(الصفحة 456)
قاعدتا التجاوز والفراغ
وهما من القواعد المستفادة من النصوص الصادرة عن العترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين، ولا يهمّنا البحث والنزاع في كونهما قاعدتين أو قاعدة واحدة بل نقول: لا ينبغي الريب في أنّ هنا مسألتين وفرعين:
أحدهما: الشكّ في صحّة العمل بعد الفراغ عن أصل وجوده، وفي كونه مطابقاً للمأمور به أو لما يترتّب عليه الأثر وإن لم يكن مأموراً به، وهذا لا فرق فيه بين أن يكون العمل بسيطاً أو مركباً، كما أنّه لا فرق بين أن يكون منشأ الشكّ في الصحة هو احتمال الإخلال ببعض الأجزاء أو الشرائط، أو يكون منشأه احتمال الإتيان بشيء من الموانع، فمرجع هذا الفرع إلى أنّ العمل الذي وجد في الخارج قطعاً، شكّ في مطابقته للمأمور به أو لما يترتّب عليه الأثر وإن لم يكن مأموراً به.
ثانيهما: الشكّ في وجود بعض الأجزاء حين الاشتغال بالعمل المركّب، وانّ ذلك الجزء هل وجد أم لم يوجد، وهذا الشكّ قد يعرض بعدما يدخل في الجزء الآخر الذي يكون مترتّباً على الجزء المشكوك، وقد يعرض قبله، والأوّل هو الذي
(الصفحة 457)
يعبّر عنه بالشك بعد التجاوز، والمراد به التجاوز عن محلّ الجزء المشكوك لا التجاوز عن نفسه، لأنّ المفروض أنّ أصل وجوده مشكوك فلا معنى للتجاوز عنه مع كونه مشكوكاً.
وكيف كان، فالأخبار الواردة في هذين الفرعين كثيرة ربّما تبلغ خمس عشرة رواية، ثمان منها ينتهي سندها إلى محمد بن مسلم، وهو الذي رواها عن أبي جعفر أو عن الصادق أو عن أحدهما(عليهما السلام) ، وهذه الثمان التي رواها محمد بن مسلم، ثلاث منها متعرّضة لبعض فروعات قاعدة التجاوز، وهي:
1 ـ ما رواه علاء بن رزين عن محمد بن مسلم، عن أحدهما(عليهما السلام) قال: سألته عن رجل شكّ بعدما سجد أنّه لم يركع؟ قال: «يمضي في صلاته»(1).
2 ـ ما رواه محمد بن عليّ بن الحسين بإسناده عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه السلام) في رجل شكّ بعدما سجد أنّه لم يركع، فقال: «يمضي في صلاته حتى يستيقن».
ورواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلاً من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب، عن العلاء مثله، إلاّ أنّه قال: «يمضي على شكّه ولا شيء عليه»(2).
3 ـ ما رواه علاء عن محمد، عن أحدهما (عليهما السلام) في الذي يذكر أنّه لم يكبّر في أوّل صلاته، فقال: إذا استيقن أنّه لم يكبّر فليعد، ولكن كيف يستيقن؟!»(3). فانّ ظاهره أنّ مع عدم الاستيقان لا تجب الإعادة بل يمضي على صلاته.
وثلاث من تلك الثمان متعرّضة لبعض فروعات قاعدة الفراغ في خصوص
- (1) التهذيب 2: 151 ح 595 ; الاستبصار 1: 8 35 ح 1357; السرائر 3: 592; الوسائل 6: 318. أبواب الركوع ب13 ح 5 .
- (2) الفقيه 1 : 228 ح1006; السرائر 3: 592; الوسائل 6: 318 . أبواب الركوع ب13 ح7.
- (3) التهذيب 2: 143 ح558 ; الاستبصار 1: 351 ح1327; الوسائل 6 : 13 . أبواب تكبيرة الإحرام ب2 ح2.
(الصفحة 458)
الصلاة أو لنفسها وهي:
1 ـ ما رواه عليّ بن رئاب عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «كلّما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد»(1).
2 ـ ما رواه أبو أيّوب الخزّاز عن محمد بن مسلم، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في الرجل يشكّ بعدما ينصرف من صلاته، قال: فقال: «لا يعيد، ولا شيء عليه»(2).
3 ـ ما رواه ابن أبي عمير عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): رجل شكّ في الوضوء بعدما فرغ من الصلاة، قال: «يمضي على صلاته ولا يعيد»(3).
وواحدة منها متعرّضة لقاعدة الفراغ في الصلاة وفي الوضوء، وهي ما رواه عبدالله بن بكير عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: «كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكّراً فامضه، ولا إعادة عليك فيه»(4). ودلالتها على قاعدة الفراغ مبنية على أن تكون كلمة ـ من ـ بيانية لا تبعيضية، وعلى الثاني تكون مخالفة للفتاوى والنصوص الاُخر بالنسبة إلى الوضوء.
بقي رواية واحدة من تلك الثمان تدلّ بظاهرها على اعتبار قاعدة الفراغ مطلقاً من غير تخصيص بالصلاة أو الوضوء أو غيرهما، بل ولا بالعبادات، وهي ما رواه ابن بكير عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو»(5).
وهنا رواية تاسعة لمحمد بن مسلم ، التي رواها الصدوق بإسناده عنه، عن
- (1) التهذيب 2: 352 ح1460 ; الوسائل 8 : 246. أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب27 ح2.
- (2) التهذيب 2: 348 ح1443; الاستبصار 1: 369 ح 1404; الوسائل 8 : 246.أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب27 ح1.
- (3) التهذيب 1: 101 و 102 ح 264 و 267; الوسائل 1: 470.أبواب الوضوء ب42 ح5.
- (4) التهذيب 1: 364 ح1104; الوسائل 1: 471. أبواب الوضوء ب42 ح6 .
- (5) التهذيب 2: 344 ح 1426 ; الوسائل 8 : 237. أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب23 ح3.
(الصفحة 459)
أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه قال: «إذا شكّ الرجل بعدما صلّى فلم يدر ثلاثاً صلّى أم أربعاً، وكان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ لم يعد الصلاة، وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك»(1).
بقي سبعة روايات:
1 ـ صحيحة زرارة قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة؟ قال: يمضي. قلت: رجل شكّ في الأذان والإقامة وقد كبّر؟ قال: يمضي. قلت: رجل شكّ في التكبير وقد قرأ؟ قال: يمضي. قلت: شكّ في القراءة وقد ركع؟ قال: يمضي قلت: شكّ في الركوع وقد سجد؟ قال: يمضي على صلاته، ثمّ قال يا زرارة: إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء»(2).
وهذه الرواية تدلّ على قاعدة التجاوز في خصوص الصلاة، والأسئلة والأجوبة الواقعة بين الإمام(عليه السلام) والراوي قبل القضية الكلية التي أفيدت في الذيل تنحصر بحسب الظاهر في الشكّ في الوجود لا الشكّ في الصحة، وحينئذ فلابدّ من أن تكون القاعدة الكلّية المذكورة في الذيل شاملة لتلك الموارد، وذلك موقوف على الالتزام بأنّ المراد من الخروج من الشيء هو الخروج عن محلّه حتى يكون المشكوك هو وجود الشيء لا صحته، أو الأعمّ منه ومن الخروج عن نفسه الملازم للشك في صحّته، وعلى الأوّل أيضاً يدلّ على حكم الشكّ في الصحة بمفهوم الموافقة.
2 ـ صحيحة أُخرى لزرارة الواردة في باب الوضوء الدالة على اعتبار قاعدة الفراغ فيه، وهي ما رواه عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا، فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّى الله ما دمت في حال الوضوء، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه،
- (1) الفقيه 1: 231 ح 1027; السرائر 3: 614; الوسائل 8 : 246. أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب27 ح3.
- (2) التهذيب 2: 352 ح 1459 ; الوسائل 8 : 237. أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب23 ح1.
(الصفحة 460)
وقد صرت في حال اُخرى في الصلاة أو في غيرها، فشككت في بعض ما سمّى الله ممّا أوجب الله عليك فيه وضوءه، لا شيء عليك فيه، فإن شككت في مسح رأسك فأصبت في لحيتك بللاً فامسح بها عليه وعلى ظهر قدميك، فإن لم تصب بللاً فلا تنقض الوضوء بالشكّ، وامض في صلاتك، وإن تيقّنت أنّك لم تتمّ وضوءَك فأعد على ما تركت يقيناً حتى تأتي على الوضوء»(1).
وظاهرها أنّه إذا قام من الوضوء وفرغ منه وقد صار في حال اُخرى في الصلاة وغيرها فشك في بعض ما سمّى الله ممّا أوجب الله عليه وضوءَه فلا شيء عليه.
3 ـ موثقة عبدالله بن أبي يعفور عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه»(2). والضمير في «غيره» يحتمل أن يرجع إلى الوضوء الذي شكّ في شيء منه ويحتمل أن يرجع إلى نفس ذلك الشيء المشكوك، فعلى الأوّل تكون الرواية متعرّضة لقاعدة الفراغ بالنسبة إلى الوضوء، وعلى الثاني لقاعدة التجاوز بالنسبة إليه، فتصير حينئذ مخالفة للفتاوى، حيث أنّ قاعدة التجاوز لا تجري عندهم في الوضوء.
هذا، ويمكن أن يستظهر من الرواية الوجه الأوّل، لأنّ أجزاء الوضوء باعتبار عدم استقلالها لا تكون ملحوظة مستقلّة، بل الملحوظ بهذا النحو إنّما هو نفس الوضوء باعتبار كونه موضوعاً للأثر، وحينئذ فالظاهر أنّ الضمير يرجع إليه لا إلى أجزائه غير الملحوظة.
وكيف كان، فلو فرض إجمال الرواية ودار أمرها بين الوجهين لكانت دلالتها
- (1) الكافي 3: 33 ح2; التهذيب 1: 100 ح 261 ; الوسائل 1: 469. أبواب الوضوء ب42 ح1.
- (2) التهذيب 1: 101 ح262; السرائر 3 : 554; الوسائل 1: 469. أبواب الوضوء ب42 ح2.