(الصفحة 52)
مع صلاة الوصيّة التي تدلّ عليها الرواية الأخيرة وعدمه ، والاُخرى : اتّحاد صلاة الغفيلة أو الوصيّة مع نافلة المغرب وعدمه .
فنقول : أمّا الكلام في الجهة الاُولى فملخّصه : إنّ الظاهر هو التعدّد ، وإن جاز التداخل في مقام الامتثال ، لوضوح أنّ الرواية الدالّة على مطلوبيّة مطلق التنفّل في ساعة الغفلة ، إنّما تدلّ على أنّ المطلوب هو عدم خلوّ هذا الزمان الذي هو زمان الغفلة من التنفّل الذي يكون حقيقته التوجّه إلى المعبود ، والتخضّع والتخشّع لديه ، فالمطلوب فيه أمر عام ينطبق على القليل والكثير ، ولا دلالة لها على كيفيّة مخصوصة ونحو خاصّ . والرواية الاُخرى تدلّ على استحباب ركعتين بالكيفيّة الخاصّة ، وهو عنوان آخر يغاير العنوان المأخوذ في تلك الروايات من حيث المفهوم ، ولكن لا يأبى من الاجتماع معه في الخارج ومقام الامتثال ; فهذان العنوانان في عالم تعلّق الطلب والأمر متغايران ، ولذا يجوز تعلّق أمر مستقلّ بكلّ منهما ، وفي عالم الامتثال والوجود الخارجي يمكن تصادقهما على أمر واحد .
وبعبارة أُخرى ، لمّا كان من سيرة النبي(صلى الله عليه وآله) التفريق بين المغرب والعشاء ، والإتيان بكلّ منهما في وقت فضيلته ، فكان يأتي بالعشاء بعد ذهاب الشفق كما هو المتداول الآن بين المسلمين من أهل السنّة ، فلذا يفصل بين الصلاتين زمان قهراً ، وكان الناس في ذلك المقدار من الزمان مجتمعين على ذكر الاُمور الباطلة ، والاشتغال باللغو والغيبة ، ولا أقلّ من الاُمور الدنيويّة ، فلذا وقع الحثّ والتحريض على صرف هذا الزمان في ذكر الله الذي هو عبارة عن الصلاة التي حقيقتها التوجّه إلى الخالق المعبود ، بنحو الخضوع والخشوع ، فالمطلوب هو مطلق التنفّل المانع عن الاشتغال بالاُمور الدنيويّة .
ومن الواضح تحقّق هذا المطلوب بالإتيان بصلاة الغفيلة بكيفيّتها المخصوصة ، لوجود الأعمّ في ضمن الأخصّ ; وهذا لا ينافي تعلّق أمر مستقل بكلّ منهما ، لأنّ
(الصفحة 53)
ملاك تعدّد الأمر هو تغاير المتعلّقين في عالم المفهوميّة ، سواء كانت النسبة بينهما التساوي ، أو التباين ، أو العموم المطلق ، أو العموم من وجه ، غاية الأمر أنّه لايمكن التداخل في صورة التباين ، وأمّا في غيرها من الصور الثلاثة فيتحقّق التداخل في مقام الامتثال ، وإن لم يقصد العنوانين معاً .
نعم لو كان العنوانان من العناوين القصديّة التي قوامها بالقصد ، بحيث لاتتحقّق بدونه ، لا يمكن التداخل ما لم يقصد كلاهما . فانقدح ممّا ذكرنا أنّ صلاة الغفيلة وكذا الوصيّة تغاير النافلة المأمور بها في ساعة الغفلة في مقام تعلّق الأمر ; غاية الأمر أنّه يتحقّق التداخل بينهما في مقام الامتثال إذا أتى بها بصورة الغفيلة أو الوصيّة ، وأمّا إذا لم يأت بها بشيء من الصورتين ، يتحقّق الامتثال بالنسبة إلى الأمر المتعلّق بمطلق التنفّل ، دون الأمر المتعلّق بالغفيلة أو الوصيّة .
وأمّا الكلام في الجهة الثانية فملخّصه : إنّ فيه وجوهاً ثلاثة ، مقتضى الوجه الأوّل منها : إتّحاد الغفلية أو الوصيّة مع نافلة المغرب ذاتاً وعنواناً فتتحدان في مقام الصدق قهراً كما هو واضح . ومقتضى الوجه الثاني : عكس ذلك ، فهما متغايرتان عنواناً وكذا صدقاً ، فلا تجتمعان على وجود واحد . ومقتضى الوجه الثالث : التفصيل بين مقام الذات وعالم الصدق ، بتحقّق الاختلاف بينهما بحسب الذات وإمكان التصادق بحسب الخارج ومقام الامتثال .
المقايسة بين الوجوه ، الوجه الأوّل أن يقال : إنّه لمّا كان الإتيان بنافلة المغرب بين العشائين متداولا بين المسلمين ، بحيث لم يكونوا يتركونه في مقام العمل فكان قوله(عليه السلام) : «من صلّى بين العشائين ركعتين يقرأ في الاُولى الحمد . . .»(1) ، الحديث بياناً لكيفيّة خاصّة للركعتين من النافلة المعهودة بينهم ، المعروفة عندهم ، وأنّه
- (1) مصباح المتهجّد : 94 ; الوسائل 8 : 121 . أبواب بقيّة الصلوات المندوبة ب20 ح2 .
(الصفحة 54)
يترتّب عليها أثر مخصوص مع الإتيان بها بهذه الكيفيّة ، زائداً على الأثر المترتّب عليها مع الإتيان بها بدون هذه الكيفيّة ; فليس في البين أمر آخر متعلّق بعنوان صلاة الغفيلة أو الوصيّة ، في مقابل الأمر المتعلّق بنافلة المغرب المركّبة من أربع ركعات ، بل الغرض هو جواز الإتيان بركعتين من نافلة المغرب بهذه الكيفيّة ، لترتّب آثار مخصوصة عليهما ، وحينئذ فلو أتى بأربع ركعات بعنوان نافلة المغرب من دون هذه الكيفيّة ، لا يشرع له الإتيان بصلاة الغفيلة أو الوصيّة لعدم تعلّق أمر مستقلّ بعنوانهما .
والوجه الثاني أن يقال : إنّ المسلمين حيث استقرّت سيرتهم على الإتيان بنافلة المغرب بعد فريضته ، صار في ارتكازهم أنّ نافلة المغرب من توابعه المتصلة به ، وحينئذ فلا يفهمون من كلام الإمام الصادق(عليه السلام) في الرواية المتقدّمة الواردة في صلاة الغفيلة : «من صلّى بين العشائين ركعتين يقرأ في الاُولى الحمد . . .» الحديث ، إلاّ الإتيان بالركعتين بين المغرب ونافلته وبين العشاء ، وحينئذ فالمقصود بيان استحباب ركعتين أُخريين عدى نافلة المغرب ، وحينئذ فهما ـ أي صلاة الغفيلة أو الوصيّة ، ونافلة المغرب ـ متبائنتان لا يمكن تصادقهما على فرد واحد ، فلو أتى بنافلة المغرب بصورة الغفيلة لا يسقط الأمر الاستحبابي المتعلّق بصلاة الغفيلة ، كما أنّه لا يتحقّق امتثال الأمر المتعلّق بنافلة المغرب ، إذا ضمّ إلى صلاة الغفيلة ركعتين أُخريين ; وهكذا بالنسبة إلى صلاة الوصيّة .
والوجه الثالث أن يقال : ليس الأمر كما ذكر في الوجه الأوّل ، ولا كما ذكر في الوجه الثاني ، بل الظاهر أنّ النافلة المعنونة بعنوان نافلة المغرب تعلّق بها أمر مستقلّ ، وصلاة الغفيلة أو الوصيّة تعلّق بها أمر استحبابيّ آخر ، ولا بأس بتعلّق أمرين بعد تغاير المتعلّقين من حيث المفهوم والعنوان .
نعم يمكن تصادقهما في الخارج وفي مقام الامتثال ، لأنّ نافلة المغرب لا تكون
(الصفحة 55)
مشروطة بصورة خاصّة ، وكيفيّة مخصوصة مغايرة لصورة الغفيلة ، والغفيلة أيضاً لا تكون مشروطة بالإتيان بها بعد نافلة المغرب أو قبلها حتّى لا يمكن تصادقهما ، بل نافلة المغرب مطلقة من حيث الكيفيّة ، والغفيلة مطلقة من حيث الوقت بالإضافة إلى نافلة المغرب ، فلا إشكال حينئذ في الإتيان بركعتين بصورة الغفيلة بعنوان نافلة المغرب أيضاً ، ويتحقّق الامتثال بالنسبة إلى كلا الأمرين .
نعم ، بناءً على ما ذكرنا سابقاً من أنّ نافلة المغرب نافلة واحدة مركّبة من صلاتين مرتبطتين ، تكون الركعتان منها المأتيّ بهما بعنوان صلاة الغفيلة أيضاً مأموراً بهما بالأمر الاستقلالي ، بالنظر إلى كونهما صلاة الغفيلة ، وبالأمر الضمني من جهة كونهما جزء من نافلة المغرب التي تعلّق بمجموعها أمر واحد ; فالركعتان إمتثال للأمر الاستقلالي والضمني معاً ، فبالاعتبار الأوّل يكون تامّاً ، وبالاعتبار الثاني يكون غير تام .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّه بناء على الوجه الأوّل ليس هناك إلاّ مستحبّ واحد ، وعلى الوجه الثاني هناك مستحبّان متبائنان لا يمكن تداخلهما ، وعلى الوجه الثالث مستحبّان يمكن تداخلهما .
واعلم أنّه حيث كان التفريق بين العشائين وتأخير العشاء الآخرة إلى ذهاب الشفق ، ممّا استقرّت عليه سيرة المسلمين في الصدر الأوّل ، فلذا يكون المتبادر من قوله : «من صلّى بين العشائين ركعتين» ، هو الصلاة بين الوقتين اللّذين يصلّى فيهما الفريضتان أعني من ذهاب الحمرة إلى زوال الشفق ، وحينئذ فالمتبادر كون وقت الغفيلة هو ما بين المغرب والعشاء ، المأتيّ بهما في وقت فضيلتهما لا ما بينهما ، وإن أخّر العشاء إلى نصف الليل كما لا يخفى .
ثمّ إنّه بناءً على تغاير الغفيلة مع صلاة الغفلة ، أو مع نافلة المغرب ، وجواز التداخل في مقام الامتثال ، فهل يجب قصد كلا العنوانين في تحققهما ، أو يكفي قصد
(الصفحة 56)
أحدهما في سقوط الأمر المتعلّق بهما ، إذا كان المأتي به منطبقاً عليه كلا العنوانين ، كما إذا صلّى ركعتين بكيفية صلاة الغفيلة؟ وجهان ، وتحقيق الحقّ موقوف على بيان المراد من قصد التعيين وحكمه ، والإشارة إلى الموارد التي يجب فيها ذلك .
فنقول : قد يتوهّم أن قصد التعيين من شؤون قصد امتثال الأمر فيقال : إنّه لو كان هناك عنوانان مشتركان في المصاديق ، بحيث يجوز أن تكون صورة واحدة مصداقاً لهذا العنوان تارة ، ولذلك العنوان أُخرى ، فإن كان المكلّف مأموراً بكلا العنوانين ، يجب عليه في مقام الامتثال تعيين العنوان الذي يريد امتثال أمره ; وإن لم يكن مأموراً إلاّ بأحدهما لم يجب عليه التعيين ، بل يكفي قصد امتثال الأمر المتوجّه إليه . وهذا التوهّم بمكان من البطلان ، لعدم ارتباط مسألة قصد التعيين بمسألة قصد الامتثال .
والتحقيق في المسألة أن يقال : إنّ العناوين الواقعة تحت الأمر على قسمين :
الأوّل : العناوين القصديّة التي تكون انطباقها على العمل الخارجي موقوفاً على قصدها ، بحيث لا يصير العمل الخارجي مصداقاً لها ، ومنطبقاً عليه لشيء منها إلاّ بالقصد ، وهذا لا فرق فيه بين أن يكون هذا العنوان متعلّقاً للأمر أم لا ; وأمثلة هذا القسم كثيرة :
فمنها : عنوان التعظيم ، فإنّه لا ينطبق على شيء من الأفعال المأتيّ بها في هذا المقام إلاّ مع ضميمة قصد عنوان التعظيم إليها .
ومنها : عنوان الظهرية والعصرية ونحوهما من عناوين الصلوات المفروضة ، فإنّ انطباقها على صورة الصلاة المأتيّ بها خارجاً المشتركة بين العناوين الكثيرة ، يتوقّف على ضمّ قصد شيء من تلك العناوين إليها ; والدليل على ذلك ، الأدلّة الواردة في العدول(1) الدالّة على العدول من العصر إلى الظهر ، إذا ذكر في أثناء
- (1) الوسائل 4 : 290 ، أبواب المواقيت ب63 ح1 ، 3 ، 5 .