(الصفحة 13)العدول من الائتمام إلى الانفراد
وحيث انتهى الكلام إلى هذاالمقام، فلابأس أن نتعرّض للمسألة المعنونة في صلاة الجماعة ، وهي أنّه هل يجوز العدول من الائتمام إلى الانفراد في أثناء الصلاة أم لا؟
فنقول : لا يخفى أنّ هذه المسألة ليست معنونة في كتب قدماء أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم ، لا في الكتب الموضوعة لنقل الفتاوى المتلقّاة عن الأئمة(عليهم السلام) بعين ألفاظها الصادرة عنهم ـ كأكثر كتب المتقدمين(1) ، فإنّ المتداول بينهم هو ذكر الروايات بعين ألفاظها في كتبهم الفقهية ، من غير تعرّض لما هو خارج عن موردها ، واستنباط حكمه منها ، ولذا صار ذلك موجباً لطعن العامة عليهم ، والنظر إلى فقه الإمامية بعين التحقير ، وكان ذلك سبباً لتصنيف الشيخ أبي جعفر الطوسي(قدس سره) ، كتابه الكبير الموسوم بالمبسوط ، كما ذكر ذلك في مقدّمته(2)ـ ولا في سائر كتبهم .
وبالجملة : فلم يرد في المسألة نصّ ولا ما يدل على وجوده كالذكر في تلك الكتب ، ولا أفتى بحكمه أحد من المتقدمين ، نعم ذكره الشيخ في مواضع من المبسوط والخلاف .
قال في باب صلاة الجماعة من المسبوط : من فارق الإمام لغير عذر بطلت صلاته وإن فارقه لعذر وتمّم صلاته صحّت صلاته ولا يجب عليه إعادتها(3) .
وقال في الخلاف في باب صلاة الخوف فيما إذا صلّى صلاة الخوف في غير الخوف بعد الحكم بصحّة صلاة الامام والمؤتمين على أي وجه وقعت ، ونقل الخلاف من بعض العامة ما هذا لفظه : دليلنا إنّه ليس على بطلان شيء من هذه
- (1) كالمقنعة للمفيد والمقنع للصدوق والنهاية للشيخ والغنية لابن زهرة والكافي لأبي الصلاح.
- (2) المبسوط 1 : 1 ـ 2 .
- (3) المبسوط 1 : 157 .
(الصفحة 14)
الصلوات دليل ، فيجب أن تكون كلّها صحيحة ، ومن ادّعى أنّه من حيث فارق الإمام بطلت صلاته، فعليه الدليل(1) .
وقال فيه أيضاً في باب صلاة الجماعة : مسألة فيها ثلاث مسائل ومجملها هي مسألة الاستخلاف ، ونقل نيّة الجماعة إلى الانفراد ، والعدول عن الانفراد إلى الجماعة ، ثمّ قال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وقد ذكرناها في الكتاب الكبير ، ولأنه لا مانع يمنع منه ، فمن ادّعى المنع فعليه الدلالة(2) ، انتهى .
ولا يخفى أنّ التمسّك بإجماع الفرقة وأخبارهم الظاهر في كون المسألة منصوصة إنّما هو لخصوص المسألة الاُولى(3) ، وإن كان ظاهر العبارة خلافه ، وأنّ اجماع الفرقة وأخبارهم قائم على المسائل الثلاث ، لوضوح عدم ورود نصّ بالنسبة إلى ما عدى المسألة الاُولى ، ولم يذكر نصّاً على ذلك لا في كتابه الكبير المسمّى بالتهذيب ، ولا في غيره .
نعم يمكن استفادة حكم الأخيرتين ، ممّا ورد في مسألة الاستخلاف ، لأنه مبني على صيرورة الصلاة فرادى ، ثمّ جماعة ، فباعتبار صيرورتها فرادى يصح العدول من الجماعة إلى الانفراد ، وباعتبار صيرورتها ثانياً جماعة بعد الفرادى ، يصح العدول من الانفراد إلى الجماعة .
هذا ، ولكن الاستفادة ممنوعة ، لأنّ الاستخلاف ليس مبنياً على صيرورة الصلاة فرادى ، حتى تصير جماعة ثانياً ، لما سيأتي في باب الجماعة . وكيف كان فقد عرفت أنّ الشيخ أوّل من تعرّض للمسألة في بعض كتبه الفقهية ـ المصنّف على خلاف ما هو المتداول بين الفقهاء ـ كالمبسوط والخلاف ، وقد عرفت أيضاً أنّ
- (1) الخلاف 1 : 648 مسألة 420 .
- (2) الخلاف 1: 552 مسألة 293 .
- (3) وهي : من صلّى بقوم بعض الصلاة .
(الصفحة 15)
مختاره في الأوّل التفصيل بين صورة العذر فيجوز ، وغيرها فلا يجوز .
ثمّ لم يتعرّض لها أحد من الفقهاء المتأخرين عن الشيخ إلى زمان صاحب الوسيلة(1) ، فإنّه تعرّض لها فيها تبعاً له ، حيث عدّ في جملة محظورات الجماعة مفارقة الإمام لغير عذر . هذا ، وظاهر جماعة من المحققين كالمحقّق(2) ، والعلاّمة(3) ، والشهيد الثاني القول بالجواز مطلقاً . واختار أكثر المتأخرين كصاحبي الحدائق ، والمدارك ، والنراقي في المستند(4) ، وصاحب المفاتيح(5) ، وشارحه المحقّق البهبهاني(قدس سرهم)المنع مطلقاً(6) .
ثمّ إنّ القائل بالمنع يمكنه تقرير مختاره بوجوه :
الأوّل : إنّ قصد الانفراد لا يؤثّر في صيرورة الصلاة فرادى ، بل الصلاة المنعقدة جماعة تبقى على حالها إلى آخر الصلاة ، سواء عدل عنها بالنية إلى الانفراد ، أم لم يعدل ، ومقتضى هذا الوجه أنّه لو عدل عنها بعد الركعة الاُولى تسقط القراءة عنه بالنسبة إلى الركعة الثانية ، وكذا يكون شكّه بلا حكم مع حفظ الإمام .
وبالجملة: يترتّب على صلاته جميع أحكام صلاة المأموم ، لأنّ المفروض عدم تأثير قصد الانفراد أصلا .
الثاني : إنّ قصد الانفراد وإن كان موجباً لصيرورة الصلاة فرادى ، إلاّ أنّ العدول عن الائتمام إلى الانفراد ، وجعل الصلاة المنعقدة جماعة على غير ما انعقدت عليه منهيّ عنه في الشريعة، أو يقال: إنّ الواجب إدامة الصلاة جماعة وإبقائها على
- (1) الوسيلة: 106 .
- (2) المعتبر : 2 / 448 ; شرائع الاسلام: 1 / 116 .
- (3) تذكرة الفقهاء : 4 / 269 مسألة 557; مختلف الشيعة : 3 / 74; مسالك الأفهام 1: 320 .
- (4) الحدائق: 11 / 240; مدارك الأحكام 4: 379، مستند الشيعة 8 : 163 .
- (5) بل هو (رحمه الله) جوّزها بشرط العذر، مفاتيح الشرائع 1: 124 .
- (6) نقله عنه في جواهر الكلام 14: 21.
(الصفحة 16)
حالها الأوّل، وعدم العدول عمّا انعقدت عليه من الجماعة إلى الانفراد .
ومرجع هذا الوجه إلى أنّ العدول لا يوجب إلاّ مخالفة تكليف تحريمي أو وجوبي ، من غير أن تصير الصلاة فاسدة ، وإلى هذا الوجه ينظر ما استدلّ به الشيخ في الخلاف في عبارته المتقدمة ، من عدم الدليل على كون العدول منهياً عنه وأنّ الأصل الإباحة ، وما ذكره العلاّمة في بعض كتبه(1) : من أنّ الجماعة فضيلة للصلاة ، فبالعدول عنها لا يحصل إلاّ ترك الفضيلة في بعض أجزاء الصلاة ، ومراده إنّه كما أنّ الجماعة لا تكون واجبة عند الشروع في الصلاة ، كذلك لا يجب إبقائها وإدامتها إلى آخر الصلاة .
الثالث : إنّ قصد الانفراد يوجب صيرورة الصلاة فاسدة ، فالعدول عن الائتمام إلى الانفراد لا يؤثر في مجرّد مخالفة حكم تكليفي ، من الحرمة ، أو الوجوب ، بل يؤثر في فساد الصلاة وبطلانها ، وإلى هذا يرجع ما استدل به بعض القائلين بالمنع(2) ، من أنّه ليس في الشريعة صلاة مركّبة من الجماعة والفرادى ، فالعدول منها إلى الانفراد تشريع محض، فلا تقع صحيحة .
الرابع : إنّ سقوط القراءة بالنسبة إلى المأموم ، وكذا سائر ما يسقط عنه ، إنّما هو فيما إذا وقعت الصلاة بتمامها جماعة ، وأمّا لو وقع بعض أجزائها جماعة وبعضها فرادى ، فلا دليل على سقوط القراءة ، ولا سقوط غيرها .
ومرجع هذا الوجه إلى أنّ قصد الانفراد وإن كان موجباً لصيرورة الصلاة فرادى ، وأنّ الصلاة لا تبطل من هذه الجهة ، إلاّ أنّ وجه بطلانها هو كونها بدون القراءة مثلا ، وهذا الوجه يختصّ بما إذا أخلّ المأموم بشيء من وظائف المنفرد ،
- (1) تذكرة الفقهاء 4 : 271 .
- (2) مدارك الاحكام : 4 / 379 .
(الصفحة 17)
وأمّا في غير هذه الصورة فلا يجري ، بل مقتضاه صحة الصلاة ، لأنّ المفروض أنّ بطلانها ليس لمجرّد العدول من الجماعة إلى الانفراد ، بل لإخلاله بوظيفة المنفرد ، والمفروض عدمه في غير تلك الصورة .
هذا ، ويرد على الوجه الأوّل ـ وإن كان هذا الوجه لا يستفاد من كلام المانعين ـ إنّه لا معنى لكون قصد الانفراد مؤثّراً في صيرورة الصلاة فرادى ، ولا يقول به القائل بالجواز أيضاً ، حتى يورد عليه بأنّ الاستصحاب يقتضي عدم التأثير ، بل لأنّه لمّا كانت صيرورة الصلاة جماعة تحتاج إلى قصد الاقتداء ، وجعل الصلاة تبعاً لصلاة الإمام كما عرفت .
وهذا المعنى كما أنّه يتوقف على قصد الاقتداء في أوّل الشروع في الصلاة ، كذلك إبقائه وإدامته متوقف على استدامة القصد ، فبمجرّد رفع اليد عن قصد الاقتداء الراجع إلى قصد التبعية في مقام العبادة تبطل الجماعة ، وتصير الصلاة فرادى ، لا أنّ صيرورتها كذلك تحتاج إلى قصد الانفراد وتأثير من ناحيته ، ولذا ذكرنا أنّ المنفرد لا يحتاج إلى قصد الانفراد ، بل يكفي مجرّد عدم قصد الاقتداء وعدم جعل صلاته تبعاً لصلاة غيره .
هذا ، لو اُريد عدم التأثير ، وبقاء الصلاة جماعة ، كما هو الظاهر منه بل صريحه ، وأمّا لو أريد بأنّ قصد الانفراد لا يؤثر في صيرورة الصلاة فرادى ، كما أنّه لا يوجب بقاء الجماعه ، فهذا يرجع إلى أنّ قصد الانفراد يوجب بطلان الصلاة ، كما هو مقتضى الوجه الثالث والرابع .
ويرد على الوجه الثاني أنّ كون العدول عن الائتمام إلى الانفراد منهياً عنه ، أو الإبقاء والإدامة مأموراً به ، مبنيّ على أن لا تكون الصلاة التي وقع بعض أجزاؤها جماعة ، وبعضها فرادى مشروعة ، وإلاّ فلو فرض ثبوت مشروعيتها ، فلا مجال للنهي عن العدول أو الأمر بالإبقاء كما هو واضح .