(صفحه 87)
بأنّ القطع إن كان حاصلاً من المقدّمات العقليّة فلا يكون حجّة في الأحكامالشرعيّة، وإن كان حاصلاً من المقدّمات النقليّة من الكتاب والسنّة فهو حجّة.
وقد عرفت أنّ المنع عن حجّيّة القطع ليس بصحيح عقلاً، فإنّه في حكمهبحجّيّة القطع ولزوم متابعته لا يفرّق بين الأسباب، فلا وجه للمنع عن حجّيّةالقطع الحاصل من المقدّمات العقليّة.
هذا بناءً على ثبوت النسبة كما عليه ا لشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره ، ولكنالحقّ عدم ثبوتها وفاقاً للمحقّق الخراساني قدسسره فإنّ النزاع بين الاُصوليوالأخباري ليس في أصل حجّيّة القطع الحاصل من المقدّمات العقلية؛ إذ لشكّ في أنّ القطع بعد حصوله يكون حجّة من أيّ طريق كان، بل النزاع بينهمفي حصول القطع بالحكم الشرعي من المقدّمات العقليّة، حيث إنّ الأخبارييدّعي أنّ المقدّمات العقليّة لا تفيد إلاّ الظنّ، ويؤيّد ذلك ظاهر كلماتهم، فإنّبعضهم في مقام منع الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، كما هو صريحكلام السيّد صدر الدين قدسسره وبعضهم في مقام بيان عدم جواز الاعتماد علىالمقدّمات العقليّة؛ لأنّها لا تفيد إلاّ الظنّ، كما هو صريح كلام الشيخ المحدِّثالأسترآبادي قدسسره (1).
- (1) الفوائد المدنية: 129 ـ 130.
(صفحه88)
العلم الإجمالي
العلم الإجمالي
ويقع البحث عنه في مقامين: الأوّل: في ثبوت التكليف وتنجّزه بالعلمالإجمالي ـ كالعلم التفصيلي ـ وعدمه، الثاني: في سقوط التكليف بالامتثالالإجمالي والاحتياط وعدمه لمن كان قادراً على تحصيل العلم التفصيليوامثتاله.
أمّا الأوّل، فالبحث عنه يقع من جهتين:
الاُولى: في جواز المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي وعدمه عقلاً، وهذه الجهةهي المقصودة بالبحث في مبحث القطع وبعد إثبات حرمة المخالفة القطعيّة هنيأتي البحث في باب الاشتغال من الجهة الثانية، وهي أنّ الموافقة القطعيّة للعلمالإجمالي والاحتياط واجبة أم لا؟
ويتحقّق في مرحلة إثبات التكليف من حيث جواز المخالفة وعدمه أقوالمتعدّدة:
الأوّل: أنّ العلم الإجمالي لا تأثير له في تنجّز التكليف بل يكون كالعدم،وذلك لأنّه يعتبر في موضوع حكم العقل بقبح مخالفة تكليف المولى واستحقاقالعقاب عليها أن يكون المكلّف عالماً بالمخالفة حين العمل؛ إذ لا يتحقّقالعصيان القبيح إلاّ مع العلم بالمخالفة حين العمل، ومعلوم أنّ المكلّف لا يكونعالماً بالمخالفة في موارد العلم الإجمالي حين ارتكاب كلّ واحد من الأطراف؛
(صفحه 89)
لاحتمال أن يكون التكليف في الطرف الآخر. نعم، يحصل له العلم بالمخالفة بعدارتكاب جميع الأطراف، ولكنّه لا يوجب حكم العقل بالقبح واستحقاقالعقاب.
وجوابه: أنّ هذا الكلام باطلٌ عند العقل والعقلاء؛ إذ لا فرق بين علمالإنسان حين العمل بمبغوضيّته للمولى وبعد ارتكابه، وتردّد المكلّف به بينشيئين أو أشياء لا يكون عذراً للمخالفة، ولا فرق في حكم العقل بالقبح بينما إذا عرف العبد ابن المولى بشخصه فقتله وبين ما إذا عرفه إجمالاً بينشخصين أو أشخاص فقتلهم جميعاً، وعدم العلم بوجوده تفصيلاً لا يعدّ عذرله، كما أنّ ترك صلاة الظهر والجمعة في يوم الجمعة معتذراً بعدم العلم التفصيليبالتكليف ليس بجائز بلا إشكال.
القول الثاني: ما اختاره صاحب الكفاية قدسسره (1) من أنّ العلم الإجمالي ليسكالشكّ البدوي، بل له تأثيرٌ في تنجّز التكليف، ولكن تأثيره في ذلك بنحوالاقتضاء بالنسبة إلى كلّ من وجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة،وليس تأثيره في ذلك بنحو العلّيّة، وذلك لأنّ مرتبة الحكم الظاهري محفوظةمع العلم الإجمالي؛ لعدم انكشاف الواقع به تمام الانكشاف، فيمكن ثبوتاً ورودالترخيص في موارد العلم الإجمالي وعدمه.
القول الثالث: ما اختاره الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره (2) من التفصيل فيمنجّزية العلم الإجمالي بلحاظ الاقتضاء والعلّيّة، فإنّه منجّز للتكليف بنحوالاقتضاء بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعيّة، وبنحو العلّية التامّة بالنسبة إلىحرمة المخالفة القطعيّة.
(صفحه90)
القول الرابع: ما اختاره المشهور من أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة بالنسبة إلىكلّ منهما، فلا يمكن ورود الترخيص ثبوتاً، ومعه فلا تصل النوبة إلى البحثالإثباتي.
وهذا هو الحقّ بعد تحقّق القطع الوجداني والبديهي بالتكليف اللزوميالذي لا يحتمل الخلاف فيه، وبعد إيصاله إلى المرحلة الفعليّة ـ أي تعلّقالإرادة الجدّية للمولى بإتيانه في الخارج ـ فلا يمكن الترخيص في بعضالأطراف فضلاً عن جميعها، فيكون هذا العلم علّة تامة لوجوب الموافقةالقطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة.
وأمّا الترديد في المكلّف به فلا يوجب جواز ترك التكليف المعلوم عندالعقل والعقلاء، بل العقل يحكم بإتيان جميع أطراف العلم الإجمالي؛ للخروجعن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال، فلا فرق بين العلم التفصيلي والإجماليمن حيث المنجّزيّة والمعذّريّة، إلاّ أنّ الموافقة والمخالفة في العلم التفصيلي تتحقّقبفعل عمل واحد أو تركه، وفي العلم الإجمالي تتحقّق بإتيان جميع الأطراف أوتركه، وهذا لا يوجب الفرق في أصل المنجّزيّة والمعذّريّة.
وعلى هذا لا يمكن للشارع جعل الحكم المخالف في موارد العلم الإجماليكالعلم التفصيلي حتّى تترتّب عليه المخالفة الاحتماليّة فضلاً عن المخالفة القطعيّة،فثبوت الحكم بالعلم الإجمالي مانع من جريان الأصل العملي في مورده،ومراجعة الوجدان والعقلاء أقوى شاهد على ذلك.
إن قلت: قد مرّ أنّ عالم تعلّق الأحكام هو عالم العناوين، فلا مانع من كونالصلاة في الدار المغصوبة مأموراً بها ومنهيّاً عنها معاً عند أكثر المحقّقين،بلحاظ تعلّق الأمر بعنوان الصلاة والنهي بعنوان الغصب، والحكم المترتّب علىعنوان لا يتعدّى إلى العنوان الآخر حتّى يصير الموضوع واحداً، كما لا يسري
(صفحه 91)
الحكم من عنوانه إلى مصاديقه الخارجيّة، فيمكن أن يقال: كما أنّ النسبة بينالصلاة والغصب هي العموم من وجه، فكذلك النسبة بين عنواني المحرمالواقعي والمشتبه بما هو مشتبه عموم من وجه، ومادّة اجتماعهما المشتبهالخمريّة الذي كان بحسب الواقع خمراً واجتمع فيه حكمان فعليّان، فبما أنّه خمرٌيجب الاجتناب عنه وبما أنّه مشتبه الخمريّة لا يجب الاجتناب عنه، وعليهفيمكن ورود الترخيص من الشارع في موارد العلم الإجمالي، ولا مانع منجريان الأصل في جميع أطرافه.
قلنا: إنّ قياس المقام بباب اجتماع الأمر والنهي قياس مع الفارق، فإنّالوجوب والحرمة في الباب المذكور يتعلّق كلّ منهما بعنوان مستقلّ عن عنوانالآخر، بلا نظارة لأحدهما إلى الآخر، ومعلوم أنّ قول الشارع: «أقم الصلاة»لا يكون ناظراً إلى قوله: «لا تغصب» ولذا لا يستلزم تصادقهما في الخارجلاجتماع الأمر والنهي على شيء واحد.
وأمّا الترخيص في ارتكاب أطراف العلم الإجمالي فلا محالة يكون إلىالحكم بحرمة الخمر، ومعناه رفع اليد عن الحكم بالحرمة في بعض المواردومحدوديّته بما إذا كان الخمر معلوماً بالتفصيل، ومعلوم أنّ الترخيص في فرضتنجّز الحكم بالعلم محالٌ، فإنّ توجّه التكليف الفعلي المعلوم بالإجمال إلىالمكلّف لا يكون قابلاً للجمع مع جريان البراءة في أطراف العلم الإجمالي.
والفرق الواضح بين ما نحن فيه ومسألة اجتماع الأمر والنهي: أنّ الحكمالمتعلّق بالصلاة والحكم المتعلّق بالغصب حكمان واقعيّان، بخلاف المقام فإنّالحكم المتعلّق بعنوان المشتبه هو الحكم الظاهري، ومن البديهي أنّ الأحكامالظاهريّة متأخّرة رتبةً عن الأحكام الواقعيّة؛ إذ المفروض في موردها الشكّفي الحكم الواقعي، ومع عدم تنجّز الحكم الواقعي لمكان الشكّ فيه يأتي دور