(صفحه262)
إلاّ احتمال الحرمة والحلّية كما في شرب التتن.
وذهب المحقّق العراقي قدسسره (1) إلى أنّه يمكن أن يقال بشمول الرواية للشبهاتالحكميّة؛ نظراً إلى إمكان فرض الانقسام الفعلي فيها أيضاً كما في كلّي اللحم،فإنّ فيه قسمين معلومين: قسم حلال وهو لحم الغنم، وقسم حرام وهو لحمالأرنب، وقسم ثالث مشتبه وهو لحم الحمير لا يدرى بأنّه محكوم بالحلّية أوالحرمة، ومنشأ الاشتباه فيه هو وجود القسمين المعلومين، فيقال بمقتضىعموم الرواية أنّه حلال حتّى تعلم حرمته.
وفيه: أنّ الظاهر من الرواية أنّ منشأ الشكّ في الحلّية والحرمة هو نفسالانقسام الفعلي إلى الحلال والحرام كما هو الحال في الشبهات الموضوعيّة، ومنالواضح أنّ منشأ الشكّ في الشبهة الحكميّة ـ كلحم الحمير ـ ليس ناشئاً منانقسام اللحم إلى الحلال والحرام، بل هذا النوع من اللحم بنفسه مشكوك فيهمن حيث الحلّية والحرمة، إمّا لفقدان النصّ أو إجمال النصّ أو تعارضالنصّين، وأمّا انقسام أنواع اللحم إلى الحلال والحرام فلا دخل له بالشكّ فيلحم الحمير بوجه، ولذا لو فرضنا حرمة جميع أنواع اللحم ما عدا الحمير أوحلّيتها لكان الشكّ في لحم الحمير من حيث الحلّية والحرمة باقٍ على حاله،وعليه فالرواية لا تشمل الشبهات الحكميّة.
والتحقيق في الجهة الثانية أيضاً عدم صحّة الاستدلال بالرواية على البراءةفي الشبهات البدويّة الموضوعيّة، فإنّ الظاهر منها كون القسمين من الحلالوالحرام مورد الابتلاء بالفعل، وهذا لا يتصوّر إلاّ في الشبهة المقرونة بالعلمالإجمالي، والرواية في صدد جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي كمسيأتي توضيحه في باب الاشتغال.
- (1) نهاية الأفكار 3: 233.
(صفحه 263)
الدليل الثالث: الإجماع
لايخفى أنّ ما ينفع منه في المقام هو إجماع كافّة العلماء من الاُصوليّينوالأخباريّين على البراءة في الشبهة الحكميّة، وواضح أنّه لم ينعقد الإجماع علىهذا الوجه، بل هو مقطوع العدم، فإنّ جلّ الأخباريّين ذهبوا إلى وجوبالاحتياط فيها، ولايمكن دعوى عدم قدح مخالفتهم في تحقّق الإجماع معكونهم من العلماء الأجلاّء.
ثمّ إنّ هذا الإجماع على فرض انعقاده ليس إجماعاً تعبّديّاً كاشفاً عن رأيالمعصوم عليهالسلام بل هو إجماع مدركي، فلابدّ من الرجوع إلى نفس المدرك.
الدليل الرابع: العقل
والبحث عنه يقع في جهات ثلاث:
الاُولى: في تماميّة قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو عدم تماميّتها في نفسها؟
الجهة الثانية: في ملاحظتها مع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.
الجهة الثالثة: هل أنّها تعارض أدلّة الاحتياط أو محكومة لها؟
أمّا الجهة الاُولى: فلا شكّ في استقلال العقل بقبح العقاب والمؤاخذة عندعدم البيان أو عدم وصول التكليف إلى العبد، فيكون العقاب على مخالفتهقبيحاً عقلاً؛ إذ فوت غرض المولى حينئذٍ ليس مستنداً إلى تقصير من العبد،بل مستند إلى عدم تماميّة البيان من قبل المولى.
وعليه فالمكلّف بعد الفحص التامّ وعدم وجدانه دليلاً على الحكم يكونمعذوراً عند العقل في عدم امتثال التكليف المجهول، وإن كان هناك بيان فيالواقع، وهذا متّفق عليه بين الاُصوليّين والأخباريّين.
وظهر بما ذكرنا أنّ موضوع حكم العقل بقبح العقاب هو عدم البيان
(صفحه264)
الواصل إلى المكلّف؛ إذ من الواضح أنّ الانبعاث نحو عمل أو الانزجار عنهإنّما هو من آثار التكليف الواصل، لا التكليف بوجوده الواقعي، فإنّه لا يكونمحرّكاً وزاجراً للعبد، ولايتمّ به الحجّة عليه.
ثمّ إنّ المحقّق الأصفهاني قدسسره (1) ذهب إلى أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيانوإن كان صحيحاً في نفسه، إلاّ أنّه أجنبيّ عمّا يعيّنه الاُصولي، وقال فيتوضيحه: إنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مأخوذ من الأحكام العقلائيّةالتي حقيقتها ما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظاً للنظام وإبقاءً للنوع، ومنالواضح أنّ هذا الحكم العقلي العملي ليس منحازاً عن الأحكام العقليّة العمليّةالاُخرى، بل هو فرد من أفراد حكم العقل بقبح الظلم عند العقلاء، فإنّ مخالفةالتكليف الذي قامت عليه الحجّة هتك لحرمة المولى وخروج عن رسمالعبوديّة، وهو ظلم من العبد إلى مولاه، فيستحقّ الذمّ والعقاب عليه، كما أنّمخالفة ما لم تقم عليه الحجّة ليست من أفراد الظلم، وحينئذٍ فالعقوبة عليه ظلممن المولى إلى عبده، وهو قبيح من كلّ أحد؛ لأنّه يؤدّي إلى فساد النوعواختلال النظام، ولايخفى أنّ المهمّ هو دفع استحقاق العقاب على فعل محتملالحرمة ـ مثلاً ـ ما لم تقم عليه حجّة منجّزة له، وحيث إنّ موضوع الاستحقاقبالآخرة هو الظلم على المولى، فمع عدمه لا استحقاق قطعاً، وعليه فلا حاجةإلى ضمّ قبح العقاب بلا بيان وإن كان صحيحاً في نفسه.
وحاصل كلامه قدسسره : أنّ البحث في باب البراءة يرتبط بشأن من شؤوناتالمكلّف، وأنّه إذا شرب التتن بعد الفحص واليأس عن الدليل على حلّيتهوحرمته لا يستحقّ العقوبة.
وأمّا قاعدة قبح العقاب بلا بيان فالمقصود منها أنّ عقوبة المولى للمكلّف
- (1) نهاية الدراية 2: 190 ـ 191.
(صفحه 265)
عند عدم تماميّة الحجّة على التكليف من قبله قبيح؛ لأنّه ظلم من المولى علىالعبد، فلا ينطبق الدليل على المدّعى، فإنّ القاعدة ترتبط بالمولى لا بالمكلّف.على أنّه لا أصالة لها بل هي من مصاديق الظلم.
وأورد عليه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1): أوّلاً: أنّه لا شكّ في أنّ العقل مستقلّبوجوب إطاعة المنعم وقبح مخالفته، كما أنّه مستقلّ باستحقاق العقوبةللمتخلّف، ومع قطع النظر عن جميع الجهات الاُخرى فالحكم باستحقاقالعقوبة ليس بملاك انطباق عنوان الظلم.
وثانياً: أنّ المهمّ فيما نحن فيه هو تحصيل المؤمّن من العقاب حتّى يجوزللمكلّف ارتكاب محتمل الحرمة، ومعلوم أنّه إنّما يحصل بالتمسّك بكبرى قبحالعقاب بلا بيان، وأمّا مجرّد دفع الاستحقاق بمناط أنّ الارتكاب ليس ظلماً فليكفي في ذلك؛ لأنّ دفع الاستحقاق من جهة الظلم لا يصير مؤمّناً عن عامّةالجهات ما لم ينضمّ إليه حكم العقل بقبح العقاب من المولى عند عدم البيان.
وأمّا الجهة الثانية: فسيأتي البحث فيها عند مناقشة أدلّة الأخباريّين.
وأمّا الجهة الثالثة: فلاشكّ في أنّ أدلّة الاحتياط ـ على تقدير تماميّتها واردة على كبرى قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها؛ إذ على تقديروجوب الاحتياط يتمّ البيان من قبل المولى فلا يبقى موضوع للكبرى العقليّة،وقد قلنا في أوّل بحث البراءة بأنّ التمسّك بهذه الكبرى لا ينفع في مقام ردّالأخباريّين؛ إذ لا نزاع بين الفريقين في أصل تماميّة الكبرى، وإنّما النزاع فيالصغرى حيث ذهب الأخباريّون إلى تماميّة البيان وقيام الحجّة على التكاليفبأدلّة الاحتياط، وذهب الاُصوليّون إلى عكس ذلك.
هذا تمام الكلام في أدلّة البراءة.
- (1) تهذيب الاُصول 2: 189.
(صفحه266)