ثمّ وقع البحث في نفس الإرادة من حيث كونها اختياريّة أم لا، والالتزامبعدم اختياريّتها مستلزم لعدم اختياريّة أساس جميع الأفعال الاختياريّة،فلامجال لترتّب الآثار من الثواب والعقاب عليها؛ إذ كيف يمكن تعلّق التكليفبما كان أساسه اضطراريّاً، فلا يمكن القول بعدم اختياريّة الإرادة.
وإن قلنا باختياريّتها فتحتاج إلى إرادة اُخرى؛ إذ لابدّ في كلّ فعلاختياري أن يكون مسبوقاً بالإرادة، وينقل الكلام إلى الإرادة الثانية، وهي إنكانت اختياريّة تحتاج إلى إرادة اُخرى للقاعدة المذكورة، فإن كانت هذهالإرادة هي الاُولى لزم الدور، وإن كانت إرادة ثالثة فيلزم التسلسل إلى ما لنهاية، بعد عدم إمكان الالتزام باضطراريّة الإرادة الثانية كالاُولى؛ إذ لا يبقىمجال لاستحقاق العقوبة على المخالفة واستحقاق المثوبة على الموافقة.
وقال المحقّق الخراساني قدسسره (1) في مقام الجواب عنه: إنّ الاختيار وإن لم يكنبالاختيار إلاّ أنّ بعض مبادئه غالباً يكون وجوده بالاختيار؛ للتمكّن منعدمه بالتأمّل فيما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللّوم والمذمّة.
ويستفاد من ذيل كلامه قدسسره أنّ المراد من بعض المبادئ الذي يكون غالببالاختيار هو العزم وما بعده، وأنّ المبادئ التي تتحقّق قبله ـ مثل: تصوّرالمراد والتصديق بفائدته والميل النفساني والرغبة إليه ـ تكون غير اختياريّة،بخلاف العزم والشوق المؤكّد وتحريك العضلات نحو المراد؛ إذ يمكن للإنسانبعد تحقّق المقدّمات ترك المراد لترتّب العواقب والمفاسد عليه.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ لازم هذا البيان التفصيل بين صورة الغالب وغيرالغالب، وأنّ التكليف وآثاره لا يتحقّق في صورة غير الغالب، وهذا ممّا ليكون قابلاً للالتزام، ولم يلتزم به أحد.
وثانياً: ما معنى اختياريّة العزم وما بعده؟ إن كانت بمعنى المسبوقيّة بإرادةاُخرى فننقل الكلام إليها، ويعود إشكال الدور والتسلسل بعينه.
وإن قلت: لا يلزم في العزم وما بعده المسبوقيّة بالإرادة.
قلنا: ما الدليل لنقض القاعدة المذكورة هنا، ولذا لا يندفع الإشكال بهذالبيان.
وأجاب المرحوم صدر المتألّهين عن الإشكال في كتاب الأسفار بمحاصله: أنّ الوجدان حاكم بالفرق بين الأفعال الصادرة عن الإنسانبالاختيار ـ مثل: حركة اليد الناشئة عن الإرادة ـ والأفعال الصادرة عنهمن غير اختيار، مثل: حركة يد الإنسان المبتلى بمرض الارتعاش، فإن لاحظنالأفعال الاختياريّة بنظر العرف والعقلاء يصحّ تعلّق التكليف بها وجعل
(صفحه 45)
القانون بالنسبة إليها، وترتّب الثواب والعقاب والمدح والذمّ على موافقتهومخالفته، فيكون التكليف في محدودة الأفعال الاختياريّة قابلاً للجعلوالتصويب.
وإن لاحظناها بنظر فلسفي بعد ارتباط الفلسفة بالواقعيّات والحقائق يصحّالقول بأنّ الفعل الاختياري ما يكون مسبوقاً بالإرادة، ومعلوم أنّ الإرادةواقعيّة نفسانيّة كسائر الصفات النفسانيّة، فلابدّ لنا من ملاحظة أوصافمشابهة للإرادة لاستفادة أنّ نفس الإرادة هل تقع متعلّقاً لإرادة اُخرى أم لا؟
ونقول: إنّ صفة الحبّ من الصفات النفسانيّة ذات الإضافة ويتوقّفوجودها بالمحبّ والمحبوب، ولذا يصحّ السؤال هنا عن المحبّ ومتعلّق الحبّبأنّه بما تعلّق؟ ومَن المحبّ؟ فلا مجال للسؤال عمّا كان خارجاً عن دائرة الحبّوالمحبّ والمحبوب، كقولنا: هل تعلّق بحبّك حبّ آخر أم لا؟ حتّى ننقل الكلامإلى الحبّ الثاني، وهكذا؛ إذ لا واقعيّة وراء ذلك.
وهكذا في باب العلم فإنّه أيضاً صفة ذات إضافة إلى العالم والمعلوم، وإذتحقّق العلم تتحقّق ثلاثة عناوين، ويصحّ السؤال في محدوديّتها، ولايصحّالسؤال: هل لك علمٌ بعلمك؟ حتّى يلزم الإشكال المذكور؛ لعدم تحقّق واقعيّةرابعة حتّى نسأل عنها.
والإرادة نظير العلم والحبّ واقعيّة نفسانيّة ذات الإضافة وتحقّقها متوقّفعلى تحقّق المريد والمراد، ولا مجال هنا أيضاً للسؤال عن أنّ نفس الإرادةالمتعلّقة بشيء المراد هل تقع متعلّقة لإرادة اُخرى أم لا؟ هذا تمام كلامه قدسسره .
والتحقيق: أنّ هذا البيان وإن كان صحيحاً ولكنّه ليس بكامل؛ إذ يصحّالسؤال عن منشأ الإرادة التي تكون واقعيّة من الواقعيّات النفسانيّة؛ لكونهأمر حادث ومسبوقة بالعدم، ويمكن أن يقال: إنّ العامل المؤثّر في تحقّق الإرادة
(صفحه46)
أمرٌ غير اختياري ولذا لابدّ لنا من ذكر متمّمٍ لهذا البيان بأنّ أفعال الإنسانوأعماله قد تكون جوارحيّة وقد تكون جوانحيّة، أمّا الأعمال الجوارحيّةفبعضها اختياري وبعضها غير اختياري كحركة يد المرتعش، والفارق بينهمأنّ العمل الاختياري مسبوق بالإرادة بخلاف العمل الاضطراري.
وأمّا الأعمال الجوانحيّة والأوصاف النفسانيّة ـ كالإرادة ـ فلابدّ لها منالمقدّمات والمبادئ مثل التصوّر والتصديق بالفائدة... ولا شكّ في أنّ التصوّرأيضاً واقعيّة قائمة بالنفس يحتاج في وجوده إلى شخص متصوِّر وشيءمتصوَّر، فهل هو اختياري أم لا؟
والقول بعدم اختياريّته خلاف الوجدان، فإنّ الاُستاذ إذا أمر تلامذتهبتهيئة العناوين الفقهيّة لأخذ واحد منها لغرض التحقيق حوله يكون مختاراً فيتصوّرها واختيار واحد منها بعد إتيانهم بها.
وإن قلنا: باختياريّته فما معنى اختياريّته؟ هل تجري هنا أيضاً القاعدةالمذكورة بأنّ كلّ فعل اختياري لابدّ وأن يكون مسبوقاً بالإرادة؟ والوجدانيأبى ذلك، فلا محالة تكون القاعدة المذكورة محدودة بالأعمال الجوارحيّة، وأمّاختياريّة التصوّر فتكون بمعنى عناية الباري بحصّة من خلاّقيّته إلى النفسالإنسانيّة بمقتضى قوله: «وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى»(1)، والنفس تقدر على أنتتصوّر بالقدرة الإلهيّة التي أعطاها الباري، وهكذا التصديق بالفائدة فهو أمراختياري، لا بمعنى اختياريّته المسبوقة بالإرادة؛ لاستلزامه للدور والتسلسلمع مخالفته للوجدان، بل معناها القدرة على التصديق بالفائدة بعناية اللّه تباركوتعالى، وهكذا نفس الإرادة فإنّها من الاُمور الاختياريّة لا بمعنى المسبوقيّةبالإرادة، بل بمعنى إهداء الخالق حصّة وشعاعاً من خلاّقيّته إلى النفس