(صفحه252)
الضدّين بعدم الضدّ الآخر حدوثاً أو بقاءً؛ إذ على الأوّل يلزم حمل الخبر علىما هو كالبديهي الذي لا يناسب شأن الإمام عليهالسلام وعلى الثاني يلزم مقدّميّة عدمأحد الضدّين للضدّ الآخر، وقد أثبتنا استحالة ذلك في مبحث الضدّ.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ الأحكام الشرعيّة وإن كانت تابعة للمصالح والمفاسد،ولكن ليس من الضروري أن تكون تلك المصالح والمفاسد كامنة في نفسالموضوعات حتّى يكون الاقتضاء واللا اقتضاء راجعاً إليها دائماً، فإنّ الجهاتالخارجيّة والعوامل الاجتماعيّة لها مدخليّة تامّة في التشريعات الإسلاميّة،فمثلاً: نجاسة الكفّار والمشركين ليس لأجل وجود قذارة فيهم كما هو شأنسائر الأعيان النجسة، بل أراد الشارع الحكيم بذلك إبعاد المسلمين عنالكفّار وعدم الاختلاط بهم وترك معاشرتهم؛ لئلاّ تسري الأفكار الإلحاديّةفي صفوف المسلمين ولا ينتشر الفساد والضلال في أوساطهم؛ حفظاً لشوكةالمسلمين وأصالتهم وسيادتهم.
وعليه فمن الممكن أن يكون الموضوع لا اقتضائيّاً، إلاّ أنّ الموانع الخارجيّةوالمصالح السياسيّة الإسلاميّة تقتضي جعل الحرمة له، وكذلك بالعكس.
وثانياً: أنّ ورود النهي من الشارع تحديداً للموضوع ليس بياناً لأمر بديهيلا يناسب شأن الإمام عليهالسلام ؛ لأنّ ما هو كالبديهي إنّما هو فيما لو اُريد بالمطلقالإباحة العقليّة في مقابل الحظر العقلي، ولكنّ مفروض البحث هو الإباحةالشرعيّة الواقعيّة التي هي من الأحكام الخمسة التكليفيّة المتوقّفة على الجعلوالتشريع بالضرورة، ولولاه لم يصحّ إسنادها إلى الشارع.
وثالثاً: أنّ مقدّميّة عدم أحد الضدّين للضدّ الآخر إنّما هو ممتنع في دائرةالتكوينيّات دون الاعتباريّات التي منها الأحكام الشرعيّة، فلا مانع من تقييدالإباحة بعدم ورود النهي.
(صفحه 253)
أضف إلى ذلك أنّه لا تضادّ بين الأحكام الشرعيّة كما ذكرناه مراراً،فلايجري فيها مقدّميّة عدم أحد الضدّين لوجود الضدّ الآخر.
وأمّا الصورة الثانية فأفاد قدسسره (1) في وجه امتناعها اُموراً ثلاثة:
الأوّل: أنّ موضوع الإباحة الظاهريّة هو الشيء المشكوك حكمه الواقعي،وهذا الموضوع مغيّا بالعلم بالحكم، نظير قوله عليهالسلام : «كلّ شيء لك حلال حتّىتعلم أنّه حرام» حيث أخذ العلم بالحرمة غاية للحلّية الظاهريّة، ويستحيل أنتكون الإباحة الظاهريّة مغيّاة بصدور النهي واقعاً مع بقاء الجهل به، وإلاّ لزمارتفاع الحكم ـ أي الإباحة الظاهريّة ـ عن موضوعه ـ الشيء المشكوك حكمهالواقعي ـ وليس هذا إلاّ تخلّف الحكم عن موضوعه، وهو في الاستحالةكتخلّف المعلول عن علّته التامّة.
وفيه: أوّلاً: أنّه لا يلزم في المقام تخلّف الحكم عن موضوعه التامّ مطلقاً، بللابدّ من التفصيل بين ما إذا كان صدور النهي قيداً للإباحة الظاهريّة أو غايةًلها، فعلى الأوّل يكون موضوع الإباحة الظاهريّة هو المشكوك المقيّد بعدمصدور النهي فيه واقعاً، فبمجرّد صدور النهي تنتفي الإباحة بانتفاء أحد جزئيموضوعها، وهذا ليس من باب تخلّف الحكم عن موضوعه التامّ، بل من بابانتفاء الموضوع المركّب بانتفاء أحد جزئيّه، وأمّا على الثاني فيكون الموضوعللإباحة هو المشكوك بما هو مشكوك المجامع مع ورود النهي واقعاً، فيلزممحذور تخلّف الحكم عن موضوعه لا محالة.
وثانياً: أنّ تخلّف الحكم عن موضوعه ليس ممتنعاً، وما ذكر من الامتناعناشٍ من قياس عالم التشريع بعالم التكوين بتخيّل أنّ الموضوع التامّ بالنسبةإلى حكمه، كنسبة العلّة التامّة إلى المعلول، وبما أنّ تخلّف المعلول عن علّته
- (1) نهاية الدراية 2: 187.
(صفحه254)
التامّة مستحيل، فكذلك تخلّف الحكم عن موضوعه.
وقد عرفت أنّ الجهات الخارجيّة دخيلة في جعل الأحكام على متعلّقاتها،فلا إشكال في تخلّف الحكم عن موضوعه فيما إذا اقتضت المصالح الخارجيّةلذلك.
الأمر الثاني: أنّ الإباحة الظاهريّة حيث إنّها مغيّاة بصدور النهي واقعاً،أو مقيّدة بعدم صدوره واقعاً، فمع الشكّ في حصول الغاية أو القيد لا يصحّترتيب آثار الإباحة، بل لابدّ في ترتيبها من إحراز عدم صدور النهي،والمفروض أنّ عدم صدوره غير محرز وجداناً؛ إذ البحث في شيء شكّ فيحلّيته وحرمته، فلابدّ من إحرازه تعبّداً بأصالة عدم صدور النهي حتّى تثبتالإباحة فعلاً للموضوع المشكوك حكمه الواقعي.
ثمّ إن كان الغرض من إجراء الأصل مجرّد نفي الحرمة ظاهراً فلا مانع منه،إلاّ أنّه ليس من الاستدلال بالحديث بل بالأصل.
وإن كان الغرض منه التعبّد بالإباحة الشرعيّة فحينئذٍ يكون استدلالبالحديث، إلاّ أنّه لا يجري الاستصحاب لإثبات الإباحة الشرعيّة، وذلك لعدمإمكان إرادة الإباحة الواقعيّة أو الظاهريّة من الحديث؛ لما عرفت في الصورةالاُولى والأمر الأوّل من الصورة الثانية، وأمّا استصحاب الإباحة بمعنىاللاحرجيّة العقليّة فغير جارٍ أيضاً؛ لعدم كونها حكماً شرعيّاً ولا موضوعلحكم شرعي(1).
وفيه: أوّلاً: أنّا نختار أنّ الغرض من إجراء الأصل التعبّد بالإباحة الشرعيّة،وقد عرفت إمكان إرادة الإباحة الواقعيّة من الحديث في الصورة الاُولى، وأمّعدم إمكان إرادة الإباحة الظاهريّة فهو مصادرة واضحة؛ إذ الظاهر من كلامه
- (1) نهاية الدراية 2: 187 ـ 188.
(صفحه 255)
أنّ الأمر الثاني دليلاً مستقلاًّ مع غضّ النظر عن الأمر الأوّل، ومن المعلوم أنّالأمر الثاني لا يدلّ على عدم إمكان إرادة الإباحة الظاهريّة، وإنّما الأمر الأوّلهو الذي دلّ على ذلك، وقد عرفت جوابه.
وثانياً: أنّ استصحاب عدم ورود النهي لإثبات الإباحة من الاُصولالمثبتة؛ إذ تحقّق ذي الغاية مع عدم حصول غايته من الأحكام العقليّة كملايخفى. نعم، استصحاب بقاء الإباحة لا مانع منه.
الأمر الثالث: أنّ ظاهر الخبر جعل ورود النهي غاية رافعة للإباحةالظاهريّة ـ كما هو المفروض ـ ومقتضى فرض عدم الحرمة إلاّ بقاءً هو فرضعدم الحرمة حدوثاً، ومقتضاه عدم الشكّ في الحلّية والحرمة من أوّل الأمر، فممعنى جعل الإباحة الظاهريّة المبعوثة بالشكّ في الحلّيّة والحرمة في فرض عدمالحرمة إلاّ بقاء(1).
وفيه: أنّ عدم الحرمة إلاّ بعد ورود النهي لا يستلزم عدم حصول الشكّ فيالحليّة والحرمة من أوّل الأمر، فإنّ تحقّق الشكّ للمكلّف ضروري مع شكّه فيورود النهي وعدمه، وهو كاف في جعل الإباحة الظاهريّة.
الجهة الثالثة: فيما هو الظاهر من الرواية بلحاظ مقام الإثبات:
لا شكّ في أنّ المراد من كلمة «يرد» في الرواية هو الوصول إلى المكلّف لالصدور من الشارع، وذلك لانقطاع الوحي في زمن صدور الرواية؛ لأنّهوردت في زمان الإمام الصادق عليهالسلام .
وأيضاً لاشكّ في أنّ المراد من كلمة «نهي» هو النهي الواقعي المتعلّق بأفعالالمكلّفين بعناوينها الأوّلية، والدليل على ذلك هو إضافة النهي إلى الشيء،فالموضوع بما هو شيء متعلّق للنهي لا بما هو مشكوك الحكم، وعليه فيكون
(صفحه256)
الحديث معارضاً لدليل الاحتياط، ومع عدم وصول النهي الواقعي يكونالحكم هو الإطلاق.
ثمّ لا يخفى أنّه ليس المراد من الإطلاق اللا حظر العقلي حتّى تكون الآيةبصدد بيان حكم عقلي؛ لأنّ ذلك خلاف ظاهر مولويّة الخطاب الصادر منالشارع.
فتحصّل: أنّ دلالة الرواية على البراءة ممّا لا إشكال يعتريه، بل تكونالبراءة المستفادة منها معارضة مع دليل الاحتياط.
الرواية الثالثة: قوله عليهالسلام : «الناس في سعة ما لم يعلموا»(1).
ولاشكّ في دلالته على البراءة، وإنّما الكلام في أنّ المستفاد منه براءة محكومةلدليل الاحتياط أم معارضة له.
فذهب المحقّق النائيني قدسسره (2) إلى أنّ كلمة «ما» إن كانت موصولة فالبراءةالمستفادة من الحديث تعارض أدلّة الاحتياط؛ إذ مفاده: أنّ الناس من جهةالجهل بالحكم الشرعي يكونون في سعة، فيعارض به أخبار الاحتياط الدالّةعلى كون الناس في الضيق من جهة الحكم الشرعي المجهول.
وأمّا إن كانت مصدريّة زمانيّة فيكون مفاد الحديث: أنّ الناس ما داموا ليعلمون يكونون في سعة، فيكون دليل الاحتياط حاكماً عليه؛ لأنّه بيان، وهوشبيه حكومة دليل الاحتياط على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
والتحقيق: أنّ القسم الأوّل من كلامه قدسسره صحيح ولا يكون قابلاً للمناقشة،وأمّا القسم الثاني من كلامه قدسسره فلا يكون قابلاً للمساعدة، فإنّ المراد من «ليعلمون» هو الجهل بالواقع، فلابدّ ممّا يرد في مقابله بعنوان البيان أن يرفعه
- (1) المستدرك 18: 20، الباب 12 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 4.
- (2) أجود التقريرات 2: 181.