(صفحه92)
الحكم الظاهري، وأمّا مع فرض تنجّز الحكم الواقعي في حقّ المكلّف لمكانالقطع به كما هو مفروض البحث، فلا تصل النوبة إلى الحكم الظاهري.
وأمّا المقام الثاني ـ أي كفاية الاحتياط والامتثال الإجمالي وعدمه في مقامالامتثال ـ فيقع البحث فيه تارةً في التوصّليّات، واُخرى في المعاملات، وثالثةفي العبادات.
أمّا التوصّليّات فلا شكّ في كفاية الامتثال الإجمالي فيها؛ لأنّ الغرض فيهمجرّد حصول المأمور به في الخارج كيفما اتّفق، وبإتيان جميع المحتملات يتحقّقالمأمور به لا محالة، فإذا علم أحدٌ بأنّه مديون بدرهم إمّا لزيد وإمّا لعمرووأعطى لكلّ واحد منهما درهماً يحصل له العلم بالفراغ، وهكذا لو غسلالمتنجّس بمائعين طاهرين يعلم إجمالاً بكون أحدهما ماءً مطلقاً والآخرمضافاً فلاشكّ في حصول الطهارة له، سواء كان المكلّف متمكِّناً من الامتثالالتفصيلي أم لا، وسواء كان الاحتياط مستلزماً للتكرار أم لا.
وأمّا المعاملات بالمعنى الأعمّ فلا شكّ في جواز الاحتياط وكفاية الامتثالالإجمالي فيها أيضاً، فإذا احتاط المكلّف وجمع بين إنشاءات متعدّدة يعلمإجمالاً بصحّة أحدها ـ مثلاً ـ يكفي في حصول المنشأ لا محالة وإن لم يتميّزالسبب المؤثّر عنده بعينه، فإذا شكّ في أنّ الطلاق هل يحصل بالجملة الفعليّة:«طلّقتك» أو أنّه لابدّ في حصوله من الجملة الاسميّة «أنتِ طالق»؟ فلا مانعحينئذٍ من الاحتياط والجمع بين الصيغتين.
وحكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره المنع عن ذلك بدعوى أنّالاحتياط في العقود والإيقاعات يستلزم الإخلال بالجزم المعتبر في الإنشاء،ومن الواضح أنّ الترديد ينافي الجزم، ومن هنا قام الإجماع على عدم صحّةالتعليق في الإنشاءات.
(صفحه 93)
وجوابه: أنّ الجزم المعتبر في المعاملات هو جزم المنشئ بتحقّق المعاملة فيمقابل تعليق المعاملة على شيء لم يعلم حصوله، والترديد فيما نحن فيه يكونفي السبب والطريق، فيجمع بينها للاطمئنان بحصول المسبّب، وأمّا المنشِئ فهوجازم بالإنشاء وتعلّق إرادته الجدّيّة بتحقّق المسبّب عقيب الإنشاء والسبب،وهذا المعنى لا ينافي الترديد في السبب، فإنّه أمر آخر غير راجع إلى التعليق فيالإنشاء.
وأمّا العبادات فيقع البحث فيها في صور أربع؛ لأنّ الاحتياط فيها قديستلزم التكرار وقد لا يستلزم ذلك، وعلى كلا التقديرين قد يتمكّن المكلّفمن الامتثال التفصيلي،وقد لا يتمكّن من ذلك.
أمّا في صورتي عدم إمكان الامتثال التفصيلي فلا شبهة في كفاية الامتثالالإجمالي وجواز الاحتياط بحكم العقل؛ لأنّه غاية ما يتمكّن منه المكلّف فيمقام امتثال أمر المولى، ولا طريق له سوى ذلك؛ إذ المفروض عدم التمكّن منالامتثال التفصيلي؛ لانسداد طريق العلم الوجداني والحجّة الشرعيّة، فيكفيالامتثال الإجمالي هنا، سواء كان مستلزماً للتكرار أم لا.
وأمّا الصورة الثالثة ـ أي كون الاحتياط غير مستلزم للتكرار، مع التمكّنمن الامتثال التفصيلي ـ فالحقّ فيها أيضاً كفاية الاحتياط، وليلاحظ زيادةالبحث والاستدلال لذلك في الصورة الرابعة.
وأمّا الصورة الرابعة فما يمكن الاستدلال به للمنع من الاحتياط فيها اُمور:
الأوّل: الشهرة، فإنّ ظاهر ما نسب إلى المشهور هو بطلان عبادة تاركطريقي الاجتهاد والتقليد، فلا يصحّ الامتثال الإجمالي.
وجوابه ـ بعد عدم ثبوتها وعدم اعتبارها ـ : أنّ على فرض تحقّقها تكون فيمقابل من يعمل عملاً باحتمال كونه مأموراً به، لا في مقابل الاحتياط الذي
(صفحه94)
يستلزم العلم بتحقّق المأمور به بجميع خصوصيّاته.
الأمر الثاني: دعوى الإجماع المحكي عن السيّد الرضي قدسسره على بطلان صلاةمن لايعلم حكمها.
وجوابه ـ بعد عدم اعتبار الإجماع المنقول ـ : أنّه ليس ناظراً إلى المقام أصلاً،فإنّ المقصود به بطلان الصلاة ممّن لا يعلم الخصوصيّات والشرائط المعتبرةفيها، ولايشمل معقد الإجماع للمحتاط الذي يعلم بإتيان المأمور به بجميعالشرائط والخصوصيّات المعتبرة فيه.
الأمر الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره (1) من أنّ الاحتياط فيالعبادات يستلزم التشريع المحرّم، فلا يجوز الاحتياط فيها، وذلك لأنّ قصدالقربة المعتبر في الواجب الواقعي لازم المراعاة في كلا المحتملين ليقطع بإحرازهفي الواجب الواقعي، ومن المعلوم أنّ الإتيان بكلا المحتملين بوصف أنّهما عبادةمقرّبة يوجب التشريع بالنسبة إلى ما عدا الواجب الواقعي، فيكون محرّماً.
وجوابه: أوّلاً بالنقض، وهو أنّ لازم ذلك عدم جواز الاحتياط في صورةعدم التمكّن من الامتثال التفصيلي أيضاً؛ للزوم التشريع المحرّم الذي لاتكونحرمته قابلةً للتفصيل والتخصيص مع أنّه لم يلتزم به.
وثانياً بالحلّ، وهو على وجوه:
الأوّل: أنّ الاحتياط في مثل صلاتي الظهر والجمعة ليس بمعنى إتيان كلّمنهما بعنوان أنّه عبادة مقرّبة، بل يكون بمعنى إتيان كلّ واحد منهما باحتمالكونه عبادة، وإتيان ما هو بحسب الواقع واجباً بعنوان أنّه عبادة مقرّبة، مثل:أن يغتسل من باب الاحتياط من يحتمل أنّه صار جنُباً برجاء كونها عبادةمقرّبة، وأنّه لو كنت جُنُباً تقرّبتُ بها، وهكذا فيما نحن فيه.
(صفحه 95)
الوجه الثاني: أنّه على فرض لزوم مراعاة الاحتياط والإتيان بكلّ واحدمنهما بقصد التقرّب، مع العلم بعدم عباديّة واحد منهما، ولكنّ متعلّق الحرمةهو التشريع ومتعلّق الجواز هو الاحتياط، ولاشكّ في كونهما عنوانينمستقلّين، وقد مرّ أنّ الحكم لا يسري من متعلّقه إلى عنوان آخر، وإن كانمتّحداً معه في الوجود الخارجي، فلا يكون الاحتياط حراماً.
الوجه الثالث: أنّ جواز الاحتياط وعدمه هنا لا يكون في مقابل الحرمة،بل يكون بمعنى كفايته وعدمها في مقام الامتثال، فعلى هذا لا يوجب قصدالتقرّب بما لا يكون عبادة الإخلال بالواجب الواقعي الذي أتى به بجميعالشرائط والخصوصيّات، ووقوع التشريع المحرم في جنب امتثال الأمر المتعلّقبالمأمور به لا يوجب النقص فيه، هذا نظير مَن ستر عورته بالساتر الغصبي،والنظر إلى الأجنبيّة حال الصلاة، فلا نقص عقلاً في المأمور به الواقعي حتّىنحكم ببطلانه.
الأمر الرابع: أنّ قصد الوجه والتمييز أيضاً معتبرٌ في العبادة، ومعلوم أنّه ليمكن الإتيان بها مع قصد الوجه متميّزة عن غيرها عند العمل بالاحتياط،والامتثال الإجمالي.
وجوابه: أوّلاً: أنّ هذا الدليل لا ينطبق على المدّعى؛ إذ المدّعى أنّ الاحتياطالممكن ثبوتاً هل يكفي في مقام الامتثال أم لا؟ والدليل يرجع إلى عدم إمكانالاحتياط في العبادة؛ لعدم إمكان مراعاة جميع الخصوصيّات المعتبرة فيها معالامتثال الإجمالي.
وثانياً: أنّ قصد الوجه أيضاً يكون نظير قصد القربة بإتيان ما هو في الواقععبادة واجبة على المكلّف لكونه مقرّباً وواجباً، وإتيان كلّ واحد من صلاتيالظهر والجمعة باحتمال كونه واجباً ومقرّباً.
(صفحه96)
وثالثاً: أنّه لا دليل على اعتبار قصد الوجه والتمييز في العبادة.
نعم، قال صاحب الكفاية قدسسره (1) في بحث الواجب التوصّلي والتعبّدي: إنّقصد القربة إن كان بمعنى إتيان العمل بداعي أمره فلا يمكن التمسّك بإطلاقدليل المأمور به لنفي اعتبار قصد القربة فيه عند الشكّ في كونه توصّليّاً أوتعبّديّاً، فإنّ ثبوت الإطلاق فرع إمكان التقييد، والتقييد هنا مستلزم للدور،فلايمكن التمسّك بإطلاق نفس الدليل، إلاّ أن يتحقّق الإطلاق المقامي بمعنىكون المولى في مقام بيان جميع الأجزاء والخصوصيّات المعتبرة في المأمور به،وعدم إشارته إلى اعتبار قصد القربة أصلاً، ويستفاد من ذلك عدم اعتباره،وإن لم يتحقّق الإطلاق المقامي أيضاً تصل النوبة إلى الاُصول العمليّة منالبراءة أو الاحتياط.
ويجري هذا البحث بعينه في قصد الوجه والتمييز أيضاً، ولكنّ التحقيق: أنّهلا مدخليّة لاعتبار قصد الوجه والتمييز زائداً على قصد القربة في عباديّةالعبادة، وإلاّ لاحتاج إلى بيان واضح؛ فلا يصلح هذا الوجه للمانعيّة منالامتثال الإجمالي.
الأمر الخامس: ما ذكره المحقّق النائيني قدسسره (2) بتقريبين:
الأوّل: أنّ حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى، بحيثيكون الداعي والمحرّك له نحو العمل هو تعلّق الأمر وانطباق المأمور به عليه،وهذا المعنى في الامتثال الإجمالي لا يتحقّق، فإنّ الداعي له نحو العمل لكلّواحد من فردي الترديد ليس إلاّ احتمال تعلّق الأمر به، فإنّه لا يعلم انطباقالمأمور به عليه بالخصوص.
- (1) كفاية الاُصول 1: 109.