهور الباء في التبعيض عند السائل، وإلاّ لما صحّ الاقتصار في مقامالجواب بقوله عليهالسلام : «لمكان الباء» من دون التنبيه على ظهورها في التبعيض.
أدلّة القائلين بعدم حجّية ظواهر الكتاب:
لايخفى أنّ بعض هذه الأدلّة ناظر إلى منع الصغرى، يعني إنكار أصلالظهور للكتاب، وبعضها الآخر ناظر إلى منع الكبرى، يعني إنكار حجّيةظواهر الكتاب.
الدليل الأوّل: أنّ الأخذ بظاهر الكتاب من التفسير بالرأي، وقد نهتالروايات الكثيرة عن تفسير القرآن بالرأي، كقوله عليهالسلام : «من فسّر القرآن برأيهفليتبوّأ مقعده من النار»(4).
- (1) الوسائل 18: 16، الباب 6 من أبواب الخيار، الحديث 1.
- (3) الوسائل 1: 412، الباب 23 من أبواب الوضوء، الحديث 1.
(صفحه140)
وهو ظاهر في أنّ حمل ألفاظ القرآن على مصاديقها الظاهرة تفسير بالرأي،ومعلوم أنّ ظاهر الروايات حجّة، وإن كان المصداق المتيقّن للتفسير بالرأيهو تفسير متشابهات القرآن ومجملاته.
وجوابه: أوّلاً: أنّ التفسير بحسب اللغة والعرف هو كشف القناع وإظهارأمر مستور، فلا يكون منه حمل اللفظ على ظاهره؛ لأنّه ليس بمستور حتّىيكشف.
وثانياً: سلّمنا أنّ حمل اللفظ على ظاهره من التفسير إلاّ أنّه ليس منالتفسير بالرأي حتّى يكون مشمولاً للروايات الناهية، وإنّما هو تفسير بميفهمه العرف من اللفظ.
وثالثاً: لو سلّم شمول الروايات الناهية بإطلاقها لحمل اللفظ على ظاهرهلكونه من التفسير بالرأي، إلاّ أنّه لا محيص عن حمل الأخبار الناهية على غيرالظواهر، واختصاصها بالموارد المتيقّنة من التفسير بالرأي، وذلك لما هومقتضى الجمع بينها وبين الأخبار المتقدّمة التي يستفاد منها حجّية ظواهرالكتاب.
الدليل الثاني: أنّه لاشكّ في أنّ القرآن الكريم قد منع عن العمل بالمتشابه،فقال عزّ من قائل: «مِنْهُ ءَايَـتٌ مُّحْكَمَـتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَـبِ وَأُخَرُ مُتَشَـبِهَـتٌفَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـبَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَتَأْوِيلِهِى»(1)، والمتشابه هو ما كان ذا احتمالين فيشمل الظواهر، ولا أقلّ مناحتمال شمول المتشابه للظواهر، وهو يكفي في الحكم بعدم الحجّية.
وجوابه: أنّ المراد من شمول المتشابه للظواهر إن كان أنّه صريح في
- (1) عوالي اللئالي 1: 434.