(صفحه308)
الظاهر أنّ العقل بعد الرجوع إليه يحكم بذلك، بمعنى أنّه يدرك أنّ المكلّففي مقام العمل يكون مخيّرا بين الفعل والترك، لا بمعنى جعله الحكم بالتخيير فيمقابل الوجوب الشرعي أو الحرمة الشرعيّة المعلومة بالإجمال.
ويستفاد من كلام المحقّق النائيني رحمهالله عدم ثبوت الوظيفة العقليّة هنا؛ لأنّالتخيير العقلي إنّماهو فيما إذا كان في طرفي التخيير ملاك يلزم استيفاؤه ولميتمكّن المكلّف من الجمع بين الطرفين، كالتخيير الذى يحكم به في بابالتزاحم، وفي دوران الأمر بين المحذورين ليس كذلك؛ لعدم ثبوت الملاك فيكلّ من طرفي الفعل والترك(1).
جوابه: أنّه لا دليل لانحصار مناط حكم العقل بالتخيير ببابالمتزاحمين فقط، بل العقل كما يحكم هناك بالتخيير كذلك يحكم هنا به؛ إذلابدّ من الحكم به بنظر العقل بعد الرجوع إليه؛ لعدم تصوّر طريق آخر سواهفي مقام العمل.
وممّا ذكرنا يظهر الجواب عمّا التزم به المحقّق العراقي رحمهالله من أنّ الحكمالتخييري ـ شرعيّا كان كما في باب الخصال، أو عقليّا كما في باب المتزاحمينـ إنّما يكون في مورد يكون المكلّف قادرا على المخالفة بترك كلا طرفي التخيير،فكان الأمر التخييري باعثا على الإتيان بأحدهما وعدم تركهما معا، لا في مثلالمقام الذي هو من التخيير بين النقيضين(2).
وجه ذلك: أنّه لا دليل على انحصار التخيير بما ذكر، فإنّ ملاك التخيير ـ أيالعلم الإجمالي بالتكليف الوجوبي أو التحريمي، وعدم الترجيح بينهما، وعدمإمكان الموافقة أو المخالفة القطعيّة ـ موجود في دوران الأمر بين المحذورين
- (1) فوائد الاُصول 3: 444.
- (2) نهاية الأفكار 3: 293.
(صفحه 309)
أيضا، ولذا يحكم العقل بالتخيير في مقام العمل.
هذا كلّه بالنسبة إلى أصالة التخيير، وجريانها في المقام.
(صفحه310)
(صفحه 311)
جريان البراءة العقليّة في دوران الأمر بين المحذورين
لا يخفى أنّ العلم الإجمالي بالتكليف بيانٌ منجّز له، فلابدّ من الاحتياط فيمقام العمل، كما إذا علمنا إجمالاً بتعلّق التكليف في يوم الجمعة إمّا بصلاةالظهر، وإمّا بصلاة الجمعة، وأمّا في دوران الأمر بين المحذورين فلا يكونكذلك، فإنّ العلم الإجمالي هنا بيان لجنس التكليف وهو الإلزام، ولا يترتّبعليه الأثر؛ لعدم إمكان موافقة كلّي الإلزام الدائر أمره بين الفعل والترك، وأمّبالنسبة إلى الخصوصيّات النوعيّة ـ كالوجوب بخصوصه أو الحرمةبخصوصها ـ فلا يكون البيان تامّا، فالعقاب عليها قبيح، فيكون هنا مجرىقاعدة قبح العقاب بلابيان، ولازم ذلك تحقّق المؤمّن من العقاب، فلا إشكالفي جريان البراءة العقليّة.
والعجب من أعاظم المحقّقين حيث ذهبوا إلى عدم جريانها لعدّة وجوه:
منها: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله من أنّه لا مجال ههنا لجريان قاعدة قبحالعقاب بلا بيان؛ فإنّه لاقصور في البيان ههنا، وإنّما يكون عدم تنجّز التكليفلعدم التمكّن من الموافقة القطعيّة كمخالفتها، والموافقة الاحتماليّة حاصلة لمحالة، كما لا يخفى(1).
وفيه: أنّ المراد بعدم القصور في البيان إن كان هو عدم القصور بالنسبة إلى
- (1) كفاية الاُصول 2: 206.
(صفحه312)
جنس التكليف فواضح، ونحن أيضا نقول به، ولكن لا أثر له بعد عدم كونالمكلّف قادرا على الامتثال، وإن كان المراد به هو عدم القصور بملاحظة النوعأيضا فنحن نمنع ذلك؛ لتحقّق كمال القصور فيه بعد ما كانت خصوصيّةالوجوب والحرمة مجهولة.
ومنها: ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله : من أنّ مناط البراءة العقليّة قبح العقاببلابيان، وفي باب دوران الأمر بين المحذورين يقطع بعدم العقاب؛ لأنّ وجودالعلم الإجمالي كعدمه لايقتضي التنجيز والتأثير، فالقطع بالمؤمّن حاصلبنفسه بلاحاجة إلى حكم العقل بقبح العقاب بلابيان(1).
وفيه: أنّ القطع بعدم العقاب وبوجود المؤمّن ممّا لايحصل لو اُغمض النظرعن حكم العقل بقبح العقاب بلابيان، ومجرّد سقوط العلم الإجمالي عنالتنجيز والتأثير وصيرورة وجوده كعدمه لايفيد ما لم تنضّم إليه القاعدة، كيفولو فرض جواز العقوبة على خصوصيّة الوجوب مثلاً حتّى لو كانت مجهولةفمن أين يقطع بعدم العقاب ووجود المؤمّن حينئذٍ ؟ فهذا القطع إنّما هو بملاحظةهذه القاعدة.
ومنها: ما أفاده المحقّق العراقي رحمهالله وملخّصه: أنّ مع حصول الترخيص فيالرتبة السابقة على جريان البراءة بحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك ليبقى مجال لجريان أدلّة البراءة العقليّة والشرعيّة(2).
وفيه: أنّ الحكم بتأخّر رتبة أدلّة البراءة عن حكم العقل بالتخيير بين الفعلوالترك ممنوع جدّا، فإنّ الحكم بالتخيير إنّما هو بعد ثبوت قبح العقاب علىخصوصيّة الوجوب والحرمة؛ لأنّه لو فرض إمكان العقوبة على التكليف
- (1) فوائد الاُصول 3: 448.
- (2) نهاية الأفكار 3: 293.