(الصفحة 133)
العرف أنّ لها حقيقة واحدة ، وبها جعلت جزءً لجميع السور .
والتزامنا بذلك في مثل صلاتي الظهر والعصر إنما هو لقيام الدليل على ذلك فيهما ، مثل ما ورد فيمن دخل في الصلاة بنية العصر ، ثم ظهر له في الأثناء أنّ عليه صلاة الظهر ، وأنّه لم يأت بها بعد ، من أنّه يجب عليه العدول من العصر إلى الظهر(1) ، فإنّه لو لم يكن عنوان الظهرية والعصرية متبائنين ، وكان ما وقع أولاً متّصفاً بعنوان الظهرية قهراً ، ولم يكن تحقّقه موقوفاً على قصده ، لم يكن معنى لفرض هذه المسألة ، ولا الحكم بالعدول أصلا ، كما هو أوضح من أن يخفى .
هذا ، والعمدة في أصل المسألة ما عرفت من أنّ خلوّ النصوص وكذا الفتاوى من التعرّض لها ، دليل قطعيّ على عدم وجوب قصد التعيين ، بعد كون المسألة ممّا يعمّ به البلوى ، وعدم اطّلاع أهل العرف عليه مع قطع النظر عن التنبيه ، إذ لا يخطر هذا المعنى ببالهم ، ولا يتوجّه إليه أذهانهم أصلا ، فالأقوى هو القول بعدم الوجوب .
* * *
المسألة الثانية : هل يجوز قصد معاني الألفاظ في القراءة؟
قد عرفت أنّ معنى قراءة كلام الغير وحكايته عبارة عن إيجاد مماثل ألفاظه ، قاصداً به حكاية ذلك الكلام ، بأن يجعل ألفاظه المقروءة بحذاء الألفاظ المحكية ، كما يجعل اللفظ حاكياً عن معناه الموضوع له ومرآة له ، وإن كان بينهما فرق ، من حيث أنّ إصدار اللفظ وإرادة لفظ آخر ليس من باب استعمال اللفظ في شيء آخر ، بل من باب إيجاده ليتصوّر لفظ آخر ، وينتقل ذهن المخاطب إليه ، وقد مرّت الإشارة
- (1) الكافي 3: 291 ح1; التهذيب 3: 158 ح340; الوسائل 4: 290. أبواب المواقيت ب63 ح1.
(الصفحة 134)
إلى ذلك وتحقيقه في محلّه .
وكيف كان ، فيقع الكلام هنا في أنّه هل يجوز عند قراءة فاتحة الكتاب أن يقصد معاني ألفاظها أيضاً ، بأن يقصد من قوله تعالى :
{الحمد لله ربّ العالمين}معناه أيضاً ، وهو اختصاص الحمد والثناء بذاته المقدّسة ، ومن قوله تعالى :
{إيّاك نعبد وإيّاك نستعين} ، توجيه الخطاب إلى الله وتخصيصه بالعبادة ، والاستعانة أو لا؟ وجهان .
الظاهر هو الوجه الثاني ، لأنّ الظاهر أنّ وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة إنما هو من باب وجوب قراءة القرآن فيها ، وكون الفاتحة هو القدر المتيقّن ، ولذا تراهم يعبّرون في مقام بيان أفعال الصلاة وكيفيتها ، بأنّه هل تجب قراءة القرآن فيها أم لا؟ واختار الوجوب كافّة المسلمين(1) إلاّ شاذاً منهم(2) .
ثم ذهب القائلون بالوجوب إلى أنّ الواجب قراءة الفاتحة ، لكونها المتيقنة من القرآن المأمور بقراءته في الصلاة .
وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في أنّ وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة إنما هو لوجوب قراءة القرآن فيها ، وحينئذ فلا ينبغي مجال للقول بجواز إرادة معاني جملاتها أيضاً ، لأنّه بعدما كان معنى القراءة راجعاً إلى جعل الألفاظ المقروءة بحذاء الألفاظ المحكية ، وحاكية لها ومندكّة فيها ، لا يعقل أن تجعل تلك الألفاظ بحذاء معانيها أيضاً ، وليس ذلك إلاّ استعمال اللفظ في معنيين ، وقد بيّن في الأصول عدم
- (1) الخلاف 1: 327 مسألة 81 ; المعتبر 2: 164; تذكرة الفقهاء 3: 128 مسألة 218; جواهر الكلام 9: 285; مفتاح الكرامة 2 : 350; مستند الشيعة 5 : 68; بداية المجتهد 1: 181 ـ 182; المجموع 3: 327 و330; المغني لابن قدامة 1: 485; الجامع لأحكام القرآن 1: 117 و 124 .
- (2) مثل الحسن بن صالح بن حيّ والأصمّ وابن علية; راجع التفسير الكبير 1: 188; والمجموع 3: 330; والخلاف 1: 328 مسألة 81 .
(الصفحة 135)
جوازه بل استحالته ، كما هو ظاهر الكفاية(1) .
ويؤيد ما ذكرنا من أنّ قراءة الفاتحة في الصلاة إنما هو من باب قراءة القرآن ، ولا يجتمع ذلك مع قصد معاني جملاتها أيضاً، ما ذكره المحقّق في المعتبر ، في مسألة تحريم قول آمين بعد الحمد ، من أنّ التأمين الذي يكون معناه : اللهمّ استجب ، يستدعي سبق دعاء ، ولا يتحقّق الدعاء إلاّ مع القصد(2) ، ومن المعلوم عدم سبق دعاء مقصود ، وبدون القصد يخرج التأمين عن حقيقته فيكون لغواً .
هذا ولكن لا يخفى أنّ مثل قوله: «إيّاك نعبد وإيّاك نستعين» ، لا يعقل أن يكون بنفسه من كلمات الله تعالى ، لأنّ ضرورة الشرع بل العقل على خلافه ، فالواجب أن يكون في أمثال هذه الجمل كلمة «قل» أو «قولوا» مقدّرة ، فصحة كونها كلاماً له تعالى إنما هو باعتبار كونه مقولا للقول المأمور به ، وإلاّ فهو بنفسه ممّا لا يعقل أن يكون كلاماً له تعالى .
ويؤيد ذلك ـ أي كون كلمة «قل» أو «قولوا» مقدّرة ـ ما في بعض التفاسير ، كتفسير التبيان لشيخنا الطوسي(قدس سره) ، من أنّ كلمة قل يا محمّد مقدّرة في أوّل السورة ، وفي تفسير الطبري حكي ذلك بأسانيد كثيرة عن ابن عباس(3) .
وبالجملة: لا إشكال في تقدير كلمة «قل» أو «قولوا» في أوّل السورة أو قبل قوله : «إيّاك نعبد وإيّاك نستعين» إلى آخر السورة ، والسرّ في الحذف ما عرفت من كونه بديهياً ، إذ بدونه لا يعقل أن يكون كلاماً له تعالى .
وحينئذ فنقول : إذا وجب علينا أن ندعو الله تعالى بهذه الجمل ، فمعنى ذلك أن نتلفّظ بهذه الألفاظ قاصداً بها معانيها المدلول عليها ، بأن نجعل هذه الألفاظ بحذاء
- (1) كفاية الاُصول 1 : 36 ، عنوان : الثاني عشر .
- (2) المعتبر 2 : 186 .
- (3) تفسير التبيان 1 : 38; جامع البيان للطبري 1 : 76 ح113; وص78 ح114 وص94 ح130.
(الصفحة 136)
تلك المعاني ، وحاكية لها ومندكّة فيها ، نظير استعمال اللفظ في معناه الموضوع له ، بل هو عينه .
ولعلّ ذلك هو السرّ في حذف كلمة «قل» أو «قولوا» ، فإنّه لو كانت هذه اللفظة مذكورة في الجملة لكان من الممكن أن نوجد مماثل هذه الكلمات ، ونجعل كلّ واحدة منها بحذاء مماثلها من الألفاظ المحكيّة ، من دون نظر إلى المعنى أصلا ، وأمّا مع حذفها ، فبما أنّها لا يمكن أن تكون كلامه تعالى ، فلا يجوز أن يقصد نفس تلك الألفاظ ، لكونها منزلة من الله تعالى ، بل لابدّ أن يتعلّق القصد بنفس معانيها ولو إجمالا .
وبالجملة: فالظاهر جواز قصد المعنى في أمثال هذه الجملات .
ثم إنّ بعض المحقّقين من المعاصرين تعرّض في كتاب صلاته لنظير المسألة ، وهي مسألة جواز ردّ السلام في الصلاة بقوله سلام عليكم بقصد القرآنية قاصداً به رد تحية المسلم تبعاً فقال ما ملخّصه :
إنّه قد يتخيّل هنا إشكال على القائلين بجواز ردّ السلام كذلك ، وبيان الاشكال أنّ قراءة القرآن لا تصدق إلاّ إذا صدر الألفاظ من القارئ بعنوان الحكاية عن الألفاظ المنزلة ، ورد التحية يتوقّف على أن يوجه سلامه إلى المسلم مخاطباً إياه ، والمفروض أنّ قوله سلام عليكم بقصد القرآنية لم يكن خطاباً للشخص المسلم ، حتى يكون ردّاً لتحيته ، وليس هذا من جهة الاشكال في امتناع الجمع بين قصد اللفظ وقصد المعنى في استعمال واحد ، فإنّ هذا الإشكال مندفع بإمكان ذلك طولا ، بأن يقصد اللفظ ويقصد من اللفظ المقصود ، أي المستعمل فيه معناه ، بل الإشكال في المقام إنما هو من جهة أنّ اللفظ المقصود ليس معناه السلام على هذا الشخص المسلم حتّى يقصد تبعاً ، ويصير ردّاً لتحيته ، ودفع الاشكال بأنّ المتكلّم بسلام عليكم إنما يقصد بلفظه حكاية الكلام المنزل مع قصده من الكلام
(الصفحة 137)
المحكيّ الخطاب إلى المسلم ، لا أنّه يسلّم على المخاطب باللفظ الصادر منه ، ونظير ذلك كتابة السلام عليكم لشخص تريد أن ترسل المكتوب إليه ، فإنّ المكتوب إنما قصد به الحكاية عن السلام الملفوظ ، وقصد من السلام الملفوظ الخطاب إلى المخاطب المقصود(1) . انتهى ملخّصاً .
وأنت خبير بأنّ ما دفع به الإشكال هو بعينه نفس الإشكال ، لأنّ صريح كلامه أنّ الإشكال ليس من جهة امتناع اجتماع قصد اللفظ والمعنى ، بل من جهة أنّ اللفظ المقصود ليس معناه السلام على هذا المخاطب المسلم ، حتى يقصد تبعاً ، وما دفع به الإشكال إنما يدلّ على كون قصد المعنى في طول قصد اللفظ وتبعاً له ، فهو إنما يصلح للجواب عن إشكال امتناع اجتماع القصدين لا عن الإشكال الذي هو المهم في المقام .
ثم إنّ تنظيره بمسألة الكتابة لا يخلو عن تأمّل ونظر ، لأنّ النقوش الكتابية وإن كانت بحذاء الألفاظ ، والألفاظ موضوعة للمعاني بحيث لو أراد الإنسان أن يعرف معنى كلمة منقوشة ، يكون ذلك متوقفاً أولاً على تطبيق تلك الكلمة المنقوشة على ملفوظها ، وثانياً على العلم بمعنى ذلك الملفوظ ، فإذا أراد أن يعرف معنى كلمة الصعيد المنقوشة في القرآن ، يتوقّف ذلك على العلم بكون هذا النقش مطابقاً للفظ الصعيد ، وعلى العلم بمعنى الصعيد الملفوظ .
ولكن تلك النقوش إنما تجعل بدلا عن الألفاظ في الدلالة على معانيها ، لا أنّها تقصد بها الألفاظ وتقصد من الألفاظ معانيها . فالشخص الذي يكتب إلى صديقه : السلام عليكم ، إنما يقصد السلام عليه بهذه الجملة المكتوبة ، لأجل بعد مكانهما وعدم امكان المخاطبة بالألفاظ ، لا أنّه يجعل الجملة المكتوبة بحذاء ملفوظها ، ويقصد من الملفوظ السلام عليه ، لأنّه لا يكون هنا ملفوظ نوعاً حتّى يجعلها
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 299 .