(صفحه448)
إلى جعل السبب سببا لايغني عن جعل المسبّب.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّه لامجال لجريان البراءة العقليّة في الأسبابوالمحصّلات الشرعيّة؛ لأنّ اعتبارها وإن كان بيد الشارع إلاّ أنّه حيث يكونالمأمور به هو المسبّبات، وهي مبيّنة لا خفاء فيها، الاشتغال فمقتضى اشتغالاليقيني بها لزوم العلم بتحقّقها، وهو يتوقّف على ضمّ القيد المشكوك أيضا.
وأمّا البراءة الشرعيّة فقد يقال بجريانها؛ لأنّ الشكّ في حصول المسبّبوهي الطهارة أو النقل أو الانتقال ـ مثلاً ـ مسبّب عن الشكّ في الأسباب، وأنّههل الترتيب بين الأجزاء ـ مثلاً ـ معتبر في الوضوء، أو العربيّة والماضويّةمعتبرة في الصيغة عند الشارع أم لا؟
وبعد كون الأسباب من المجعولات الشرعيّة لا مانع من جريان حديثالرفع ونفي القيد الزائد المشكوك به، وإذا ارتفع الشكّ عن السبب بسببحديث الرفع يرتفع الشكّ عن المسبّب أيضا، ولا يلزم أن يكون الأصل مثبتبعد كون المفروض أنّ المسبّب من الآثار الشرعيّة المترتّبة على السبب.
ولكن لا يخفى أنّ مثل حديث الرفع وإن كان يرفع اعتبار الزيادة المشكوكةلكونها مجهولة غيرمبيّنة، إلاّ أنّ رفعها لايستلزم رفع الشكّ عن حصولالمسبّب؛ لأنّه يتوقّف على أن يكون ما عدا الزيادة تمام السبب وتمام المؤثّر؛إذ بدونه لا يرتفع الشكّ عن المسبّب. وكونه تمام السبب لايثبت برفع اعتبارالزيادة المشكوكة إلاّ على القول بالأصل المثبت، ونحن لا نقول به.
فكما أنّ العقل يحكم بأنّه إذا تحقّق السبب يتحقّق المسبّب، هكذا يحكمأيضا بأنّه لايتحقّق المسبّب إلاّ بتحقّق تمام السبب، وإذا رفع الجزء أو الشرطالمشكوك بالحديث فلا طريق لإحراز أنّ فاقده تمام السبب لحصول المسبّب،فلابدّ من إثبات لازم عقلي ـ أي الغسل الفاقد لترتيب تمام السبب لحصول
(صفحه 449)
الطهارة ـ بواسطة حديث الرفع، وهو من الاُصول المثبتة.
(صفحه450)
المطلب الرابع: في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر
الارتباطيّين من جهة الاشتباه في الاُمور الخارجيّة
وكون الشبهة موضوعيّة
ولا بدّ قبل الخوض في المقصود من بيان المراد من دوران الأمر بين الأقلّوالأكثر الارتباطيّين في الشبهة الموضوعيّة، والفرق بينه وبين الشكّ فيالأسباب والمحصّلات، فنقول:
قد عرفت أنّ المراد بالشكّ في المحصّل أنّ الأمر قد تعلّق بشيء مبيّن معلوم،غاية الأمر أنّ تحقّقه في الواقع أو في عالم الاعتبار يحتاج إلى السبب والمحصّل،وهو قد يكون عقليّا أو عاديّا، وقد يكون شرعيّا، فذاك السبب والمحصّللايكون مأمورا به بوجه، بل المأمور به إنّما هو الأمر المتحصّل منه، فإنّالضربة أو الضربتين اللتين تؤثّران في قتل من أمر بقتله لاتكونان مأمورا بهمأصلاً، كما هو واضح.
وأمّا الأسباب الموضوعيّة في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّينفالشكّ فيها إنّما هو في نفس تحقّق المأمور به، وكون المأتي به مصداقا له، لا فيسبب تحقّقه وعلّة تحصّله، كما في الشكّ في المحصّل، فلو أمر المولى بإكرام العلماء
(صفحه 451)
على سبيل العام المجموعي، ودار أمرهم بين مائة أو أزيد للشكّ في عالميّة زيدـ مثلاً ـ فمرجع الشكّ حقيقة إلى الشكّ في كون إكرام مجموع العلماء الذي اُمر بههل يتحقّق في الخارج بالاقتصار على إكرام المائة، أو لابدّ من ضمّ إكرام زيدالمشكوك كونه عالما، وليس إكرام مجموع العلماء أمرا آخر متحصّلاً من إكرامالمائة أو مع إضافة الفرد المشكوك، بل هو عينه، فالشكّ في الشبهة الموضوعيّةإنّما هو في نفس تحقّق المأمور به وانطباق عنوانه على المأتي به في الخارج،غاية الأمر أنّ منشأ الشكّ هو الاشتباه في الاُمور الخارجيّة.
وممّا ذكرنا من الفرق بين الشكّ في المحصّل والشبهة الموضوعيّة يظهر أنّالمثالين اللذين أوردهما الشيخ الأنصاري رحمهالله مثالاً للشبهة الموضوعيّة لإشكال فيهما أصلاً، حيث قال: ومنه ـ يعنى من جملة ما إذا أمر بمفهوم مبيّنمردّد مصداقه بين الأقلّ والأكثر ـ ما إذا وجب صوم شهر هلالي ـ وهو ما بينالهلالين ـ فشكّ في أنّه ثلاثون أو ناقص، ومثل ما أمر بالطهور لأجل الصلاةـ أعني الفعل الرافع للحدث أو المبيح للصلاة ـ فشكّ في جزئيّة شيء للوضوءأو الغسل الرافعين(1). إنتهى.
ضرورة أنّ دوران الأمر بين كون الشهر تامّا أو ناقصا لايكون من قبيلالترديد في سبب المأمور به ومحصّله، بل إنّما يكون الترديد في نفس تحقّقالمأمور به ـ وهو صوم شهر هلالي ـ وأنّه هل يتحقّق بالاقتصار على الأقلّ أملا؟ ومنشأ الشكّ فيه إنّما هو الاشتباه في الاُمور الخارجيّة.
وأمّا المثال الثاني فالمراد منه كما يقتضيه التدبّر في العبارة ليس أن يكونالمأمور به هو الطهور الذي هو ضدّ الحدث، ويتحقّق بالوضوء أو الغسل حتّىيقال بأنّه من قبيل الشكّ في المحصّل، كما في تقريرات العلمين النائيني رحمهالله
- (1) فرائد الاُصول 2: 478.
(صفحه452)
والعراقي رحمهالله بل المراد به هو كون المأمور به نفس الوضوء أو الغسل بما أنّهمرافعان للحدث أو مبيحان للصلاة، والشكّ إنّما هو في نفس تحقّق المأمور به فيالخارج لا في سببه ومحصّله؛ لأنّ الوضوء وكذا الغسل لايكون له سببومحصّل.
نظير ذلك ما إذا قال المولى: اضرب زيدا ضربا موجبا للقتل، فتردّدالضرب الواقع في الخارج بين أن يكون متّصفا بهذا الوصف أم لم يكن، فإنّهذا الترديد لايكون راجعا إلاّ إلى نفس تحقّق المأمور به في الخارج لا إلىسببه؛ ضرورة أنّه لايكون له سبب، بل الذي له سبب إنّما هو القتل،والمفروض أنّه لايكون مأمورا به، بل المأمور به هو الضرب الموجب للقتل،وتحقّقه بنفسه مردّد في الخارج.
فالإنصاف أنّ المناقشة في هذا المثال ناشئة من عدم ملاحظة العبارة بتمامهوقصر النظر على كلمة الطهور وتخيّل كون المراد به هو الأمر المتحقّق بسببالوضوء أو الغسل مع الغفلة عن أنّه رحمهالله فسّره بالفعل الرافع أو المبيح، وهوالوضوء أو الغسل.
إذا تقرّر ما ذكرنا من عدم رجوع الشبهة الموضوعيّة إلى الشكّ في المحصّلفنقول ـ بعد توسعة دائرة البحث في مطلق الشبهات الموضوعيّة أعمّ منالاستقلالي والارتباطي ـ : إنّ الأقوال فيها ثلاثة: جريان البراءة فيها مطلقا،وعدم جريانها فيها مطلقا، والتفصيل بجريان البراءة في الأقلّ والأكثرالاستقلاليّين والاحتياط في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.
ذهب المحقّق العراقي إلى جريان البراءة فيها، سواء كانت الشبهة من الأقلّوالأكثر الاستقلاليّين أو من الأقل والأكثر الارتباطيّين؛ نظرا إلى أنّه على كلّتقدير يرجع الشكّ في الموضوع الخارجي في اتّصافه بعنوان موضوع الكبرى