(الصفحة 128)
معانيها قاصداً به حكايتها .
وحينئذ فكما أنّه في استعمال لفظ زيد في معناه لا يلاحظ اللفظ مستقلاً ، بل كأنه مرآة لا يرى فيها إلا المعنى ، لاندكاك الحاكي في محكيّه ، والمرآة في المرئيّ فيها ، ولذا يعتبرونه وجوداً لزيد ، ويقال: إنّه وجود لفظيّ له ، مع أنّ الوجود إنما هو وصف للّفظ ، ولا ارتباط له بالمعنى ، فكذلك في مقام الحكاية لا ينظر إلاّ إلى المحكيّ ، وهي الألفاظ الخاصة الصادرة من المتلفّظ بها .
وحينئذ فقراءة القرآن عبارة عن إيجاد مماثل ألفاظه ، قاصداً به حكاية الكلام الشخصيّ المنزل على الرسول(صلى الله عليه وآله) ، فبسملة سورة خاصّة عبارة عن قطعة شخصية من مجموع ذلك الكلام الشخصي ، ولا تتحقّق حكايتها إلاّ بعد إيجاد ألفاظها بقصد حكاية تلك القطعة الشخصية ، فإذا فرض إنّه قرأ البسملة حكاية عن بسملة سورة الاخلاص النازلة معها ، فلا يعقل أن يصدق عليها قراءة سورة الجحد إذا رفع اليد عن الاخلاص ، وضمّ إليها سائر أجزاء سورة الجحد .
ومن ذلك يظهر أنّ قياس السور القرآنية على المركّبات العينية الخارجية المشتركة في بعض الأجزاء قياس مع الفارق ، إذ الجزء المشترك فيها هو تمام الوجود الخارجي له ، من دون مدخل للقصد فيه أصلا ، وقصد جزئيّته لأحدها لا يخرجه عن قابلية جزئيته للآخر ، بخلاف البسملة ، فإنّها جعلت جزء لسورة الاخلاص مثلا بوجودها الشخصي ، ولسورة الجحد بوجودها الآخر ، وقصد حكاية هذا الوجود يمنع عن صيرورتها جزءً لسورة اُخرى .
ثم لا يخفى إنّ قراءة البسملة بقصد سورة لا بعينها ، وإن كان يصدق عليها قراءة القرآن ، إلاّ أنّه ليس لازم ذلك كونها قابلة لأن تصير جزءً لجميع السور ، وذلك لأنّ صدق قراءة القرآن إنما هو باعتبار كون الطبيعي أيضاً نازلا في ضمن نزول الفرد ، ولكن ذلك لا يلازم صدق قراءة بسملة خاصّة عليها ، بعد ضم سائر
(الصفحة 129)
أجزاء سورة معينة إليها ، لوضوح أنّ حكاية الجامع لا تعدّ حكاية للأفراد ، فحكاية مجيء زيد الجائي لا تصدق إلاّ بعد حكاية مجيئه بنفسه ، ولا تصدق على حكاية مجيء الإنسان المتحقّق في ضمنه ، كما هو ظاهر; هذه خلاصة ما أفاده الشيخ(قدس سره)(1) بتقريب منّا .
ولا يخفى أنّ باب الحكاية في أمثال المقام ممّا يوجد المتكلّم الألفاظ قاصداً به إرائة شيء من اللفظ أو المعنى ، إنما يكون المراد بها إرائته على ما هو عليه في الواقع ، لما عرفت في توضيح كلامه(قدس سره) من أنّ الألفاظ إنما هي بمنزلة المرآة ، فكما أنّ الناظر فيها لا يقع في نظره إلاّ الصورة الواقعة فيها ، بحيث لا يتوجّه إلى نفسها مع كونها هو السبب في إرائة تلك الصورة ، فكذلك الناظر إلى الألفاظ والسامع لها لا يتوجّه ذهنه إلاّ إلى ما جعلت تلك الألفاظ حكاية له من المعاني أو الألفاظ الاُخر ، ولا يلاحظ نفس تلك الألفاظ مع كونها حاكية لها .
فالواقع في ذهن السامع إنما هو المعنى من دون توسيط اللفظ أصلا، كما أنّه بالنسبة إلى المتكلّم أيضاً كذلك ، فكأنّه يلقي المعاني من دون توسيط شيء آخر وحينئذ فنقول :
إنّ البسملة إنما هي طبيعة واحدة ، وقد جعلت جزءً لجميع السور ، غاية الأمر أنّ فعلية جزئيتها لسورة التوحيد مثلا إنما حصلت بانضمام سائر أجزائها إليها ، فالفرق بين البسملات الواقعة في أوائل السور من حيث أنفسها ، مع قطع النظر عن لحوق سائر الأجزاء بها غير موجود أصلا ، وفي مقام الحكاية لابدّ أن يرائى ذلك بما هو عليه في الواقع .
فكما أنّ البسملة بطبيعتها الواحدة تكون جزءً لجميع السور ، فكذلك البسملة بوجودها الحكائي قابلة لأن تصير جزءً من الجميع ، بل لو قصد القارئ
- (1) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري(رحمه الله) : 147 ـ 151 .
(الصفحة 130)
بسملة خاصة لا يؤثر ذلك القصد في تعيينها جزءً لسورة خاصّة، وخروجها عن قابلية جزئيتها لسورة اُخرى ، فضلا عمّا لو لم يقصد ذلك .
وكيف كان ، فكما أنّ فعلية جزئيّتها في وجودها الأصليّ لم تتحصل إلاّ بانضمام بقية الأجزاء إليها، فكذلك صيرورتها جزءً لسورة خاصّة في وجودها الحكائي لا تتحقّق إلاّ بانضمام سائر الأجزاء إليها ، والسرّ فيه ما عرفت من أنّ الحكاية والاراءة إنما تصدق فيما لو وقع المحكيّ والمرئي ، كما هو عليه في الواقع في ذهن السامع ، من دون تصرّف فيه أصلا .
ثم لا يذهب عليك أنّ استعمال اللفظ وإرادة شخصه ، أو نوعه ، أو شخص آخر من اللفظ ، كما في المقام وأمثاله لا يكون حقيقة من باب الاستعمال الراجع إلى عمل اللفظ في شيء آخر ، بل هو إيجاد اللفظ ، ليتصوّر بنفسه ، ومع خصوصيته ، أو ليتصور لا بنفسه ، بل بما فيه من الجامع بينه وبين غيره ، غاية الأمر إنّه يلزم اقامة قرينة على عدم مدخلية الخصوصية ، كما أنّ القسم الثالث يكون من باب إيجاد اللفظ ، ليتصور جامعه مع تخصّصه بخصوصية اُخرى ، وفي هذا القسم أيضاً تجب إقامة قرينة على عدم مدخلية هذه الخصوصية ، ودخالة خصوصية اُخرى .
وكيف كان ، فما ذكره(قدس سره) من أنّ حكاية الجامع لا تعدّ حكاية لأشخاصه ، إن كان المراد أنّ حكاية الجامع فقط بإيجاد اللفظ الدال عليه بقصد الحكاية ، ليست حكاية للأفراد والأشخاص ، فذلك مسلّم لا ينبغي التأمّل فيه ، ضرورة أنّ حكاية مجيء الإنسان فيما إذا قال : جاء إنسان ، لا تعدّ حكاية لمجيء شخص زيد مثلا ، إلاّ أنّ الكلام في المقام فيما إذا تعقّبها بما يدلّ على الأشخاص .
وإن كان المراد أنّ حكاية الجامع مطلقاً لا تكون حكاية للأفراد ، حتّى فيما إذا ألحقها بما يدلّ على الخصوصيات ، فذلك واضح البطلان ، ضرورة أنّه لو فرض مجيء زيد يوم الجمعة ، وعمرو يوم الخميس ، فقال المخبر : جاء إنسان في يوم
(الصفحة 131)
الجمعة وهو زيد ، فقد حكى الجامع المتحقّق في ضمن بعض خصوصياته ، لا المشترك بينه وبين مجيء عمرو ، وهذا واضح جدّاً ، ولكن لا يخفى أنّ المثال ليس له كثير ربط بالمقام ، ضرورة أنّ كلامنا في الحكاية التصورية ، لا التصديقية .
ومحصّل الكلام في المقام إنّه وإن كانت البسملة بطبيعتها الواحدة مجعولة جزءً لسور القرآن ، وبمجرّد صدورها من المتكلّم بها تصير متشخّصة ، إلاّ أنّ الحكاية إنما تتعلّق بما صدر منه ، وما تكلّم به ، مع قطع النظر عن حيثية صدوره منه وتكلّمه به ، فكما أنّه في مقام الحكاية لا يلحظ قيام الألفاظ الحاكية بالمتكلّم بها ولا صدورها منه ، وإلاّ لم تصدق الحكاية أصلا ، ضرورة أنّها عبارة عن اراءة المحكي وإلقائه ، بحيث كأنّه لم يكن واسطة أصلا ، فكذلك في المحكيّ لا تلحظ حيثية صدوره من المتكلّم به ولا قيامه به ، فالمحكي إنما هي الألفاظ الخاصة ، من دون ملاحظة حيثية صدورها أصلا .
إن قلت : إنّ كلام الله تعالى المنزل على قلب رسوله(صلى الله عليه وآله) عبارة عن تلك الألفاظ المخصوصة ، مع حيثية كونها صادرة عن الله تعالى ، ضرورة أنّها بدون هذه الحيثية لا تعدّ كلام الله ، فإنّ اختصاصها به الموجب لإضافتها إليه إنما هو بهذه الملاحظة ، وهي قيامها به على نحو القيام الصدوري .
ألا ترى أنّ تخصيص كلام بزيد مثلا الموجب لصحة إضافته إليه ، والتعبير بأنّه كلامه إنما هو بلحاظ قيامه به ، وصدوره عنه ، وبدون هذه الملاحظة لا وجه لانتسابه إلى شخص دون شخص ، فالقرآن ليس عبارة عن نفس الألفاظ المخصوصة ، بل هي مع ملاحظة كونها صادرة عن الله تعالى ، وحينئذ فما ذكر من أنّ الحكاية إنما تتعلّق بما صدر مع قطع النظر عن حيثية صدوره ، ممّا لا يتمّ أصلا .
قلت : لا منافاة بين اعتبار حيثية الصدور في صحة انتساب الكلام إلى المتكلّم ، وبين كون المحكيّ هو نفس الكلام الصادر مع قطع النظر عن حيثية الصدور ،
(الصفحة 132)
ضرورة أنّ ما يصلح أن يكون هنا محكيّاً للّفظ ومرئيّاً بسببه إنما هو نفس الألفاظ الصادرة ، وأمّا حيثية الصدور فلا يمكن أن تقع محكيّة للّفظ ، وبعبارة اُخرى المقروء هو نفس الألفاظ ، بلا ملاحظة جهة الصدور ، كما أنّه تكون حيثية الصدور عن القارئ ملغاة بنظره ، وإلاّ لا تصدق الحكاية أصلا كما عرفت .
هذا كلّه فيما لو لم يقصد التعيين ، وأما لو قصده فتارة يجعل ألفاظه الحاكية بحذاء الجامع ، ولكنّه قاصد حين قراءة البسملة أن يعقّبها بباقي أجزاء سورة خاصّة ، واُخرى يجعل ألفاظه بحذاء ألفاظ بسملة خاصّة ، أمّا الصورة الأولى فالظاهر أنّها مثل ما لو لم يقصد التعيين أصلا . وأمّا الصورة الثانية ففيها إشكال ينشأ من أنّ قصد التعيين يؤثر في تعيينها لسورة معيّنة ، ويخرجها عن قابليّة لحوق إجزاء سورة اُخرى بها ، وممّا عرفت من أنّ المحكيّ إنما هو الكلام الصادر مع قطع النظر عن حيثية صدوره ، ولكن الظاهر هو الوجه الأول .
ثم إنّه ممّا ذكرنا ظهر أنّه لا وجه للتمسّك بأصالة الاشتغال ، نظراً إلى أنّ الشكّ في المقام إنما هو في المحصّل ، لأنّ الشكّ إنما هو في تحقق قراءة السورة المأمور بها في الصلاة ، بدون قصد التعيين حين قراءة البسملة ، ولا إشكال بل ولا خلاف في وجوب الاحتياط فيه ، لعدم اليقين بحصول البراءة بدونه ، والعقل يحكم باستدعاء الاشتغال اليقيني للبراءة اليقينية .
وجه الفساد أنّ الرجوع إلى الأصل إنما هو بعد ثبوت التحيّر واليأس عن الدليل ، وقد عرفت أنّه لا يلزم في صدق الحكاية بنظر العقل أزيد من القراءة بقصد القرانية ، كما أنّ ممّا ذكرنا ظهر فساد ما يمكن أن يتوهّم ، من أنّ البسملات الواقعة في أوائل السور لها حقائق متبائنة وماهيّات مختلفة ، ولا ينصرف اللفظ المشترك إلى بعضها إلاّ بقصد ذلك البعض ، نظير صلاتي الظهر والعصر ، وجه الفساد أنّه بعد عدم قيام دليل على تعدد حقائقها لا مجال لادعائه أصلا ، بعد كون الظاهر بنظر