(صفحه450)
المطلب الرابع: في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر
الارتباطيّين من جهة الاشتباه في الاُمور الخارجيّة
وكون الشبهة موضوعيّة
ولا بدّ قبل الخوض في المقصود من بيان المراد من دوران الأمر بين الأقلّوالأكثر الارتباطيّين في الشبهة الموضوعيّة، والفرق بينه وبين الشكّ فيالأسباب والمحصّلات، فنقول:
قد عرفت أنّ المراد بالشكّ في المحصّل أنّ الأمر قد تعلّق بشيء مبيّن معلوم،غاية الأمر أنّ تحقّقه في الواقع أو في عالم الاعتبار يحتاج إلى السبب والمحصّل،وهو قد يكون عقليّا أو عاديّا، وقد يكون شرعيّا، فذاك السبب والمحصّللايكون مأمورا به بوجه، بل المأمور به إنّما هو الأمر المتحصّل منه، فإنّالضربة أو الضربتين اللتين تؤثّران في قتل من أمر بقتله لاتكونان مأمورا بهمأصلاً، كما هو واضح.
وأمّا الأسباب الموضوعيّة في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّينفالشكّ فيها إنّما هو في نفس تحقّق المأمور به، وكون المأتي به مصداقا له، لا فيسبب تحقّقه وعلّة تحصّله، كما في الشكّ في المحصّل، فلو أمر المولى بإكرام العلماء
(صفحه 451)
على سبيل العام المجموعي، ودار أمرهم بين مائة أو أزيد للشكّ في عالميّة زيدـ مثلاً ـ فمرجع الشكّ حقيقة إلى الشكّ في كون إكرام مجموع العلماء الذي اُمر بههل يتحقّق في الخارج بالاقتصار على إكرام المائة، أو لابدّ من ضمّ إكرام زيدالمشكوك كونه عالما، وليس إكرام مجموع العلماء أمرا آخر متحصّلاً من إكرامالمائة أو مع إضافة الفرد المشكوك، بل هو عينه، فالشكّ في الشبهة الموضوعيّةإنّما هو في نفس تحقّق المأمور به وانطباق عنوانه على المأتي به في الخارج،غاية الأمر أنّ منشأ الشكّ هو الاشتباه في الاُمور الخارجيّة.
وممّا ذكرنا من الفرق بين الشكّ في المحصّل والشبهة الموضوعيّة يظهر أنّالمثالين اللذين أوردهما الشيخ الأنصاري رحمهالله مثالاً للشبهة الموضوعيّة لإشكال فيهما أصلاً، حيث قال: ومنه ـ يعنى من جملة ما إذا أمر بمفهوم مبيّنمردّد مصداقه بين الأقلّ والأكثر ـ ما إذا وجب صوم شهر هلالي ـ وهو ما بينالهلالين ـ فشكّ في أنّه ثلاثون أو ناقص، ومثل ما أمر بالطهور لأجل الصلاةـ أعني الفعل الرافع للحدث أو المبيح للصلاة ـ فشكّ في جزئيّة شيء للوضوءأو الغسل الرافعين(1). إنتهى.
ضرورة أنّ دوران الأمر بين كون الشهر تامّا أو ناقصا لايكون من قبيلالترديد في سبب المأمور به ومحصّله، بل إنّما يكون الترديد في نفس تحقّقالمأمور به ـ وهو صوم شهر هلالي ـ وأنّه هل يتحقّق بالاقتصار على الأقلّ أملا؟ ومنشأ الشكّ فيه إنّما هو الاشتباه في الاُمور الخارجيّة.
وأمّا المثال الثاني فالمراد منه كما يقتضيه التدبّر في العبارة ليس أن يكونالمأمور به هو الطهور الذي هو ضدّ الحدث، ويتحقّق بالوضوء أو الغسل حتّىيقال بأنّه من قبيل الشكّ في المحصّل، كما في تقريرات العلمين النائيني رحمهالله
- (1) فرائد الاُصول 2: 478.
(صفحه452)
والعراقي رحمهالله بل المراد به هو كون المأمور به نفس الوضوء أو الغسل بما أنّهمرافعان للحدث أو مبيحان للصلاة، والشكّ إنّما هو في نفس تحقّق المأمور به فيالخارج لا في سببه ومحصّله؛ لأنّ الوضوء وكذا الغسل لايكون له سببومحصّل.
نظير ذلك ما إذا قال المولى: اضرب زيدا ضربا موجبا للقتل، فتردّدالضرب الواقع في الخارج بين أن يكون متّصفا بهذا الوصف أم لم يكن، فإنّهذا الترديد لايكون راجعا إلاّ إلى نفس تحقّق المأمور به في الخارج لا إلىسببه؛ ضرورة أنّه لايكون له سبب، بل الذي له سبب إنّما هو القتل،والمفروض أنّه لايكون مأمورا به، بل المأمور به هو الضرب الموجب للقتل،وتحقّقه بنفسه مردّد في الخارج.
فالإنصاف أنّ المناقشة في هذا المثال ناشئة من عدم ملاحظة العبارة بتمامهوقصر النظر على كلمة الطهور وتخيّل كون المراد به هو الأمر المتحقّق بسببالوضوء أو الغسل مع الغفلة عن أنّه رحمهالله فسّره بالفعل الرافع أو المبيح، وهوالوضوء أو الغسل.
إذا تقرّر ما ذكرنا من عدم رجوع الشبهة الموضوعيّة إلى الشكّ في المحصّلفنقول ـ بعد توسعة دائرة البحث في مطلق الشبهات الموضوعيّة أعمّ منالاستقلالي والارتباطي ـ : إنّ الأقوال فيها ثلاثة: جريان البراءة فيها مطلقا،وعدم جريانها فيها مطلقا، والتفصيل بجريان البراءة في الأقلّ والأكثرالاستقلاليّين والاحتياط في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.
ذهب المحقّق العراقي إلى جريان البراءة فيها، سواء كانت الشبهة من الأقلّوالأكثر الاستقلاليّين أو من الأقل والأكثر الارتباطيّين؛ نظرا إلى أنّه على كلّتقدير يرجع الشكّ في الموضوع الخارجي في اتّصافه بعنوان موضوع الكبرى
(صفحه 453)
إلى الشكّ في سعة الحكم وضيقه من ناحية الخطاب، والمرجع في مثله هوالبراءة(1).
وقد يقال بعدم جريانها مطلقا؛ نظرا إلى أنّ وظيفة الشارع ليس إلاّ بيانالكبريات فقط لاالصغريات أيضا، مثلاً: إذا قال: «أكرم العلماء»، أو «لتشرب الخمر» فقد تمّ بيانه بالنسبة إلى وجوب إكرام كلّ عالم واقعي،وبالنسبة إلى حرمة شرب جميع أفراد الخمر الواقعي. ولا يلزم مع ذلك أنيبيّن للمكلّفين أفراد طبيعة العالم، وأنّ زيدا ـ مثلاً ـ عالم أم لا، وكذا لايلزمعليه تعيين الأفراد الواقعيّة للخمر، كما هو واضح.
وحينئذ فبيان المولى قد تمّ بالنسبة إلى جميع الأفراد الواقعيّة لموضوعالكبرى، ففي موارد الشكّ يلزم الاحتياط بحكم العقل؛ خروجا من المخالفةالاحتماليّة الغير الجائزة بعد تماميّة الحجّة ووصول البيان بالنسبة إلى ما كانعلى المولى بيانه.
والتحقيق: التفصيل بين الاستقلالي والارتباطي، فتجري البراءة في مثل:«أكرم العلماء»، إذ اُخذ العام على سبيل العام الاُصولي ـ أي الإستغراقي، ولتجري إذا اُخذ بنحو العام المجموعي.
والسرّ فيه: أنّ المأمور به في مثل «أكرم كلّ عالم» إنّما هو إكرام كلّ واحدمن أفراد طبيعة العالم، بحيث كان إكرام كلّ واحد منها مأمورا به مستقلاًّ، فهوبمنزلة «أكرم زيدا العالم» و«أكرم عمرا العالم» و«أكرم بكرا العالم»، وهكذا،غاية الأمر أنّ الآمر توصّل إلى إفادة ذلك بأخذ مثل كلمة «كلّ» في خطابه،وإلاّ فعنوان الكلّ لايكون مطلوبا ومترتّبا عليه الغرض، بل هو عنوان مشيرإلى أفراد مايليه من العالم وغيره ـ مثل عنوان الجالس في قول الإمام عليهالسلام :
- (1) نهاية الأفكار 3: 409.
(صفحه454)
«عليك بهذ الجالس» ـ وقد حقّقنا ذلك في مبحث العموم والخصوص منمباحث الألفاظ.
وحينئذ فلو شكّ في فرد أنّه عالم أم لا، يكون مرجع هذا الشكّ إلى الشكّفي أنّه هل يجب إكرامه أم لا؟ ووظيفة المولى وإن لم تكن إلاّ بيان الكبريات،إلاّ أنّها بمجرّدها لاتكون حجّة ما لمينضمّ إليها العلم بالصغرى وجدانا أوبطريق معتبر شرعي أو عقلي، والمقصود من البيان في قاعدة قبح العقاببلابيان هو تحقّق الحجّة على التكليف، وتحقّق الحجّة يحتاج إلى إحرازالصغرى والكبرى معا، وإلاّ لم تتحقّق الحجّة، فقوله: «أكرم العلماء»، وإن كانمفيدا لوجوب إكرام كلّ عالم واقعي، إلاّ أنّه لايكون حجّة بالنسبة إلى الفردالمشكوك، والمفروض أيضا أنّ المأمور به لايكون له عنوان شكّ في تحقّقه معالإخلال بإكرام الفرد المشكوك؛ لما عرفت من أنّ عنوان الكلّ عنوان مشيرإلى أفراد ما يليه من غير أن يجب علينا تحصيله.
وهذا بخلاف العام المجموعي، فإنّ المأمور به فيه إنّما هو المجموع بما هومجموع، لكون الغرض مترتّبا عليه، ومع عدم إكرام الفرد المشكوك، يشكّ فيتحقّق عنوان المأمور به؛ لعدم العلم حينئذٍ بإكرام المجموع. والمفروض أنّ هذالعنوان مورد تعلّق الغرض والأمر، وبعد العلم بأصل الإشتغال لايكون مفرّمن إحراز حصول المأمور به، وهو لايتحقّق إلاّ بضمّ الفرد المشكوك،والإخلال به إنّما هو كالاقتصار على مجرّد احتمال إكرام بعض من كان عالمقطعا، فكما أنّ هذا الاحتمال لا يجدي في نظر العقل بعد إحراز كونه عالما،كذلك مجرّد احتمال عدم كونه عالما لاينفع في عدم لزوم إكرامه.
تكملة:
إذا تعلّق التكليف بالطبيعة كما في باب النواهي مثل: «لاتشرب الخمر»،