(الصفحة 136)
تلك المعاني ، وحاكية لها ومندكّة فيها ، نظير استعمال اللفظ في معناه الموضوع له ، بل هو عينه .
ولعلّ ذلك هو السرّ في حذف كلمة «قل» أو «قولوا» ، فإنّه لو كانت هذه اللفظة مذكورة في الجملة لكان من الممكن أن نوجد مماثل هذه الكلمات ، ونجعل كلّ واحدة منها بحذاء مماثلها من الألفاظ المحكيّة ، من دون نظر إلى المعنى أصلا ، وأمّا مع حذفها ، فبما أنّها لا يمكن أن تكون كلامه تعالى ، فلا يجوز أن يقصد نفس تلك الألفاظ ، لكونها منزلة من الله تعالى ، بل لابدّ أن يتعلّق القصد بنفس معانيها ولو إجمالا .
وبالجملة: فالظاهر جواز قصد المعنى في أمثال هذه الجملات .
ثم إنّ بعض المحقّقين من المعاصرين تعرّض في كتاب صلاته لنظير المسألة ، وهي مسألة جواز ردّ السلام في الصلاة بقوله سلام عليكم بقصد القرآنية قاصداً به رد تحية المسلم تبعاً فقال ما ملخّصه :
إنّه قد يتخيّل هنا إشكال على القائلين بجواز ردّ السلام كذلك ، وبيان الاشكال أنّ قراءة القرآن لا تصدق إلاّ إذا صدر الألفاظ من القارئ بعنوان الحكاية عن الألفاظ المنزلة ، ورد التحية يتوقّف على أن يوجه سلامه إلى المسلم مخاطباً إياه ، والمفروض أنّ قوله سلام عليكم بقصد القرآنية لم يكن خطاباً للشخص المسلم ، حتى يكون ردّاً لتحيته ، وليس هذا من جهة الاشكال في امتناع الجمع بين قصد اللفظ وقصد المعنى في استعمال واحد ، فإنّ هذا الإشكال مندفع بإمكان ذلك طولا ، بأن يقصد اللفظ ويقصد من اللفظ المقصود ، أي المستعمل فيه معناه ، بل الإشكال في المقام إنما هو من جهة أنّ اللفظ المقصود ليس معناه السلام على هذا الشخص المسلم حتّى يقصد تبعاً ، ويصير ردّاً لتحيته ، ودفع الاشكال بأنّ المتكلّم بسلام عليكم إنما يقصد بلفظه حكاية الكلام المنزل مع قصده من الكلام
(الصفحة 137)
المحكيّ الخطاب إلى المسلم ، لا أنّه يسلّم على المخاطب باللفظ الصادر منه ، ونظير ذلك كتابة السلام عليكم لشخص تريد أن ترسل المكتوب إليه ، فإنّ المكتوب إنما قصد به الحكاية عن السلام الملفوظ ، وقصد من السلام الملفوظ الخطاب إلى المخاطب المقصود(1) . انتهى ملخّصاً .
وأنت خبير بأنّ ما دفع به الإشكال هو بعينه نفس الإشكال ، لأنّ صريح كلامه أنّ الإشكال ليس من جهة امتناع اجتماع قصد اللفظ والمعنى ، بل من جهة أنّ اللفظ المقصود ليس معناه السلام على هذا المخاطب المسلم ، حتى يقصد تبعاً ، وما دفع به الإشكال إنما يدلّ على كون قصد المعنى في طول قصد اللفظ وتبعاً له ، فهو إنما يصلح للجواب عن إشكال امتناع اجتماع القصدين لا عن الإشكال الذي هو المهم في المقام .
ثم إنّ تنظيره بمسألة الكتابة لا يخلو عن تأمّل ونظر ، لأنّ النقوش الكتابية وإن كانت بحذاء الألفاظ ، والألفاظ موضوعة للمعاني بحيث لو أراد الإنسان أن يعرف معنى كلمة منقوشة ، يكون ذلك متوقفاً أولاً على تطبيق تلك الكلمة المنقوشة على ملفوظها ، وثانياً على العلم بمعنى ذلك الملفوظ ، فإذا أراد أن يعرف معنى كلمة الصعيد المنقوشة في القرآن ، يتوقّف ذلك على العلم بكون هذا النقش مطابقاً للفظ الصعيد ، وعلى العلم بمعنى الصعيد الملفوظ .
ولكن تلك النقوش إنما تجعل بدلا عن الألفاظ في الدلالة على معانيها ، لا أنّها تقصد بها الألفاظ وتقصد من الألفاظ معانيها . فالشخص الذي يكتب إلى صديقه : السلام عليكم ، إنما يقصد السلام عليه بهذه الجملة المكتوبة ، لأجل بعد مكانهما وعدم امكان المخاطبة بالألفاظ ، لا أنّه يجعل الجملة المكتوبة بحذاء ملفوظها ، ويقصد من الملفوظ السلام عليه ، لأنّه لا يكون هنا ملفوظ نوعاً حتّى يجعلها
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 299 .
(الصفحة 138)
بحذائه ، فقياس المقام على مسألة الكتابة قياس مع الفارق ، وحينئذ لا دليل على جواز ردّ التحية بقراءة آية من القرآن .
نعم ، قد يقال بأنّ قراءة آية مناسبة لردّ التحية بمجرّد صدور السلام من المخاطب ، ينتزع منها عنوان رد التحية ، وإن لم يكن قاصداً له ، نظراً إلى أنّ ذلك مشعر بكون المصلّي قاصداً لردّها ، لو لم يكن مانع في البين ، وهو الاشتغال بالصلاة .
هذا ، ولكنّ الظاهر أنّ مجرّد هذا المعنى لا يصحّح انتزاع عنوان الردّ ، ما لم يكن من قصده فعلا تحقق ذلك العنوان باللفظ الصادر منه ، والمفروض أنّ قراءة القرآن لا تجتمع مع تعلّق القصد بذلك العنوان .
نعم يمكن أن يتحقّق ذلك بحيث لا ينافي الصلاة ، بأن قصد بقوله : سلام عليكم الدعاء ، وسأل من الله تعالى أن يسلّمه ، وأمّا لو لم يكن المقصود منه الدعاء ، سواء أراد بقوله : سلام عليكم ، مجرّد سلامة المخاطب ، أو أراد به أن يسلّمه الله ، ولكن لا على سبيل الدعاء والسؤال منه تعالى حتّى يصدق عنوان الدعاء ، فالمسألة محلّ إشكال ، وسيأتي تفصيلها في محلّها إن شاء الله تعالى .
ولنرجع إلى ما كنّا فيه ونقول : إنّه لا منافاة بين قصد المعنى في مثل قوله : «إيّاك نعبد وإيّاك نستعين» وبين قراءة القرآن ، لما عرفت من أنّ هذه الآية والجمل التي بعدها وكذا نظائرها ، إنما كان الغرض من إنزالها أن يقصد العباد معانيها المشتملة عليها في مقام تحميد الله ، وتسبيحه ، وطلب الحاجة منه ، لقصور عقولهم عن أنّه يحمد الله تعالى بماذا ، وبأية كيفية ، وأنّه أيّ شيء ينبغي أن يسأل منه ، فأمره تعالى بقول تلك الجمل إنما هو لأجل إفادة أنّه ينبغي أن يحمد بمثل الحمد لله ربّ العالمين ، ويسأل عنه بما يتضمّنه قول : إهدنا الصراط المستقيم ، فلا منافاة بين قصد المعنى ، وبين قراءة مثل هذه الألفاظ الصادرة من الله تعالى أصلا .
(الصفحة 139)
ويؤيد ذلك ـ أي جواز إرادة المعنى ـ ما ورد في بعض الأخبار مما مضمونه ، أنّه قال الله تبارك وتعالى : «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، فمن أوّل السورة إلى جملة إيّاك نعبد إنما هو لي، وجملة إيّاك نعبد وإيّاك نستعين إنما هو بيني وبين عبدي، والباقي إنما هو لعبدي»(1) ودلالته على جواز قصد المعنى في الصلاة أوضح من أن يخفى .
ولبعض الأعلام هنا كلام في بيان عدم التنافي بين قصد المفاهيم التي تضمنها القرآن ، وبين قصد الحكاية ونقل كلام الله تعالى ، لا بأس بنقله فنقول ما ملخّصه :
إنّ تحقق مفهوم الحكاية والنقل لا يتوقّف على تعلّق القصد بنفس هذا العنوان ، من حيث هو على سبيل الاستقلال ، كي ينافي ذلك تعلّق قصد استقلالي بالنسب الحكمية الواقعة بين أبعاض المقروءة ، إذ القارئ قد لا يرى في قراءته إلاّ كون صدور المقروء من قائله طريقاً لإثبات تلك النسب ، فيقصد بقراءته ايقاع تلك النسب بهذا الطريق ، فمن يقرأ عبارة الكتاب قد يقصد بقراءته نسبة لفظه إلى مصنّفه ، وقد يقصد بذلك تفهيم المطالب المدونة فيه ، كما هو الغالب في تلاوة كتاب الأخلاق والرسائل العمليّة للعوام ، وقراءة الإنسان مصنّفاته في مقام الإفادة ، ففي هذه الصورة أيضاً يصدق عليه اسم قراءة ذلك الكتاب ، إذ لامعنى لقراءته إلاّ حكاية النقوش المدوّنة فيه باللفظ ، وهي حاصلة في الفرض ، غاية الأمر أنّ عنوان الحكاية غير ملحوظ من حيث هو على سبيل الاستقلال(2) . انتهى.
ولا يخفى أنّ معنى الحكاية في المقام إنما هو مجرّد التلفّظ بكلام الغير قاصداً به ذلك ، وبعبارة اُخرى ، جعل القارئ لفظه بحذاء لفظ آخر وفانياً فيه ، لإلغاء خصوصية صدوره منه ، وصدور المحكيّ من قائله ، وهذا بخلاف الحكاية للغير ،
- (1) سنن ابن ماجة 2 : 1243 ح3784 .
- (2) مصباح الفقيه، كتاب الصلاة: 408 .
(الصفحة 140)
مضافاً إلى أنّ فيها أيضاً لا يكون اللفظ مستعملا في المعاني في قبال الألفاظ المحكية ، بل يجعل ألفاظه بحذاء نفس الألفاظ المحكيّة فقط ، ولكن يكون غرضه من ايقاعها في سمع المخاطب وذهنه ، وقوع معانيها فيه لأنفسها مستقلاً ، بل طريقاً إليها كما لا يخفى .
المسألة الثالثة : القِران بين السورتين
المعروف بين قدماء أصحاب الإمامية رضوان الله عليهم حرمة القِران بين السورتين ، وكون ذلك مفسداً للصلاة(1) ، والمشهور بين المتأخّرين هي الكراهة(2) ، وهي التي يقتضيها الجمع بين الأخبار الكثيرة الواردة في هذا الباب ، لأنّ بعضها ظاهر في التحريم ، كصحيحة منصور بن حازم عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «لا تقرأ في المكتوبة بأقلّ من سورة ولا بأكثر»(3) وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام)قال : سألته عن الرجل يقرأ السورتين في الركعة؟ قال : «لا لكلّ ركعة سورة»(4) وموثقة زرارة قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يقرن بين السورتين في الركعة؟ فقال : «إنّ لكلّ سورة حقّاً فأعطها حقّها من الركوع والسجود»، قلت :
- (1) الفقيه 1: 200; الهداية: 134; النهاية: 75 ـ 76; الإنتصار: 146; المسائل المصريّة (رسائل المرتضى) 1: 220; الكافي في الفقه : 118; المبسوط 1: 107; الخلاف 1: 336; التحرير 1: 39; القواعد 1: 273; مختلف الشيعة 2: 151 .
- (2) شرائع الإسلام 1: 72; جامع المقاصد 2: 248; الذكرى 3: 312; الدروس 1: 173; جواهر الكلام 9: 354; كشف اللثام 4: 13.
- (3) الكافي 3 : 314 ح12; التهذيب 2 : 69 ح253; الإستبصار 1 : 314 ح1167; الوسائل 6 : 43. أبواب القراءة في الصلاة ب4 ح2.
- (4) التهذيب 2: 70 ح254; الإستبصار 1: 314 ح1168; الوسائل 6: 44. أبواب القراءة في الصلاة ب4 ح3.