(صفحه 313)
الوجوبي ـ مثلاً ـ وإن كان مجهولاً لايحكم العقل بالتخيير، فحكمه به إنّما هوبعد ملاحظة عدم ثبوت البيان على الخصوصيّة وعدم جواز العقوبة عليها كمعرفت.
فمبنى أصالة التخيير عبارة عن قاعدة قبح العقاب بلابيان؛ إذ التخيير هوحكم العقل بجواز الفعل والترك، فإذا اختار أحدهما وكان مخالفا للواقع فليترتّب عليه العقاب بمقتضى القاعدة المذكورة، كما لا يخفى.
(صفحه314)
(صفحه 315)
جريان البراءة الشرعيّة في دوران الأمر بين المحذورين
عرفت أنّ لسان أدلّة البراءة الشرعيّة مختلف، فقد يكون بلسان الرفع، وقديكون بلسان الإثبات مثل: قوله عليهالسلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لكحلال»(1)، ويعبّر عن البراءة المستفادة منه بأصالة الإباحة، أمّا على الأوّلفالظاهر ـ بعد ملاحظة ما ذكرنا في وجه جريان البراءة العقليّة ـ جريانهأيضا؛ لأنّ التكليف بنوعه مجهول، فيشمله مثل حديث الرفع.
ولكنّ المحقّق النائيني رحمهالله نفى جريانها؛ نظرا إلى أنّ مدركها قوله صلىاللهعليهوآله : «رُفع ملا يعلمون»(2)، والرفع فرع إمكان الوضع، وفي المقام لايمكن وضع الوجوبوالحرمة كليهما، لا على سبيل التعيين ولا على سبيل التخيير، ومع عدم إمكانالوضع لايعقل الرفع، فأدلّة البراءة الشرعيّة لاتعمّ المقام أيضا(3).
جوابه: أنّ في دوران الأمر بين المحذورين يتمسّك بحديث الرفع مرّتين، مرّةًلرفع الوجوب المجهول، واُخرى لرفع الحرمة المجهولة، ومن الواضح أنّ وضعالوجوب بنفسه ممكن، كما أنّ وضع الحرمة لا استحالة فيه. نعم، ما لايمكنوضعه هو مجموع الوجوب والحرمة، وهو لايكون مفاد حديث الرفع، فم
- (1) وسائل الشيعة 17: 87 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
- (2) وسائل الشيعة 5: 369، أبواب جهاد النفس، الحديث 1.
- (3) فوائد الاُصول 3: 448.
(صفحه316)
يمكن وضعه يشمله الحديث، وما لايشمله الحديث لايمكن وضعه.
وأمّا على الثاني فقد استدلّ المحقّق النائيني رحمهالله لعدم جريانها هنا باُمور:
الأوّل: عدم شمول دليل أصالة الإباحة لصورة دوران الأمر بين المحذورين،فإنّه يختصّ بما إذا كان طرف الحرمة الحلّ، كما هو الظاهر من قوله عليهالسلام : «كلّشيءٍ فيه حلالٌ وحرام فهو لك حلال»، وليس في هذا الباب احتمال الإباحةوالحلّ، بل الطرف هو الوجوب.
الثاني: أنّ دليل أصالة الحلّ يختصّ بالشبهات الموضوعيّة ولا يعمّالشبهات الحكميّة.
الثالث: أنّ جعل الإباحة الظاهريّة مع العلم بجنس الإلزام لايمكن، فإنّأصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمال؛ لأنّ مفاد أصالةالإباحة الرخصة في الفعل والترك، وهذا يناقض العلم بالإلزام وإن لميكن لهذالعلم أثر عملي وكان وجوده كعدمه لايقتضي التنجيز، إلاّ أنّه حاصلبالوجدان ولا يجتمع مع جعل الإباحة ولو ظاهرا(1). إنتهى.
والإشكال عليه من وجوه:
الأوّل: منع ما ذكره في الأمر الثاني من اختصاص دليل أصالة الحلّبالشبهات الموضوعيّة، فإنّه قد مرّ عدم الاختصاص.
الثاني: أنّ ظاهر كلامه اتّحاد أصالة الحلّ مع أصالة الإباحة، مع أنّ معنىالإباحة تساوي الفعل والترك، ومعنى الحلّيّة عدم كون فعله محرّما وممنوعا،فالحلّيّة تغاير الإباحة، ومادلّت عليه النصوص والروايات(2) هو أصالة الحلّلا الإباحة، فإنّه لميرد في شيء منها الحكم بإباحة مشكوك الحرمة أصلاً،
- (1) فوائد الاُصول 3: 445.
- (2) وسائل الشيعة 17: 87 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 3.
(صفحه 317)
فالإباحة حكم من الأحكام الخمسة في مقابل الوجوب والحرمةوالاستحباب والكراهة، والحلّيّة المستفادة من قوله عليهالسلام : «كلّ شيء لك حلال»في مقابل الحرمة فقط، يعني إذا دار الأمر بين الحرمة وغيرالحرمة فالمرجع هنأصالة الحلّيّة.
الثالث: أنّ مقتضى ما ذكره أوّلاً من عدم شمول دليل أصالة الإباحةلصورة دوران الأمر بين المحذورين ينافي ما ذكره أخيرا من أنّ مفاد أصالةالإباحة هو الترخيص في الفعل والترك.
بيان ذلك: أنّ الترخيص في الفعل لايعقل بعد كون الترخيص فيه معلوما،فإذا شكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ـ مثلاً ـ فما يمكن أن تدلّ عليهأدلّة البراءة بالنسبة إلى الدعاء عندها هو الترخيص في تركه، وأمّا الترخيصفي الفعل فلا تدلّ عليه أدلّة البراءة؛ لكونه معلوما، فالترخيص في الفعل إنّميعقل إذا كان الفعل مشكوك الحرمة، كما أنّ الترخيص في الترك إنّما يمكن إذكان الفعل مشكوك الوجوب، ولا يعقل الترخيص في الترك في الأوّل وفيالفعل في الثاني، وحينئذ فمقتضى ما ذكره أخيرا من أنّ مفاد أصالة الإباحة هوالترخيص في الفعل والترك هو أن يكون الفعل مشكوك الحرمة والوجوب؛ إذلايعقل الترخيص في الفعل مع العلم بعدم الحرمة، ولا في الترك مع العلم بعدمالوجوب، فالترخيص فيهما معا إنّما هو إذا لميعلم عدم الحرمة ولا عدمالوجوب، بل دار الأمر بينهما، كما في المقام، فمفاد كلامه الأخير هو اختصاصمورد أصالة الإباحة التي مرجعها إلى الترخيص في الفعل والترك بصورةدوران الأمر بين المحذورين؛ إذ لايعقل الترخيص فيهما معا في غيرها،ومقتضى كلامه الأوّل هو اختصاص موردها بغير صورة دوران الأمر بينالمحذورين، وهو تهافت فاحش.