(صفحه 445)
واحد، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك في بعض المقدّمات التي مهّدناها لجريانالبراءة في الأقلّ والأكثر في الأجزاء.
وأمّا على القول الثاني فواضح؛ لأنّ المنهي عنه إنّما هو عدم واحد، ولا يعلمبتركه وحصول الامتثال إلاّ بالإتيان بكلّ مايحتمل دخله في المحقّق ـ بالكسر شطرا أو شرطا؛ إذ مع الاقتصار على المقدار المعلوم لايعلم بتحقّق المأمور بهحتّى يعلم بامتثال النهي بترك المنهي عنه.
أمّا على القول الأوّل فقد يقال بأنّه لامانع حينئذ من جريان البراءة؛ لأنّالأمر ينتهي في ظرف حرمة الترك إلى الأقلّ والأكثر، حيث إنّ ترك المأمور بهالناشئ من قبل ترك الأقلّ ـ أي عدم تحقّق الضربة الاُولى ـ ممّا يعلم تفصيلحرمته واستحقاق العقوبة عليه؛ للعلم بإفضائه إلى ترك المأمور به، وأمّا التركالناشئ من قبل الجزء أو الشرط المشكوك ـ أي عدم تحقّق الضربة الثانية فلا يعلم حرمته؛ لعدم العلم بأدائه إلى ترك المأمور به، فيشكّ في تعلّق النهيعنه، فتجري فيه أدلّة البراءة العقليّة والنقليّة.
وقلنا: إنّ هذه المناقشة مبتنية على مقدّمتين: الاُولى: كون الأمر بالشيءمقتضيا للنهي عن النقيض والضدّ العامّ، والثانية: القول بتعدّد الأعدام؛ لعدمالمأمور به المتعلّق للنهي، فإنّ بعضها متعلّق للنهي الناشيء عن الأمر المتعلّقبالمأمور به قطعا، وبعضها مشكوك من هذه الجهة، وكلاهما ليس قابلللالتزام.
ولكن على فرض تماميّة المقدّمتين لا مجال لجريان البراءة؛ لأنّ هذهالنواهي المتعلّقة بأعدام المأمور به حيث إنّها لاتكون إلاّ ناشئة من الأمرالمتعلّق به؛ ضرورة أنّها لاتكون نواهي مستقلّة؛ لأنّ مباديها إنّما هي المباديالموجبة للأمر، فلا مجال تكون في السعة والضيق تابعة للأمر، فلا مجال لإجراء
(صفحه446)
البراءة فيها مع جريانها فيه، مضافا إلى أنّه لو فرض كونها نواهي مستقلّةفجريان البراءة فيها لايوجب جواز الاقتصار على الأقلّ بعد كون الأمر حجّةتامّة والاشتغال به يقيني، ومقتضى حكم العقل لزوم إحراز الامتثال والعلمبإتيان المأمور به، وهو لا يحصل إلاّ بضمّ القيد المشكوك إلى السبب.
وممّا ذكرنا ينقدح الخلل فيما أفاده المحقّق العراقي من تسليم جريان البراءة لوكان إضافة أجزاء المحقّق ـ بالكسر ـ إلى المحقّق من قبيل الجهات التقييديّةالموجبة لتكثّر أعدام المأمور به بالإضافة إليها، حيث إنّه بتعدّد أجزاء المحقّقحينئذ تتعدّد الإضافات والتقيّدات، وبذلك تتكثّر الأعدام أيضا، فينتهي الأمرمن جهة حرمة الترك إلى الأقلّ والأكثر(1).
ولكنّك عرفت عدم الفرق بين المسلكين هنا وعدم ترتّب أثر عليهما في هذالمقام، فتدبّره.
ولكن نقل التفصيل بين الأسباب والمحصّلات العقليّة والعاديّة وبينالأسباب والمحصّلات الشرعيّة بجريان البراءة في الاُولى وعدم جريانها فيالثانية، ومنشأ التوهّم هنا أنّ في المسبّبات الشرعيّة يكون بيان الأسباب أيضبعهدة الشارع، فبعد بيان خصوصيّات الغسل ـ مثلاً ـ وعدم تعرّض الترتيببين اليمين واليسار لا مانع من جريان البراءة فيه عند الشكّ في اعتباره.
ولكنّك عرفت أنّه لا فرق في عدم جريان البراءة في الأسباب والمحقّقاتبين كونها عاديّة، كما إذا أمر بتنظيف المسجد وتردّد محصّله بين أن يكون مجرّدالكنس أو مع إضافة رشّ الماء، أو عقليّة، كما إذا أمر بقتل زيد ـ مثلاً ـ وتردّدمحقّقه بين أن يكون ضربة أو ضربتين، وبين كونها شرعيّة، كما إذا فرض أنّالمأمور به حقيقة في باب الغسل ـ مثلاً ـ هي الطهارة الحاصلة منه، وتردّد أمر
- (1) نهاية الأفكار 3: 403.
(صفحه 447)
الغسل بين أن يكون الترتيب بين الأجزاء أو بين الجانبين ـ مثلاً ـ معتبرا فيهأم لا؟
ولتوضيح عدم الجريان في الأسباب والمحصّلات الشرعيّة نقول: إنّها علىقسمين:
أحدهما: أن يكون المسبّب من الاُمور الاعتباريّة العقلائيّة المتعارفةعندهم، غاية الأمر أنّ الشارع يتصرّف في الأسباب، فيردع عن بعضها وإنكان عندالعقلاء موضوعا للاعتبار، أو يزيد عليها سببا آخر في عرض سائرالأسباب.
وبالجملة، فتصرّفه حينئذ مقصور على الأسباب إمّا بخلع بعضها عنالسببيّة، وإمّا بتوسعة دائرتها بإضافة بعض ما لم يكن عند العقلاء سبباً. مثلاً:حقيقة النكاح والطلاق من الاُمور المعتبرة عند العقلاء، والشارع أيضا تبعهمفي ذلك ولكن تصرّف في أسباب حصولهما، فردع عن بعضها ولم يرتّب الأثرعليه.
ثانيهما: أن يكون المسبّب أيضا ممّا لم يكن معتبرا عند العقلاء، بل كان منالمجعولات الشرعيّة والمخترعات التي لم تكن لها سابقة عند العقلاء. وفي هذالقسم لابدّ وأن يكون السبب أيضا مجعولاً كالمسبّب؛ لأنّ المفروض أنّالمسبّب من المخترعات الشرعيّة، ولا يعقل أن يكون لمثل ذلك أسباب عقليّةأو عاديّة، بل أسبابها لابدّ وأن تكون مجعولة شرعا ولا يغني جعل واحدمنهما عن الآخر، أمّا جعل المسبّب فلما عرفت من أنّ المفروض كونه منالمجعولات الشرعيّة، وأسبابها لابدّ وأن تكون شرعيّة، فمجرّد كون الطهارةالمأمور بها أمرا اعتباريّا شرعيّاً لايغني عن جعل الوضوء والغسل سببلحصولها، كما أنّ جعل السبب بالجعل البسيط لا بالجعل المركّب الذي مرجعه
(صفحه448)
إلى جعل السبب سببا لايغني عن جعل المسبّب.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّه لامجال لجريان البراءة العقليّة في الأسبابوالمحصّلات الشرعيّة؛ لأنّ اعتبارها وإن كان بيد الشارع إلاّ أنّه حيث يكونالمأمور به هو المسبّبات، وهي مبيّنة لا خفاء فيها، الاشتغال فمقتضى اشتغالاليقيني بها لزوم العلم بتحقّقها، وهو يتوقّف على ضمّ القيد المشكوك أيضا.
وأمّا البراءة الشرعيّة فقد يقال بجريانها؛ لأنّ الشكّ في حصول المسبّبوهي الطهارة أو النقل أو الانتقال ـ مثلاً ـ مسبّب عن الشكّ في الأسباب، وأنّههل الترتيب بين الأجزاء ـ مثلاً ـ معتبر في الوضوء، أو العربيّة والماضويّةمعتبرة في الصيغة عند الشارع أم لا؟
وبعد كون الأسباب من المجعولات الشرعيّة لا مانع من جريان حديثالرفع ونفي القيد الزائد المشكوك به، وإذا ارتفع الشكّ عن السبب بسببحديث الرفع يرتفع الشكّ عن المسبّب أيضا، ولا يلزم أن يكون الأصل مثبتبعد كون المفروض أنّ المسبّب من الآثار الشرعيّة المترتّبة على السبب.
ولكن لا يخفى أنّ مثل حديث الرفع وإن كان يرفع اعتبار الزيادة المشكوكةلكونها مجهولة غيرمبيّنة، إلاّ أنّ رفعها لايستلزم رفع الشكّ عن حصولالمسبّب؛ لأنّه يتوقّف على أن يكون ما عدا الزيادة تمام السبب وتمام المؤثّر؛إذ بدونه لا يرتفع الشكّ عن المسبّب. وكونه تمام السبب لايثبت برفع اعتبارالزيادة المشكوكة إلاّ على القول بالأصل المثبت، ونحن لا نقول به.
فكما أنّ العقل يحكم بأنّه إذا تحقّق السبب يتحقّق المسبّب، هكذا يحكمأيضا بأنّه لايتحقّق المسبّب إلاّ بتحقّق تمام السبب، وإذا رفع الجزء أو الشرطالمشكوك بالحديث فلا طريق لإحراز أنّ فاقده تمام السبب لحصول المسبّب،فلابدّ من إثبات لازم عقلي ـ أي الغسل الفاقد لترتيب تمام السبب لحصول
(صفحه 449)
الطهارة ـ بواسطة حديث الرفع، وهو من الاُصول المثبتة.