(الصفحة 379)
فرفع أثر الإكراه حينئذ غير مجد في إحراز تلك الهيئة الاتصالية التي اعتبرها شرطاً في الصلاة. إذ لا يثبت به لوازمه العقلية.
ثمّ إنّ بعض المحقّقين من المعاصرين بعد أن نفى البعد عن شمول حديث الرفع للمقام ـ بناء على أنّ المراد رفع جميع الآثار دون خصوص المؤاخذة ـ قال: ولكن في بعض الأخبار الحكم ببطلان الصلاة إذا صدر الكلام عمداً، وعدم البطلان إذا صدر ناسياً، ويظهر من ذلك ظهوراً قويّاً أنّ الكلام الصادر عن إكراه ليس قسماً ثالثاً حتى يلحق بكلام الناسي بواسطة حديث الرفع(1). انتهى .
ولا يخفى أنّ شمول الحديث لا يبتني على أن يكون الكلام الصادر عن إكراه قسماً ثالثاً، لأنّ الحديث يشمله وإن كان من مصاديق الكلام العمدي. نعم يمكن أن يقال: بأنّ المستفاد من الأدلة الدالة على عدم مبطلية الكلام إذا صدر سهواً هو انحصار ذلك بالكلام السهوي، ولكن دون إثباته خرط القتاد. وكيف كان، فالأحوط إعادة الصلاة لو تكلّم فيها مكرهاً.
ردّ السلام في أثناء الصلاة
هل يجوز ردّ السلام في أثناء الصلاة أم لا، بل يحرم؟ ذهب إلى الثاني جمهور العامّة، وحكي عن البصري من التابعين القول بوجوب الرّد قولاً; وقد وقع الخلاف بين الجمهور، حيث أنّهم بين من قال: بأنّه يردّ بالإشارة برأسه كالشافعي في القديم، أو بيديه كما في موضع آخر منه، وبين من قال بأنه يردّ قولاً، لكن بعد الفراغ من الصلاة كأبي ذر الغفاري وعطاء والثوري. وقال الأخير: إن كان باقياً ردّ عليه وإن كان منصرفاً اتبعه بالسلام، وبين من قال بأنّه يردّ بقلبه كالنخعي، وبين
- (1) كتاب الصلاة للمحقق الحائري 1: 300 .
(الصفحة 380)
من قال بأنّه لا يردّ بشيء أصلاً فيضيع سلامه(1).
وأصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم متّفقون ظاهراً على الجواز الذي يراد به الوجوب(2)، والتعبير به إنّما هو في قبال العامّة القائلين بالتحريم كما عرفت، وإلاّ فمن الواضح أنّه بعد ملاحظة كون الردّ واجباً في غير حال الصلاة لا يبقى للجواز بالمعنى الأخصّ في حال الصلاة وجه. وكيف كان فمستندهم في ذلك هي الأخبار الواردة في هذا الباب وهي سبعة:
1 ـ خبر محمّد بن مسلم قال: دخلت على أبي جعفر(عليه السلام) وهو في الصلاة فقلت السلام عليك. فقال: السلام عليك. فقلت: كيف أصبحت؟ فسكت، فلمّا انصرف قلت: أيردّ السلام وهو في الصلاة؟ قال: «نعم مثل ما قيل له»(3).
2 ـ رواية سماعة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يسلّم عليه وهو في الصلاة؟ قال: «يردّ: سلام عليكم، ولا يقول: وعليكم السلام، فإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان قائماً يصلّي، فمرّ به عمّار بن ياسر فسلّم عليه عمّار، فردّ عليه النبي(صلى الله عليه وآله) هكذا»(4).
3 ـ رواية منصور بن حازم عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: إذا سلّم عليك الرجل وأنت تصلّي، قال: «تردّ عليه خفيّاً كما قال»(5).
4 ـ رواية عمّار بن موسى عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن السلام على المصلّي؟ فقال: «إذا سلّم عليك رجل من المسلمين وأنت في الصلاة فردّ عليه فيما
- (1) المجموع 4: 103 ـ 105; المدوّنة الكبرى 1: 99; الخلاف1: 388 مسألة 141.
- (2) الانتصار: 153; الخلاف 1: 388 مسألة 141; المعتبر 2: 263; تذكرة الفقهاء 3: 281 مسألة 321; الحدائق 9: 79; مدارك الاحكام 3: 473; مستند الشيعة 7: 67; كشف اللثام 4: 183; جواهر الكلام 11: 100 .
- (3) التهذيب 2 : 329 ح1349 ; الوسائل 7: 267. أبواب قواطع الصلاة ب16 ح1.
- (4) الكافي 3: 366 ح1; التهذيب 2 : 328 ح1348 ; الوسائل 7: 268. أبواب قواطع الصلاة ب16 ح2.
- (5) التهذيب 2 : 332 ح1366; الفقيه 1: 241 ح1065; الوسائل 7: 268. أبواب قواطع الصلاة ب16 ح3.
(الصفحة 381)
بينك وبين نفسك، ولا ترفع صوتك»(1).
5 ـ رواية محمد بن مسلم، أنّه سأل أبا جعفر(عليه السلام) عن الرجل يسلّم على القوم في الصلاة؟ فقال: «إذا سلّم عليك مسلم وأنت في الصلاة فسلّم عليه، تقول: السلام عليك، وأشر بإصبعك»(2).
6 ـ رواية عليّ بن جعفر(عليه السلام) عن أخيه قال: سألته عن الرجل يكون في الصلاة فيسلّم عليه الرجل، هل يصلح له أن يردّ؟ قال: «نعم، يقول: السلام عليك، فيشير إليه بإصبعه»(3).
7 ـ ما عن الشهيد في الذكرى قال: وروى البزنطي عن الباقر(عليه السلام) قال: «إذا دخلت المسجد والناس يصلّون فسلّم عليهم، وإذا سلّم عليك فاردد، فإنّي أفعله، وإنّ عمّار بن ياسر مرّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يصلّي، فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فردّ عليه السلام»(4).
هذه هي الروايات الواردة في هذا الباب، ويقع الكلام فيها من جهات:
الاُولى: ظاهر أكثر الروايات المتقدّمة وجوب ردّ السلام، ومقتضى بعضها الجواز، ولكنّ المراد به هو الجواز بالمعنى الأعم المنطبق على الوجوب. نعم هنا رواية ظاهرة في الحرمة، وهي رواية مصدّق بن صدقة عن جعفر بن محمّد، عن أبيه(عليهما السلام)قال: «لا تسلّموا على اليهود ولا النصارى ـ إلى أن قال : ـ ولا على المصلّي، وذلك لأنّ المصلّي لا يستطيع أن يردّ السلام...»(5). ولكنّها محمولة على التقية
- (1) الفقيه 1: 240 ح 1064; التهذيب 2: 331 ح1365; الوسائل 7: 268. أبواب قواطع الصلاة ب16 ح4.
- (2) الفقيه 1: 240 ح1063; السرائر 3: 604; الوسائل 7: 268. أبواب قواطع الصلاة ب16 ح5 .
- (3) قرب الإسناد: 177 ح801 ; الوسائل 7: 269. أبواب قواطع الصلاة ب16 ح7.
- (4) الذكرى 4 : 24; الوسائل 7 : 271 . أبواب قواطع الصلاة ب17 ح3 .
- (5) الخصال: 84 4 ح 57; الوسائل 7: 27. أبواب قواطع الصلاة ب17 ح1.
(الصفحة 382)
لموافقتها لفتاوى العامّة.
الثانية: مقتضى روايتي منصور وعمّار المتقدّمتين وجوب الردّ خفيّاً، بناءً على أن لا يكون المراد بقوله(عليه السلام) في رواية عمّار: «فردّ عليه فيما بينك وبين نفسك». هو الردّ بالقلب كما يشهد له قوله: «ولا ترفع صوتك»، فإنّ الظاهر أنّ المراد هو القول خفيّاً، ولعلّ الوجه فيه هو أنّ العامّة حيث كانت فتاواهم متطابقة على التحريم، فلذا أمر الشيعة بالإخفاء لئلاّ يظهر أمرهم ويتبيّن مخالفتهم.
الثالثة: قد ورد في إحدى روايتي محمّد بن مسلم ورواية عليّ بن جعفر(عليه السلام)الأمر بالإشارة بالإصبع، ولكنّ الظاهر عدم كونه أمراً وجوبيّاً، لعدم توقّف الردّ عليه وبعد كونه واجباً نفسيّاً، ولعلّ الوجه فيه هو إعلام المسلّم بذلك لعدم إمكان التوجّه والإقبال في حال الصلاة، ويحتمل أن يحمل على التقية، لما عرفت من أنّ الشافعي أوجب الإشارة باليد في موضع من القديم.
الرابعة: مقتضى رواية منصور وإحدى روايتي محمّد بن مسلم وجوب ردّ السلام بمثل ما قيل له وكما قال; وهل المراد بالمماثلة، المماثلة من جميع الجهات من التعريف، والتنكير، والإفراد، والجمع، والتقديم، والتأخير، كما يشهد له إطلاق المماثلة في الروايتين، أو أنّ المراد بها المماثلة في خصوص التقديم والتأخير؟. كما ربما يدلّ على ذلك رواية سماعة الناهية عن الردّ بمثل «عليكم السلام»، لأنّ المتعارف بينهم في مقام السلام هو تقديم السلام، واعتبار المماثلة يقتضي تقديمه في مقام الجواب أيضاً.
وحينئذ، فالتعرّض لذلك انّما هو للتنبيه على أنّ كيفية الجواب في أثناء الصلاة تغاير الكيفية المتعارفة بينهم في مقام الجواب في غيرها من تقديم الظرف، والظاهر هو الوجه الثاني.
فما ورد في إحدى روايتي محمّد بن مسلم ورواية عليّ بن جعفر المتقدّمتين من
(الصفحة 383)
أنّه يجب أن يقال: السلام عليك، إنّما يكون ذكره من باب كونه أحد الأفراد، والمقصود منه وجوب تقديم السلام على الظرف فقط، لا هو مع التعريف والإفراد كما لا يخفى. ثم إنّه يحتمل أن يكون المراد بالمثل هو المماثلة في كونه قولاً، فالمراد هو بيان وجوب الردّ قولاً كما في غير حال الصلاة، قبالاً للعامّة القائلين بحرمته كذلك، ولكن هذا الإحتمال بعيد.
هذا كلّه فيما يتعلّق بوجوب ردّ السلام في الصلاة. وأمّا الردّ من حيث هو فهو واجب شرعاً، ويدلّ عليه قوله تعالى:
{وإذا حيّيتم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها}(1) والتحية عبارة عن نوع خاصّ من التواضع، مستعمل لدى العرف عند ملاقات بعضهم لبعض، وقد كان متداولاً في زمان الجاهليّة أيضاً، وكان علامة لعدم كون المحيّي قاصداً للسوء بالنسبة إلى المحيّى.
وكيف كان، فهل هو عبارة عن مطلق الألفاظ المستعملة في ذلك المورد، أو أنّه يختصّ بخصوص صيغة السلام؟ حكي عن الطبرسي في مجمع البيان أنّه قال: التحية: السلام، يقال: حيّى تحيّة إذا سلّم(2)، ولكن المحكيّ عن بعض أهل اللغة أنّه إسم لمطلق الألفاظ التي تستعمل في ذلك المورد، سلاماً كان أو غيره ممّا هو بمنزلته(3). ويؤيّده ما عن الصدوق في الخصال عن أبي جعفر، عن آبائه، عن أمير المؤمنين(عليهم السلام)قال: «إذا عطس أحدكم فسمّتوه قولوا: يرحمكم الله، وهو يقول: يغفر الله لكم ويرحمكم، قال الله تعالى: (
وإذا حيّيتم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها)(4)».
- (1) النساء : 86 .
- (2) مجمع البيان 3: 84 .
- (3) مجمع البحرين 1 : 608 مادّة حَ ىَ ىَ .
- (4) الخصال: 633; الوسائل 12: 8 8 . أبواب احكام العشرة ب58 ح3 .