(الصفحة 485)
أحكام الشكوك
قد عرفت في أوّل مبحث الخلل أنّ الشكّ لا يكون مغايراً لعنوان السهو ، بل هو من أفراده ومصاديقه ، لأنّ السهو عبارة عن الغفلة والذهول عن الواقع وخفائه وعزوبه عن الذهن ، غاية الأمر أنّه قد تكون الغفلة مقارنة للالتفات والتوجّه إليها ، ولا محالة يكون الشخص متردّداً حينئذ ، وقد لا تكون مقارنة له بل يكون غافلاً عن غفلته عن الواقع وخفائه عنه أيضاً ، والأوّل هو الشكّ ، والثاني هو الذي يسمّى في الاصطلاح بالسهو .
وكيف كان ، فالشكّ قد يتعلّق بأصل الاتيان بالصلاة ، وقد يتعلّق بأعداد الركعات ، وقد يتعلّق بالأفعال ، والصورة الاُولى قد يكون الشكّ فيها في الوقت وقد يكون في خارجه ، ففي الأوّل يجب الإتيان بالصلاة على ما هو مقتضى قاعدة الاشتغال ، وفي الثاني لا يجب القضاء لقاعدة عدم الاعتناء بالشكّ بعد الوقت .
وفي الصورة الثالثة قد يكون الشكّ بعد التجاوز عن المشكوك ، وقد يكون قبله ، ففي الأوّل لا يعتنى به نظراً إلى قاعدة التجاوز المتقدّمة ، كما أنّه لو كان الشكّ
(الصفحة 486)
بعد الفراغ لا يترتّب عليه أثر بمقتضى قاعدة الفراغ المتقدّمة أيضاً ، وفي الثاني يجب الإتيان بالمشكوك على ما هو مقتضى أصالة عدم الإتيان به .
وفي الصورة الثانية قد يكون الشكّ في الأوليين وقد يكون في الأخيرتين من الرباعيّة ، ففي الأوّل تبطل الصلاة لأجل الشكّ ، لما تقدّم من قاعدة عدم احتمال الركعتين الأوليين للسهو ، وقد عرفت أنّ القدر المتيقّن منها ما إذا كان ظرف الشكّ أيضاً هو الركعتين الأوليين ، وفي الثاني تتحقق صور كثيرة وأقسام عديدة ، أكثرها منصوص وبعضها غير منصوص .
الشكوك المنصوصة خمسة :
أحدها : الشكّ بين الإثنتين والأربع
يدلّ على حكمه روايات :
منها : رواية الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه قال : «إذا لم تدر أثنتين صلّيت أم أربعاً ولم يذهب وهمك إلى شيء فتشهّد وسلّم ثمّ صلِّ ركعتين وأربع سجدات ، تقرأ فيهما بأُمّ الكتاب ثم تشهّد وتسلّم ، فإن كنت إنّما صلّيت ركعتين كانتا هاتان تمام الأربع ، وإن كنت صلّيت أربعاً كانتا هاتان نافلة»(1) .
ومنها : رواية ابن أبي يعفور قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل لا يدري ركعتين صلّى أم أربعاً؟ قال : «يتشهّد ويسلّم ثمّ يقوم فيصلّي ركعتين وأربع سجدات يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب ثم يتشهّد ويسلّم ، وإن كان صلّى أربعاً كانت هاتان نافلة ، وإن كان صلّى ركعتين كانت هاتان تمام الأربعة ، وإن تكلّم فليسجد
- (1) الوسائل 8 : 219 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب11 ح1 .
(الصفحة 487)
سجدتي السهو»(1) .
ومنها : رواية زرارة عن أحدهما(عليهما السلام) في حديث قال : قلت له : من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال : «يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد ولا شيء عليه»(2) .
ومنها : رواية محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل صلّى ركعتين فلا يدري ركعتين هي أو أربع؟ قال : «يسلّم ثم يقوم فيصلّي ركعتين بفاتحة الكتاب ويتشهّد وينصرف وليس عليه شيء»(3) . إلى غير ذلك من الروايات الدالة عليه .
وبالجملة : فلا إشكال في أنّ حكمة وجوب البناء على الأربع بمعنى وجوب المعاملة مع الركعة المردّدة بين الثانية والرابعة معاملة الركعة الرابعة ، بأن يتشهّد ويسلّم بعدها ، لا البناء القلبي على الأربع الذي هو أحد طرفي الشكّ ، وهذا الحكم من متفردات الإمامية ولا يقول به سائر فرق المسلمين ، بل الحكم عندهم هو البناء على الأقلّ على ما هو مقتضى أصالة عدم الإتيان بالزائد عليه(4) .
ولكن الإمامية رضوان الله عليهم لأجل اعتقادهم بحجّة أُخرى التي يجب التمسّك بها كما يجب التمسّك بالكتاب العزيز على ما يقتضيه حديث الثقلين المرويّ
- (1) الكافي 3 : 352 ح 4; التهذيب 2 : 86 1 ح 739; الاستبصار 1 : 372 ح 1315; الوسائل 8 : 219 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب11 ح2 .
- (2) الكافي 3 : 351 ح 3; التهذيب 2 : 186 ح 740 ; الاستبصار1 : 373 ح1416; الوسائل 8 : 220 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب11 ح3 .
- (3) التهذيب 2 : 185 ح 837 ; الاستبصار1 : 372 ح1414; الوسائل 8 : 221 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب11 ح6 .
- (4) بداية المجتهد 1 : 273; المغنى لابن قدامة 1 : 674; الشرح الكبير 1 : 727; المجموع 4 : 113; الانتصار : 156; تذكرة الفقهاء 3 : 343 ـ 344 مسألة 356 .
(الصفحة 488)
بطرق الفريقين(1) ، تسالموا على عدم جواز الأخذ بمقتضى الاستصحاب هنا ، ولزوم البناء على الأكثر الذي هو مفاد النصوص الكثيرة ، فالإشكال في ذلك ، وكذا في لزوم الإتيان بركعتين بعنوان صلاة الاحتياط ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه .
هل صلاة الاحتياط صلاة مستقلّة أم لا؟
يقع الكلام في حال صلاة الاحتياط ، وأنّها هل هي صلاة مستقلّة بحيث لا يضرّ بهاتخلّل الحدث بينها وبين أصل الصلاة الواقعة قبلها ، أو أنّها من توابع الصلاة المأمور بها ومتمّماتها ، فكأنّه جزء لها ، فلا يجوز الإتيان بالمنافي بينهما؟ وجهان :
من ظهور التعبير بوجوب الصلاة ركعتين في الروايات المتقدّمة في كونها صلاة مستقلّة خصوصاً مع وجوب أن تكون مشتملة على النية وتكبيرة الاحرام في إفتتاحها ، وعلى التسليم في إختتامها وخصوصاً مع تعيّن قراءة الفاتحة فيهما ، على ما هو ظاهر قوله(عليه السلام) : تقرأ فيهما بأُمّ الكتاب ، بناءً على أن لا يكون الغرض منه لزوم خصوص قراءة الفاتحة في مقابل ضمّ السورة إليها أيضاً .
ومن أنّ التأمّل في الروايات يعطي كونها من متممّات الصلاة السابقة ، وتوضيحه أنّه قد ورد في الروايات الكثيرة ، التعبير بكون صلاة الاحتياط في صورة نقص الصلاة السابقة تمام ما نقص .
فمنها : رواية عمّار الواردة في مطلق الشكوك المشتملة على قوله(عليه السلام) : «وإن ذكرت أنّك كنت نقصت كان ما صلّيت تمام ما نقصت»(2) .
- (1) المراجعات : 26 ، المراجعة 8 .
- (2) التهذيب 2 : 349 ح 8 144; الوسائل 8 : 213 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب8 ح3 .
(الصفحة 489)
ومنها : رواية الحلبي المتقدّمة التي قال الصادق(عليه السلام) فيها : «فإن كنت إنّما صلّيت ركعتين كانتا هاتان تمام الأربع»(1) .
ومنها : رواية ابن أبي يعفور المتقدّمة الدالة على هذا المضمون أيضاً(2) .
ومنها : مرسلة ابن أبي عمير الواردة فيمن شكّ بين الثنتين والثلاث والأربع المشتملة على قول الصادق(عليه السلام) بعد الأمر بوجوب صلاة ركعتين من قيام ثم ركعتين من جلوس : «فان كانت أربع ركعات كانت الركعتان نافلة وإلاّ تمّت الأربع»(3) .
ومنها : ما رواه الصدوق في المقنع عن أبي بصير الوارد فيمن لم يدر صلّى ثلاثاً أم أربعاً وذهب وهمه إلى الرابعة المشتمل على قوله(عليه السلام) : «فإن كنت صلّيت ثلاثاً كانتا هاتان تمام صلاتك»(4) .
وبالجملة : فالتعبير بكون صلاة الاحتياط تمام الصلاة على فرض نقصها ، يدلّ على أنّ وظيفة المصلّي مع الشكّ في غير الأوليين مع عدد ركعات الصلاة لم ينقلب من الصلاة أربع ركعات ، بل وظيفة المصلّي الشاك كغيره إنّما هي الصلاة أربع ركعات . غاية الأمر أنّه حيث لم يدر اشتمال صلاته على أربع ركعات ، لأنّه يحتمل النقص فيها ، فلذا حكم عليه بحكم ظاهري وهو وجوب صلاة الاحتياط ، لأنّها على تقدير النقص تحسب جزءً متمّماً لها حقيقة حتّى تتمّ الأربع التي هي المأمور بها ، ولا يكون تشريعها لمجرّدكونها جابرة لنقصان المصلحة التي يجب استيفاؤها ، كما أنّ النوافل الراتبة تكون جابرة لنقصان المصلحة المحتمل في الفرائض ، فإنّ الظاهر أنّ الجبران في النوافل الراتبة إنّما هو بحسب مقام الكمال ، وفي المقام تكون
- (1) الوسائل 8 : 219 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب11 ح 1 .
- (2) الوسائل 8 : 219 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب11 ح2 .
- (3) الكافي 3 : 353 ح 6; الوسائل 8 : 223 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب13 ح4 .
- (4) المقنع : 104 ; الوسائل 8 : 218 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب10ح 8 .