(صفحه 47)
الإنسانيّة؛ ولذا يكون الإنسان قادراً على خلق التصوّر والتصديق بالفائدةوالإرادة، ومن هنا يقول: أنا القادر على الإرادة.
والقاعدة المذكورة هنا نظير ما يقول به المادّيّون: بأنّ كلّ موجود يحتاجإلى العلّة، وأنّه يشمل الواجب الوجود أيضاً، والحال أنّ الافتقار إلى العلّةيرتبط بالماهيّات الممكنة التي تكون نسبتها إلى الوجود والعدم على السواء،وأمّا واجب الوجود فلا معنى لاحتياجه في الوجود إلى العلّة؛ إذ الوجود لهضروريّ الثبوت فلابدّ من ملاحظة محدودة هذه القواعد.
ويؤيّد اختياريّة الإرادة ما ذكره صاحب الكفاية قدسسره في باب المشتقّ منإطلاق المشتقّات على الواجب الوجود والممكن الوجود على السواء، فلا فرقبين قولنا: «اللّه تعالى عالم» وقولنا: «الإنسان عالمٌ» من حيث مفهوم العالم،والفرق بينهما من حيث إنّ علم اللّه تعالى عين ذاته، وعلم الإنسان خارجٌ عنذاته وزائد عليه، وأنّه تعالى عالم بكلّ شيء وعلم الإنسان محدود، ولكن لفرق من حيث إطلاق العالم عليهما.
ونحن نقول: يتحقّق هذا المعنى في باب الإرادة أيضاً، فإنّ إطلاق المريد علىاللّه تعالى وعلى الإنسان على السواء، إلاّ أنّ إرادة اللّه تعالى عين ذاته وإرادةالإنسان أمرٌ حادثٌ توجدها النفس الإنسانيّة، وهذا فرق الواجب والممكنلا فرق الإرادة فيهما.
فالملاك في اختياريّة الفعل هو صدوره عن إرادةمن دون أن تكون هذهالإرادة مسبوقة بإرادة اُخرى، فإنّ هذا المعنى في إرادة الباري مستلزم لأنيكون سبحانه وتعالى محلاًّ للحوادث، فإنّ حدوث صفة في محلّ مستلزملحدوث قابليّة واستعداد في المحلّ لها، فيلزم تركّبه تعالى من جهة الفعليّةبالنظر إلى الذات وجهة القابليّة والاستعداد بالنظر إلى حدوث الإرادة،
(صفحه48)
والمركّب محتاج إلى أجزائه، والمحتاج ممكن، والممكن لا يكون واجباً لذاته،فيلزم انقلاب الواجب إلى الممكن، وهو محال.
المسألة الثانية: في بيان المراد من جملة: «الذاتي لايُعلّل» وأنّ السعادةوالشقاوة من مصاديقه أم لا؟
والذاتي قد يطلق ويراد به ذاتي باب الإيساغوجي ـ أي الكلّيات الخمسة والمراد منه الجنس والفصل والنوع المركّب منهما، وقد يطلق ويراد به ذاتي بابالبرهان، ومعناه أعمّ من الذاتي في باب الإيساغوجي؛ لأنّه يشمل لوازمالماهيّة كالزوجيّة للأربعة، بل مثل الوجود للواجب الوجود، والامتناعلشريك الباري.
إذا عرفت هذا فنقول: إنّ المراد من الذاتي في قاعدة «الذاتي لا يعلّل» هوالذاتي في باب البرهان، وأمّا الدليل على أنّه لا يعلّل فهو: أنّ كلّ محمول إذقسناه إلى موضوعه لا يخلو عن أحد الاُمور التالية:
الأوّل: أن يكون المحمول ضروريّ الثبوت بالنسبة إلى موضوعه كالحيوانالناطق بالقياس إلى الإنسان.
الثاني: أن يكون المحمول ضروري العدم بالنسبة إليه كالحيوان الناهقبالقياس إلى الإنسان.
الثالث: أن يكون المحمول بالنسبة إليه متساوي الطرفين كالوجود بالقياسإلى ماهيّة الإنسان.
ومن الواضح أنّ التعليل في الأوّل يخالف كون المحمول ضروريّ الثبوتلموضوعه، كما أنّ التعليل في الثاني ينافي كونه ضروري العدم للموضوع، وأمّإذا كانت النسبة متساوية الطرفين فلابدّ من العلّة في اتّصاف الموضوعبالمحمول؛ لأنّ ما يمكن أن يتّصف بشيء وأن لا يتّصف به لا يمكن أن يتّصف
(صفحه 49)
به بلا علّة، ولذا يصحّ السؤال عن علّة اتّصاف الإنسان بالوجود واتّصاف زيدبالقيام، ولا يصحّ السؤال عن علّة ناطقيّة الإنسان وإنسانيّته، وعن موجوديّةواجب الوجود، وامتناعيّة شريك الباري، وعن عدم ناهقيّة الإنسان؛ إذالذاتي لا يعلّل.
المسألة الثالثة: أنّ صاحب الكفاية قدسسره صرّح بأنّ السؤال عن شقاوةالإنسان وسعادته يكون بمنزلة السؤال عن ناطقيّة الإنسان وناهقيّة الحمار؛لكونهما ذاتيّين له، والذاتي لا يعلّل، ولابدّ لنا من ملاحظة السعادة والشقاوةمن حيث المفهوم، وأنّ الإنسان في أيّ مرحلة يتّصف بهما.
ولايخفى أنّه لا فرق بين العرف والشرع في مفهوم السعادةوالشقاوة، والسعيد يقال لمن كان واصلاً بآماله النفسانيّة وأغراضهالدنيويّة، والشقيّ في مقابله، إلاّ أنّ الآمال والأهداف تتفاوتبحسب الأشخاص والأفراد، وبنظر الشرع والعقلاء؛ إذ الشارع يلاحظ الدنيبعنوان المزرعة والمعبر للآخرة والجنّة ولذا يعبّر في القرآن: «فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْفَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ * خَــلِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمَـوَ تُوَ الاْءَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِىالْجَنَّةِ خَــلِدِينَ فِيهَا...»(1).
وأمّا العقلاء الغير المتديّنين فيعتقدون بأنّ السعادة عبارة عن الإيصال إلىالأهداف والآمال الدنيويّة من مقام الرئاسة... بحسب اختلاف أنظارهم،والبحث هنا حول السعادة والشقاوة بنظر الشرع، وقد عرفت في الآية السابقةأنّ السعادة طريق ينتهي إلى الجنّة، والشقاوة طريق ينتهي إلى النار.
وآية اُخرى تكون بمنزلة التفسير لها، وهي قوله تعالى: «فَأَمَّا مَن
(صفحه50)
طَغَى * وَ ءَاثَرَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى * وَ أَمَّا مَنْ خَافَمَقَامَ رَبِّهِى وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى»(1)، والظاهر أنّالسعادة عبارة عن الخوف من مقام الربّ، ونهي النفس الأمّارة بالسوء عنالهوى بالاختيار والإرادة، وهذا يوجب الإيصال إلى الجنّة، والشقاوة عبارةعن الطغيان واختيار الحياة الدنيويّة، وهذا ينتهي إلى النار، ويستفاد من إسنادالفعل إلى الإنسان أنّهما أمران اختياريّان.
إذا عرفت هذا فنقول: إنّه لا ترتبط السعادة والشقاوة بقاعدة «الذاتي ليعلّل»، فإنّهما ليستا من مقولة الجنس ولا الفصل، ولا النوع بالنسبة إلىالإنسان، كما هو واضح.
وهكذا لا يكونا من لوازم ماهية الإنسان؛ إذ تتحقّق في لازم الماهيّةخصوصيّتان:
الاُولى: أنّ تصوّر الماهيّة يوجب الانتقال إلى اللازم.
الثاني: أنّه لا مدخليّة للوجود الذهني والخارجي في لازم الماهيّة؛ لكونالملزوم نفس الماهيّة، مثل: ملزوميّة الأربعة للزوجيّة. وكلتاهما مفقودتانههنا؛ إذ لا يوجب إطلاق كلمة الإنسان الانتقال إلى السعادة والشقاوةوجداناً، مع أنّ اتّصاف الإنسان بالسعادة أو الشقاوة متوقّف على وجودهالخارجي وكونه عاقلاً وبالغاً وداخلاً في دائرة التكليف، ثمّ موافقة التكاليف أومخالفتها، فكيف يمكن كونهما من لوازم ماهيّة الإنسان؟!
والحاصل: أنّ ما يترتّب على الوجود ويكون من توابع الوجود يصحّالسؤال عن علّته كصحّة السؤال عن علّة الوجود، فلا تكون السعادةوالشقاوة من مصاديق قاعدة «الذاتي لا يعلّل».
(صفحه 51)
ومن الممكن أن يكون منشأ ما ذكره صاحب الكفاية قدسسره الرواية النبويّةالمعروفة، أنّه قال صلىاللهعليهوآله : «الشقيّ شقيٌّ في بطن اُمّه، والسعيد سعيدٌ في بطن اُمّه».(1)
واستفاد منها أنّ السعيد في عالم الرحم ينطبق عليه عنوان السعيد، والشقيّأيضاً فيه ينطبق عليه عنوان الشقيّ، ولذا تكون السعادة والشقاوة داخلتين فيذات الإنسان.
وفيه: أوّلاً: أنّ هذه الرواية دليل على خلافه، فإنّ ما يكون ذاتيّاً للإنسانيتحقّق معه في مرحلة الماهيّة، مثل ذاتيّة الناطقيّة له، ولا يختصّ بمرحلة منمراحل الوجود فقط، فنفس تحديد السعادة والشقاوة بالمرحلة الاُولى منمراحل الوجود الخارجي، وهي بطن الاُمّ ينافي ذاتيّتهما للإنسان.
وثانياً: أنّ للرواية معنىً عقلائيّاً، وهو: أنّه معلوم عدم صحّة القضاوةبملاحظة ظواهر الناس؛ إذ لا علم لنا بعاقبتهم، ولكن إذا أخبر مخبر صادقبأنّ عاقبة الشخص الفلاني تنتهي إلى السعادة ننظر إليه من حين الإخباربنظرة السعيد، مع أنّه لم يعمل بالفعل عمل الخير وما يوجب سعادته، وهكذإذا اُخبر بأنّ عاقبة فلان تنتهي إلى الشقاوة، فننظر إليه من حين الإخباربنظرة الشقيّ مع أنّه لم يعمل بعدُ ما يُوجب الشقاوة.
ويؤيّده ما نقله المفيد قدسسره عن سالم بن أبي حفصة أنّه قال: قال عمر بن سعدللحسين عليهالسلام : يا أبا عبداللّه إنّ قبلنا ناساً سفهاء يزعمون أنّي أقتلك؟ فقال لهالحسين عليهالسلام : «إنّهم ليسوا بسفهاء ولكنّهم حلماء، أما إنّه تقرّ عيني أن لا تأكل برّالعراق بعدي إلاّ قليلاً».(2)
والمستفاد من ذلك أنّ أهل العراق نظروا إلى عمرو بن سعد بنظرة الشقاوة؛
- (1) التوحيد للصدوق: 356، الحديث 3.