(صفحه464)
نعم، لو كان دليل اعتبار الجزء هو الإجماع يمكن تخصيص الجزئيّةالمستفادة منه بحال الذكر؛ لأنّه القدر المتيقّن، بخلاف ما لو كان الدليل غيره،فإنّ إطلاقه مثبت لعموم الجزئيّة لحال النسيان.
لايقال: إنّ ذلك يتمّ إذا كان الدليل بلسان الوضع، وأمّا إذا كان بلسان الأمرفلا؛ لأنّ الجزئيّة حينئذ تتبع الحكم التكليفي، فإذا كان مختصّا بحكم العقلبحال الذكر فالجزئيّة أيضا تختصّ بحال الذكر.
فإنّه يقال: إنّه لو تمّ ذلك فإنّما هو على فرض ظهور تلك الأوامر في المولويّةالنفسيّة أو الغيريّة، وإلاّ فعلى ما هو التحقيق من كونها إرشادا إلى جزئيّةمتعلّقاتها فلا يستقيم ذلك؛ إذ لايكون حينئذ محذور عقلي.
مع أنّه على فرض المولويّة ولو بدعوى كونها بحسب اللبّ عبارة عنقطعات ذلك الأمر النفسي المتعلّق بالمركّب غير أنّها صارت مستقلّة في مقامالبيان، نقول: إنّ المنع المزبور إنّما يتّجه لو كان حكم العقل بقبح تكليف الناسيمن الأحكام الضروريّة المرتكزة في الأذهان بحيث يكون كالقرينة المختصّةبالكلام مانعا عن انعقاد الظهور، مع أنّه ممنوع؛ لأنّه من العقليّات التي لاينتقلالذهن إليها إلاّ بعد الالتفات والتأمّل في المبادئ التي أوجبت حكم العقل،فيصير حينئذ من القرائن المنفصلة المانعة عن حجّيّة الظهور، لا عن أصلالظهور.
وعليه يمكن إن يقال: إنّ غاية ما يقتضيه الحكم العقلي إنّما هو المنع عنحجّيّة ظهور تلك الأوامر في الإطلاق بالنسبة إلى الحكم التكليفي، وأمّبالنسبة إلى الحكم الوضعي وهو الجزئيّة وإطلاقها لحال النسيان، فحيث لقرينة على الخلاف من هذه الجهة يؤخذ بظهورها في ذلك.
(صفحه 465)
وعلى فرض الإغماض عن ذلك أيضا يمكن التمسّك بإطلاق المادّة لدخلالجزء في الملاك والمصلحة حتّى في حال النسيان، فلا فرق حينئذ في صحّةالتمسّك بالإطلاق بين كون الدليل بلسان الحكم التكليفي أو بلسان الوضع(1).إنتهى.
وفي جميع الأجوبة الثلاثة التي أجاب بها عن التفصيل الذي ذكره بقوله:«لايقال»؛ نظر.
أما الجواب الأوّل الذي يرجع إلى تسليم التفصيل مع ظهور تلك الأوامرفي المولويّة وعدم استقامته مع كونها إرشادا إلى جزئيّة متعلّقاتها، فيرد عليه:أنّ الأوامر الإرشاديّة لاتكون مستعملة في غير ما وضع له هيئة الأمر، وهوالبعث والتحريك إلى طبيعة المادّة، بحيث كان مدلولها الأوّلي هو جزئيّة المادّةللمركّب المأمور بها في المقام، فكأنّ قوله: «اسجد في الصلاة»، عبارة اُخرىعن كون السجود جزءا لها، بل الأوامر الإرشاديّة أيضا تدلّ على البعثوالتحريك، فإنّ قوله: «اسجد في الصلاة»، معناه الحقيقي هو البعث إلىإيجاد سجدة فيها، غاية الأمر أنّ المأمور به بهذا الأمر لايكون مترتّبا عليهغرض نفسي، بل الغرض من هذا البعث إفهام كون المادّة جزءا، وأنّ الصلاةلاتتحقّق بدونها.
وبالجملة، فالأمر الإرشادي ليس بحيث لم يكن مستعملاً في المعنى الحقيقيلهيئة الأمر، بل الظاهر كونه كالأمر المولوي مستعملاً في البعث والتحريك، فإذكان الحكم التكليفي مختصّا بحال الذكر لكانت الجزئيّة أيضا مختصّة به، منغير فرق بين كون الدليل بلسان الأمر المولوي أو يكون بلسان الأمرالإرشادي.
- (1) نهاية الأفكار 3: 424.
(صفحه466)
وأمّا الجواب الثاني فيرد عليه؛ أوّلاً: ما عرفت سابقا من أنّه لا فرق فيملوكان المخصّص عقليّا بين كون ذلك الحكم العقلي من العقليّات الضروريّة، أومن العقليّات التي لاينتقل الذهن إليها إلاّ بعد الالتفات والتأمّل في المبادئالموجبة له، فإنّ في كلتا الصورتين يكون المخصّص كالقرينة المختصّة بالكلاممانعا من انعقاد الظهور.
وثانياً: أنّه لو سلّم ذلك في العقليّات الغير الضروريّة وأنّها من قبيل القرائنالمنفصلة المانعة من حجّيّة الظهور لا من أصله، فنقول: إنّ ما ذكره منالتفصيل بين حجّيّة ظهور الأوامر في الإطلاق بالنسبة إلى الحكم التكليفىوبين حجّيّتها فيه بالنسبة إلى الحكم الوضعي إذا كان منتزعا من الحكمالتكليفي وتابعا له يكون في السعة والضيق مثله، ولا يمكن أن يكون الحكمالتكليفي مختصّا بحال الذكر، والحكم الوضعي المستفاد منه مطلقا وشاملاً لحالالذكر وعدمه؛ إذ ليس الظهوران ـ وهما الظهور في الإطلاق بالنسبة إلى الحكمالتكليفي، والظهور فيه بالنسبة إلى الحكم الوضعي ـ في عرض واحد حتّىلايكون رفع اليد عن أحدهما مستلزما لرفع اليد عن الآخر، بل الظهور الثانيفي طول الظهور الأوّل، ولا مجال لحجّيّته مع رفع اليد عنه.
وأمّا الجواب الثالث فيرد عليه: أنّ استفادة الملاك والمصلحة إنّما هوبملاحظة تعلّق الأمر، بناءً على ما ذكره العدليّة من أنّ الأوامر الواقعيّة تابعةللمصالح النفس الأمرية، وإلاّ فمع قطع النظر عن تعلّق الأمر لا سبيل لنا إلىاستفادة المصلحة أصلاً.
وحينئذ فنقول: بعدما ثبت كون إطلاق الهيئة مقيّدا بحال الذكرلا مجال لاستفادة الملاك والمصلحة مطلقا حتّى في غير حال الذكر، وتعلّقالأمر بالسجود ـ مثلاً ـ إنّما يكشف عن كونه ذا مصلحة بالمقدار الذي
(صفحه 467)
ثبت كونه مأمورا به، ولا مجال لاستفادة كونه ذا مصلحة حتّى إذا لم يكنمأمورا به، كما في حال النسيان على ما هو المفروض بعد كون هذه الاستفادةمبتنية على مذهب العدليّة، وهو لايقتضي ذلك إلاّ في موارد ثبوت الأمر،كما هو واضح.
فالإنصاف أنّ هذا الجواب كسابقيه ممّا لايدفع به الإيراد ولا ينهضللجواب عن القول بالتفصيل، بل لا محيص عن هذا القول بناءً على مذهبهممن انحلال الخطابات الكلّيّة بعدد المكلّفين وعدم إمكان كون الناسي مكلّفا؛لعدم شمول إطلاق الهيئة له، وأمّا بناءً على ما حقّقناه تبعا لاُستاذنا السيّدالإمام رحمهالله من عدم انحلال الخطابات حسب تعدّد المخاطبين، فلا مانع من كونهمكلّفا كالجاهل وغير القادر وغيرهما من المكلّفين المعذورين، وحينئذ فليبقى فرق بين كون الأدلّة المتضمّنة لبيان الأجزاء بلسان الوضع أو بلسانالأمر، كما لا يخفى.
فيستفاد من الدليل إطلاق الجزئيّة ولا تصل النوبة إلى الأصل الموافق أوالمخالف.
المقام الثاني: فيما يقتضيه الأصل الشرعي في النقيصية السهويّة
اعلم أنّ مورد البحث في هذا المقام ما إذا كان للدليل المثبت للجزئيّة إطلاقيشمل حال النسيان أيضا، بحث لو لم يكن مثل حديث الرفع(1) في البين لكنّنحكم بعدم الاكتفاء بالمركّب الناقص المأتي به في حال النسيان؛ لكونه فاقدللجزء المعتبر فيه مطلقا، غاية الأمر أنّ محلّ البحث هنا: أنّه هل يمكن تقييدإطلاقات أدلّة الأجزاء بمثل حديث الرفع المشتمل على رفع النسيان حتّى
- (1) وسائل الشيعة 15: 369، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.
(صفحه468)
يكون مقتضاه اختصاص الجزئيّة بحال الذكر وكون المركّب الناقص مصداقللمأمور به أم لا؟ ولا يخفى أنّه لابدّ في إثبات أجزاء المركّب الناقص أوّلاً منالالتزام بكون حديث الرفع قابلاً لتقييد إطلاقات أدلّة الأجزاء، وثانيا منإثبات كون الباقي مصداقا للمأمور به؛ لأنّه تمامه. وتنقيحه ليظهر ما هو الحقّيتمّ برسم اُمور:
الأوّل: أنّك قد عرفت في إحدى مقدّمات الأقلّ والأكثر في الأجزاء أنّالمركّبات الاعتباريّة عبارة عن الأشياء المتخالفة الحقائق، غاية الأمر أنّهلوحظ كونها شيئا واحدا وأمرا فاردا لترتّب غرض واحد على مجموعها،وعرفت أيضا أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب الاعتباري أمر واحد، غاية الأمريدعو إلى كلّ واحد من الأجزاء بعين دعوته إلى المركّب؛ لأنّها هو بعينه، ولتغاير بينهما إلاّ بالاعتبار، ولا تتوقّف دعوته إلى جزء على كون الجزء الآخرأيضا مدعوّا، بل دعوته إلى كلّ واحد من الأجزاء في عرض دعوته إلىالآخر، ولا تكون مرتبطة بها، كما لا يخفى.
الثاني: أنّ تقييد إطلاقات أدلّة الأجزاء بمثل حديث الرفع يكون مرجعهإلى أنّ الإرادة الاستعماليّة في تلك الأدلّة وإن كانت مطلقة شاملة لحال النسيانأيضا، إلاّ أنّ حديث الرفع يكشف عن قصر الإرادة على غير حال النسيان،وليس معنى رفع الجزئيّة فيه أنّ الجزئيّة المطلقة المطابقة للإرادة الجدّيّةصارت مرفوعة في حال النسيان، فإنّ ذلك من قبيل النسخ المستحيل، بلمعنى الرفع هو رفع ما ثبت بالقانون العامّ الكلّي المطابق للإرادة الاستعماليّة،وضمّ ذلك القانون إلى حديث الرفع ينتج أنّ الإرادة الجديّة من أوّل الأمركانت مقصورة على غير صورة النسيان، وهذا هو الشأن في جميع الأدلّةالثانويّة بالقياس إلى الأدلّة الأوّليّة.