البيان وقيام الحجّة هنا، وهي أدلّة الاحتياط، والاُصولي ذهب إلى عدمها.
ومن هنا لابدّ أن نميّز بين قسمين من الأدلّة القائمة على جريان البراءة:القسم الذي يكون معارضاً لأدلّة الأخباريّين، والقسم الذي هو أدلّةالاحتياط التي تكون على تقدير تماميّتها حاكمة عليه، ومن الواضح أنّ الذيينفع الاُصولي هو القسم الأوّل الدالّ على عدم تماميّة البيان وعدم قيام الحجّةعلى التكليف المعارض لأدلّة وجوب الاحتياط، وأمّا القسم الثاني فلا ينفعالاُصولي شيئاً؛ إذ مفاده هو بيان الكبرى من قبح العقاب بلا بيان المتّفق عليهبين الطرفين.
المقام الأوّل: في أدلّة الاُصوليّين على البراءة
وهي أربعة:
الدليل الأوّل: الكتاب
واستدلّ بآيات منه:
الآية الاُولى: قوله تعالى: «مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِى وَ مَن ضَلَّفَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَرَسُولاً»(1).
دلّت الآية الشريفة على نفي العقاب بمخالفة التكليف غير الواصل للمكلّف؛إذ بعث الرسول كناية عن إيصال الأحكام وبيانها للعباد.
وقد اُورد على الاستدلال بها بوجوه:
الأوّل: ما عن الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره (2) من أنّ ظاهر الآية هوالإخبار بوقوع العذاب سابقاً بعد البعث، فتختصّ الآية بالعذاب الدنيويالواقع في الاُمم السابقة، فلا تشمل نفي العقاب الاُخروي لأجل عدم البيان.
وفيه: أوّلاً: أنّه لا يوجد في الآية ما يدلّ على تقييد العذاب بالدنيوي عد
(صفحه 217)
استعمال فعل الماضي في قوله تعالى «وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ»، إلاّ أنّ سياقه ليس هوالإخبار عن الاُمم السابقة، بل سياقه نفي الشأنيّة، حيث ليس من شأنه تعالىأن يعذّب الناس قبل البيان وإتمام الحجّة، وهذه سنّة اللّه من دون فرق بينالاُمم السابقة واللاّحقة ولا بين الدُّنيا والآخرة.
وثانياً: أنّ الآية الشريفة تناسب إرادة معنى عاماً بلحاظ وقوعها بينالآيات الدالّة على العذاب الاُخروي والدنيوي، فإنّ الآية المتقدّمة عليها قولهتعالى: «وَ كُلَّ إِنسَـنٍ أَلْزَمْنَـهُ طَـآلـءِرَهُو فِى عُنُقِهِى وَ نُخْرِجُ لَهُو يَوْمَ الْقِيَـمَةِ كِتَـبًيَلْقَـلـهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَـبَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا»(1).
والآية المتأخّرة عنها قوله تعالى: «وَ إِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَفَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَـهَا تَدْمِيرًا»(2)، فتكون الآية الشريفةصالحة للاستدلال بها بلحاظ إرادة المعنى العام منها.
وثالثاً: سلّمنا أنّ المراد من الآية هو الإخبار عن عدم وقوع العذاب علىالاُمم السابقة في الدنيا إلاّ بعد البيان بقرينة التعبير بلفظ الماضي، إلاّ أنّ دلالةالآية على نفي العذاب الاُخروي ـ الذي هو أشدّ بمراتب من العذاب الدنيوي ستكون بطريق أولى، وبالأولويّة التي يستفادها العقل والعرف يتمّ المطلوب.
الوجه الثاني: ما عن المحقّق الخراساني قدسسره (3) من أنّ صحّة التمسّك بالآيةمبنيّة على عدم استحقاق العقاب الذي هو ملاك البراءة، ولكنّها لا تدلّ إلعلى نفي الفعليّة، وعدم الفعليّة أعمّ من أن يكون لأجل عدم الاستحقاق أولأجل عفوه ولطفه تعالى للعباد مع استحقاقهم للعذاب. وعليه فلا يؤمّن فاعلالشبهة من العذاب الاُخروي؛ إذ المفروض أنّ نفي فعليّة العذاب لا ينفي
- (3) كفاية الاُصول 2: 167.