(الصفحة 130)
بسملة خاصة لا يؤثر ذلك القصد في تعيينها جزءً لسورة خاصّة، وخروجها عن قابلية جزئيتها لسورة اُخرى ، فضلا عمّا لو لم يقصد ذلك .
وكيف كان ، فكما أنّ فعلية جزئيّتها في وجودها الأصليّ لم تتحصل إلاّ بانضمام بقية الأجزاء إليها، فكذلك صيرورتها جزءً لسورة خاصّة في وجودها الحكائي لا تتحقّق إلاّ بانضمام سائر الأجزاء إليها ، والسرّ فيه ما عرفت من أنّ الحكاية والاراءة إنما تصدق فيما لو وقع المحكيّ والمرئي ، كما هو عليه في الواقع في ذهن السامع ، من دون تصرّف فيه أصلا .
ثم لا يذهب عليك أنّ استعمال اللفظ وإرادة شخصه ، أو نوعه ، أو شخص آخر من اللفظ ، كما في المقام وأمثاله لا يكون حقيقة من باب الاستعمال الراجع إلى عمل اللفظ في شيء آخر ، بل هو إيجاد اللفظ ، ليتصوّر بنفسه ، ومع خصوصيته ، أو ليتصور لا بنفسه ، بل بما فيه من الجامع بينه وبين غيره ، غاية الأمر إنّه يلزم اقامة قرينة على عدم مدخلية الخصوصية ، كما أنّ القسم الثالث يكون من باب إيجاد اللفظ ، ليتصور جامعه مع تخصّصه بخصوصية اُخرى ، وفي هذا القسم أيضاً تجب إقامة قرينة على عدم مدخلية هذه الخصوصية ، ودخالة خصوصية اُخرى .
وكيف كان ، فما ذكره(قدس سره) من أنّ حكاية الجامع لا تعدّ حكاية لأشخاصه ، إن كان المراد أنّ حكاية الجامع فقط بإيجاد اللفظ الدال عليه بقصد الحكاية ، ليست حكاية للأفراد والأشخاص ، فذلك مسلّم لا ينبغي التأمّل فيه ، ضرورة أنّ حكاية مجيء الإنسان فيما إذا قال : جاء إنسان ، لا تعدّ حكاية لمجيء شخص زيد مثلا ، إلاّ أنّ الكلام في المقام فيما إذا تعقّبها بما يدلّ على الأشخاص .
وإن كان المراد أنّ حكاية الجامع مطلقاً لا تكون حكاية للأفراد ، حتّى فيما إذا ألحقها بما يدلّ على الخصوصيات ، فذلك واضح البطلان ، ضرورة أنّه لو فرض مجيء زيد يوم الجمعة ، وعمرو يوم الخميس ، فقال المخبر : جاء إنسان في يوم
(الصفحة 131)
الجمعة وهو زيد ، فقد حكى الجامع المتحقّق في ضمن بعض خصوصياته ، لا المشترك بينه وبين مجيء عمرو ، وهذا واضح جدّاً ، ولكن لا يخفى أنّ المثال ليس له كثير ربط بالمقام ، ضرورة أنّ كلامنا في الحكاية التصورية ، لا التصديقية .
ومحصّل الكلام في المقام إنّه وإن كانت البسملة بطبيعتها الواحدة مجعولة جزءً لسور القرآن ، وبمجرّد صدورها من المتكلّم بها تصير متشخّصة ، إلاّ أنّ الحكاية إنما تتعلّق بما صدر منه ، وما تكلّم به ، مع قطع النظر عن حيثية صدوره منه وتكلّمه به ، فكما أنّه في مقام الحكاية لا يلحظ قيام الألفاظ الحاكية بالمتكلّم بها ولا صدورها منه ، وإلاّ لم تصدق الحكاية أصلا ، ضرورة أنّها عبارة عن اراءة المحكي وإلقائه ، بحيث كأنّه لم يكن واسطة أصلا ، فكذلك في المحكيّ لا تلحظ حيثية صدوره من المتكلّم به ولا قيامه به ، فالمحكي إنما هي الألفاظ الخاصة ، من دون ملاحظة حيثية صدورها أصلا .
إن قلت : إنّ كلام الله تعالى المنزل على قلب رسوله(صلى الله عليه وآله) عبارة عن تلك الألفاظ المخصوصة ، مع حيثية كونها صادرة عن الله تعالى ، ضرورة أنّها بدون هذه الحيثية لا تعدّ كلام الله ، فإنّ اختصاصها به الموجب لإضافتها إليه إنما هو بهذه الملاحظة ، وهي قيامها به على نحو القيام الصدوري .
ألا ترى أنّ تخصيص كلام بزيد مثلا الموجب لصحة إضافته إليه ، والتعبير بأنّه كلامه إنما هو بلحاظ قيامه به ، وصدوره عنه ، وبدون هذه الملاحظة لا وجه لانتسابه إلى شخص دون شخص ، فالقرآن ليس عبارة عن نفس الألفاظ المخصوصة ، بل هي مع ملاحظة كونها صادرة عن الله تعالى ، وحينئذ فما ذكر من أنّ الحكاية إنما تتعلّق بما صدر مع قطع النظر عن حيثية صدوره ، ممّا لا يتمّ أصلا .
قلت : لا منافاة بين اعتبار حيثية الصدور في صحة انتساب الكلام إلى المتكلّم ، وبين كون المحكيّ هو نفس الكلام الصادر مع قطع النظر عن حيثية الصدور ،
(الصفحة 132)
ضرورة أنّ ما يصلح أن يكون هنا محكيّاً للّفظ ومرئيّاً بسببه إنما هو نفس الألفاظ الصادرة ، وأمّا حيثية الصدور فلا يمكن أن تقع محكيّة للّفظ ، وبعبارة اُخرى المقروء هو نفس الألفاظ ، بلا ملاحظة جهة الصدور ، كما أنّه تكون حيثية الصدور عن القارئ ملغاة بنظره ، وإلاّ لا تصدق الحكاية أصلا كما عرفت .
هذا كلّه فيما لو لم يقصد التعيين ، وأما لو قصده فتارة يجعل ألفاظه الحاكية بحذاء الجامع ، ولكنّه قاصد حين قراءة البسملة أن يعقّبها بباقي أجزاء سورة خاصّة ، واُخرى يجعل ألفاظه بحذاء ألفاظ بسملة خاصّة ، أمّا الصورة الأولى فالظاهر أنّها مثل ما لو لم يقصد التعيين أصلا . وأمّا الصورة الثانية ففيها إشكال ينشأ من أنّ قصد التعيين يؤثر في تعيينها لسورة معيّنة ، ويخرجها عن قابليّة لحوق إجزاء سورة اُخرى بها ، وممّا عرفت من أنّ المحكيّ إنما هو الكلام الصادر مع قطع النظر عن حيثية صدوره ، ولكن الظاهر هو الوجه الأول .
ثم إنّه ممّا ذكرنا ظهر أنّه لا وجه للتمسّك بأصالة الاشتغال ، نظراً إلى أنّ الشكّ في المقام إنما هو في المحصّل ، لأنّ الشكّ إنما هو في تحقق قراءة السورة المأمور بها في الصلاة ، بدون قصد التعيين حين قراءة البسملة ، ولا إشكال بل ولا خلاف في وجوب الاحتياط فيه ، لعدم اليقين بحصول البراءة بدونه ، والعقل يحكم باستدعاء الاشتغال اليقيني للبراءة اليقينية .
وجه الفساد أنّ الرجوع إلى الأصل إنما هو بعد ثبوت التحيّر واليأس عن الدليل ، وقد عرفت أنّه لا يلزم في صدق الحكاية بنظر العقل أزيد من القراءة بقصد القرانية ، كما أنّ ممّا ذكرنا ظهر فساد ما يمكن أن يتوهّم ، من أنّ البسملات الواقعة في أوائل السور لها حقائق متبائنة وماهيّات مختلفة ، ولا ينصرف اللفظ المشترك إلى بعضها إلاّ بقصد ذلك البعض ، نظير صلاتي الظهر والعصر ، وجه الفساد أنّه بعد عدم قيام دليل على تعدد حقائقها لا مجال لادعائه أصلا ، بعد كون الظاهر بنظر
(الصفحة 133)
العرف أنّ لها حقيقة واحدة ، وبها جعلت جزءً لجميع السور .
والتزامنا بذلك في مثل صلاتي الظهر والعصر إنما هو لقيام الدليل على ذلك فيهما ، مثل ما ورد فيمن دخل في الصلاة بنية العصر ، ثم ظهر له في الأثناء أنّ عليه صلاة الظهر ، وأنّه لم يأت بها بعد ، من أنّه يجب عليه العدول من العصر إلى الظهر(1) ، فإنّه لو لم يكن عنوان الظهرية والعصرية متبائنين ، وكان ما وقع أولاً متّصفاً بعنوان الظهرية قهراً ، ولم يكن تحقّقه موقوفاً على قصده ، لم يكن معنى لفرض هذه المسألة ، ولا الحكم بالعدول أصلا ، كما هو أوضح من أن يخفى .
هذا ، والعمدة في أصل المسألة ما عرفت من أنّ خلوّ النصوص وكذا الفتاوى من التعرّض لها ، دليل قطعيّ على عدم وجوب قصد التعيين ، بعد كون المسألة ممّا يعمّ به البلوى ، وعدم اطّلاع أهل العرف عليه مع قطع النظر عن التنبيه ، إذ لا يخطر هذا المعنى ببالهم ، ولا يتوجّه إليه أذهانهم أصلا ، فالأقوى هو القول بعدم الوجوب .
* * *
المسألة الثانية : هل يجوز قصد معاني الألفاظ في القراءة؟
قد عرفت أنّ معنى قراءة كلام الغير وحكايته عبارة عن إيجاد مماثل ألفاظه ، قاصداً به حكاية ذلك الكلام ، بأن يجعل ألفاظه المقروءة بحذاء الألفاظ المحكية ، كما يجعل اللفظ حاكياً عن معناه الموضوع له ومرآة له ، وإن كان بينهما فرق ، من حيث أنّ إصدار اللفظ وإرادة لفظ آخر ليس من باب استعمال اللفظ في شيء آخر ، بل من باب إيجاده ليتصوّر لفظ آخر ، وينتقل ذهن المخاطب إليه ، وقد مرّت الإشارة
- (1) الكافي 3: 291 ح1; التهذيب 3: 158 ح340; الوسائل 4: 290. أبواب المواقيت ب63 ح1.
(الصفحة 134)
إلى ذلك وتحقيقه في محلّه .
وكيف كان ، فيقع الكلام هنا في أنّه هل يجوز عند قراءة فاتحة الكتاب أن يقصد معاني ألفاظها أيضاً ، بأن يقصد من قوله تعالى :
{الحمد لله ربّ العالمين}معناه أيضاً ، وهو اختصاص الحمد والثناء بذاته المقدّسة ، ومن قوله تعالى :
{إيّاك نعبد وإيّاك نستعين} ، توجيه الخطاب إلى الله وتخصيصه بالعبادة ، والاستعانة أو لا؟ وجهان .
الظاهر هو الوجه الثاني ، لأنّ الظاهر أنّ وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة إنما هو من باب وجوب قراءة القرآن فيها ، وكون الفاتحة هو القدر المتيقّن ، ولذا تراهم يعبّرون في مقام بيان أفعال الصلاة وكيفيتها ، بأنّه هل تجب قراءة القرآن فيها أم لا؟ واختار الوجوب كافّة المسلمين(1) إلاّ شاذاً منهم(2) .
ثم ذهب القائلون بالوجوب إلى أنّ الواجب قراءة الفاتحة ، لكونها المتيقنة من القرآن المأمور بقراءته في الصلاة .
وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في أنّ وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة إنما هو لوجوب قراءة القرآن فيها ، وحينئذ فلا ينبغي مجال للقول بجواز إرادة معاني جملاتها أيضاً ، لأنّه بعدما كان معنى القراءة راجعاً إلى جعل الألفاظ المقروءة بحذاء الألفاظ المحكية ، وحاكية لها ومندكّة فيها ، لا يعقل أن تجعل تلك الألفاظ بحذاء معانيها أيضاً ، وليس ذلك إلاّ استعمال اللفظ في معنيين ، وقد بيّن في الأصول عدم
- (1) الخلاف 1: 327 مسألة 81 ; المعتبر 2: 164; تذكرة الفقهاء 3: 128 مسألة 218; جواهر الكلام 9: 285; مفتاح الكرامة 2 : 350; مستند الشيعة 5 : 68; بداية المجتهد 1: 181 ـ 182; المجموع 3: 327 و330; المغني لابن قدامة 1: 485; الجامع لأحكام القرآن 1: 117 و 124 .
- (2) مثل الحسن بن صالح بن حيّ والأصمّ وابن علية; راجع التفسير الكبير 1: 188; والمجموع 3: 330; والخلاف 1: 328 مسألة 81 .