(الصفحة 15)
مختاره في الأوّل التفصيل بين صورة العذر فيجوز ، وغيرها فلا يجوز .
ثمّ لم يتعرّض لها أحد من الفقهاء المتأخرين عن الشيخ إلى زمان صاحب الوسيلة(1) ، فإنّه تعرّض لها فيها تبعاً له ، حيث عدّ في جملة محظورات الجماعة مفارقة الإمام لغير عذر . هذا ، وظاهر جماعة من المحققين كالمحقّق(2) ، والعلاّمة(3) ، والشهيد الثاني القول بالجواز مطلقاً . واختار أكثر المتأخرين كصاحبي الحدائق ، والمدارك ، والنراقي في المستند(4) ، وصاحب المفاتيح(5) ، وشارحه المحقّق البهبهاني(قدس سرهم)المنع مطلقاً(6) .
ثمّ إنّ القائل بالمنع يمكنه تقرير مختاره بوجوه :
الأوّل : إنّ قصد الانفراد لا يؤثّر في صيرورة الصلاة فرادى ، بل الصلاة المنعقدة جماعة تبقى على حالها إلى آخر الصلاة ، سواء عدل عنها بالنية إلى الانفراد ، أم لم يعدل ، ومقتضى هذا الوجه أنّه لو عدل عنها بعد الركعة الاُولى تسقط القراءة عنه بالنسبة إلى الركعة الثانية ، وكذا يكون شكّه بلا حكم مع حفظ الإمام .
وبالجملة: يترتّب على صلاته جميع أحكام صلاة المأموم ، لأنّ المفروض عدم تأثير قصد الانفراد أصلا .
الثاني : إنّ قصد الانفراد وإن كان موجباً لصيرورة الصلاة فرادى ، إلاّ أنّ العدول عن الائتمام إلى الانفراد ، وجعل الصلاة المنعقدة جماعة على غير ما انعقدت عليه منهيّ عنه في الشريعة، أو يقال: إنّ الواجب إدامة الصلاة جماعة وإبقائها على
- (1) الوسيلة: 106 .
- (2) المعتبر : 2 / 448 ; شرائع الاسلام: 1 / 116 .
- (3) تذكرة الفقهاء : 4 / 269 مسألة 557; مختلف الشيعة : 3 / 74; مسالك الأفهام 1: 320 .
- (4) الحدائق: 11 / 240; مدارك الأحكام 4: 379، مستند الشيعة 8 : 163 .
- (5) بل هو (رحمه الله) جوّزها بشرط العذر، مفاتيح الشرائع 1: 124 .
- (6) نقله عنه في جواهر الكلام 14: 21.
(الصفحة 16)
حالها الأوّل، وعدم العدول عمّا انعقدت عليه من الجماعة إلى الانفراد .
ومرجع هذا الوجه إلى أنّ العدول لا يوجب إلاّ مخالفة تكليف تحريمي أو وجوبي ، من غير أن تصير الصلاة فاسدة ، وإلى هذا الوجه ينظر ما استدلّ به الشيخ في الخلاف في عبارته المتقدمة ، من عدم الدليل على كون العدول منهياً عنه وأنّ الأصل الإباحة ، وما ذكره العلاّمة في بعض كتبه(1) : من أنّ الجماعة فضيلة للصلاة ، فبالعدول عنها لا يحصل إلاّ ترك الفضيلة في بعض أجزاء الصلاة ، ومراده إنّه كما أنّ الجماعة لا تكون واجبة عند الشروع في الصلاة ، كذلك لا يجب إبقائها وإدامتها إلى آخر الصلاة .
الثالث : إنّ قصد الانفراد يوجب صيرورة الصلاة فاسدة ، فالعدول عن الائتمام إلى الانفراد لا يؤثر في مجرّد مخالفة حكم تكليفي ، من الحرمة ، أو الوجوب ، بل يؤثر في فساد الصلاة وبطلانها ، وإلى هذا يرجع ما استدل به بعض القائلين بالمنع(2) ، من أنّه ليس في الشريعة صلاة مركّبة من الجماعة والفرادى ، فالعدول منها إلى الانفراد تشريع محض، فلا تقع صحيحة .
الرابع : إنّ سقوط القراءة بالنسبة إلى المأموم ، وكذا سائر ما يسقط عنه ، إنّما هو فيما إذا وقعت الصلاة بتمامها جماعة ، وأمّا لو وقع بعض أجزائها جماعة وبعضها فرادى ، فلا دليل على سقوط القراءة ، ولا سقوط غيرها .
ومرجع هذا الوجه إلى أنّ قصد الانفراد وإن كان موجباً لصيرورة الصلاة فرادى ، وأنّ الصلاة لا تبطل من هذه الجهة ، إلاّ أنّ وجه بطلانها هو كونها بدون القراءة مثلا ، وهذا الوجه يختصّ بما إذا أخلّ المأموم بشيء من وظائف المنفرد ،
- (1) تذكرة الفقهاء 4 : 271 .
- (2) مدارك الاحكام : 4 / 379 .
(الصفحة 17)
وأمّا في غير هذه الصورة فلا يجري ، بل مقتضاه صحة الصلاة ، لأنّ المفروض أنّ بطلانها ليس لمجرّد العدول من الجماعة إلى الانفراد ، بل لإخلاله بوظيفة المنفرد ، والمفروض عدمه في غير تلك الصورة .
هذا ، ويرد على الوجه الأوّل ـ وإن كان هذا الوجه لا يستفاد من كلام المانعين ـ إنّه لا معنى لكون قصد الانفراد مؤثّراً في صيرورة الصلاة فرادى ، ولا يقول به القائل بالجواز أيضاً ، حتى يورد عليه بأنّ الاستصحاب يقتضي عدم التأثير ، بل لأنّه لمّا كانت صيرورة الصلاة جماعة تحتاج إلى قصد الاقتداء ، وجعل الصلاة تبعاً لصلاة الإمام كما عرفت .
وهذا المعنى كما أنّه يتوقف على قصد الاقتداء في أوّل الشروع في الصلاة ، كذلك إبقائه وإدامته متوقف على استدامة القصد ، فبمجرّد رفع اليد عن قصد الاقتداء الراجع إلى قصد التبعية في مقام العبادة تبطل الجماعة ، وتصير الصلاة فرادى ، لا أنّ صيرورتها كذلك تحتاج إلى قصد الانفراد وتأثير من ناحيته ، ولذا ذكرنا أنّ المنفرد لا يحتاج إلى قصد الانفراد ، بل يكفي مجرّد عدم قصد الاقتداء وعدم جعل صلاته تبعاً لصلاة غيره .
هذا ، لو اُريد عدم التأثير ، وبقاء الصلاة جماعة ، كما هو الظاهر منه بل صريحه ، وأمّا لو أريد بأنّ قصد الانفراد لا يؤثر في صيرورة الصلاة فرادى ، كما أنّه لا يوجب بقاء الجماعه ، فهذا يرجع إلى أنّ قصد الانفراد يوجب بطلان الصلاة ، كما هو مقتضى الوجه الثالث والرابع .
ويرد على الوجه الثاني أنّ كون العدول عن الائتمام إلى الانفراد منهياً عنه ، أو الإبقاء والإدامة مأموراً به ، مبنيّ على أن لا تكون الصلاة التي وقع بعض أجزاؤها جماعة ، وبعضها فرادى مشروعة ، وإلاّ فلو فرض ثبوت مشروعيتها ، فلا مجال للنهي عن العدول أو الأمر بالإبقاء كما هو واضح .
(الصفحة 18)
وبالجملة : فهذا الوجه يرجع إلى الوجه الثالث ، كما أنّ الوجه الرابع يرجع إلى ذلك الوجه أيضاً ، لأنّ القول بكون سقوط القراءة عن المأموم وغيره ـ ممّا يتعلّق به من حيث كونه مأموماً مبنياً على بقاء الائتمام إلى آخر الصلاة ـ متوقف على عدم مشروعية العدول في الأثناء ، وإلاّ فلو فرض ثبوت مشروعيته فلا يبقى مجال لهذا الوجه أصلا .
فالعمدة في المقام هو الوجه الثالث الراجع إلى عدم مشروعية الصلاة المركّبة من الجماعة والفرادى ، ولا يخفى إنّه إن كان المراد عدم وجود صلاة وقع بعض أجزاؤها جماعة وبعضها فرادى في الشرع أصلا ، فيرده وقوع ذلك في موارد كثيرة ، كاقتداء المتمّ بالمقصّر ، والصلاة الرباعية بالثلاثية ، والثلاثية بالثنائية ، وصلاة المأموم المسبوق بركعة أو أزيد .
وقد ورد النصّ في بعض موارده ، كالتسليم قبل الإمام ، فيما لو أطال التشهد ، وعرض للمأموم حاجة . وقد روي أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) صلّى بطائفة يوم ذات الرقاع ركعة ، ثمّ خرجت من صلاته وأتمت منفردة(1) .
وعن جابر قال : كان معاذ يصلّي مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) العشاء ثمّ يرجع إلى قومه فيؤمّهم، فأخّر النبي(صلى الله عليه وآله) صلاة العشاء فصلّى معه ثمّ رجع إلى قومه فقرأ سورة البقرة فتأخر رجل فصلّى معه وحده، فقيل له : نافقت يا فلان فقال : ما نافقت ولكن لآتين رسول الله(صلى الله عليه وآله) فأخبره فأتى النبي(صلى الله عليه وآله) فذكر ذلك له فقال له : أفتّان أنت يا معاذ؟ مرّتين ولم ينكره النبي(صلى الله عليه وآله) »(2) .
وبالجملة: فلا إشكال في وقوع نظيره في الشريعة ، وإن كان المراد به إنّه إذا اقتدى بالإمام وجعل صلاته تابعة لصلاته ، فاللازم عدم رفع اليد عن الاقتداء ما
- (1) صحيح البخاري 5: 63 ح4129 ; سنن النسائي 3: 168 ح1533; سنن أبي داود 2: 13 ح1238.
- (2) صحيح مسلم 4: 152 ح178; سنن أبي داود 1: 210 ح790; سنن البيهقي 2: 392 ـ 393.
(الصفحة 19)
دام يمكن بقاؤه ، لعدم فراغ الإمام عن صلاته ، وحينئذ فلا ينافي تلك الموارد التي وقع بعض أجزاء الصلاة جماعة ، وبعضها فرادى ، فيرجع النزاع إلى هذا المعنى .
والبطلان حينئذ يبتني على أن تكون الجماعة وصفاً لمجموع الصلاة دون الاجزاء ، كما أنّ القول بالجواز مبني على أن تكون الجماعة وصفاً لكلّ جزء من أجزاء الصلاة مستقلاً ، فاللازم في هذا المقام النظر في هذا المعنى ، وأنّ الجماعة التي توجب الفضيلة للصلاة ، هل هي وصف لمجموع الصلاة ـ بمعنى أنّ الصلاة التي وقعت بتمامها جماعة يزيد ثوابها على الصلاة منفرداً بخمس وعشرين درجة، كما ورد في النبوي الشريف(1)ـ أو أنّها وصف لكلّ جزء من أجزاء الصلاة؟ ، بمعنى أنّ وقوع القراءة مثلا جماعة لا يتوقف على وقوع غيرها كذلك ، فكلّ جزء وقع جماعة فهو يزيد على هذا الجزء ، لو وقع فرادى ، بخمس وعشرين درجة .
ولا يخفى أنّ النزاع في هذه المسألة ليس مبنياً على أنّ وصف الجماعة هل له مدخلية في حقيقة الصلاة؟ بمعنى أنّ صلاة الجماعة والفرادى نوعان من طبيعة الصلاة ـ كصلاة الظهر والعصر ـ أو أنّها وصف عارض لبعض الأفراد التي توجب أفضليّته ، كوقوعها في المسجد مثلا؟
وذلك لأنّ النزاع جار ولو بناءً على الوجه الثاني ، لما عرفت من أنّ مرجع البحث إلى أنّ الجماعة وصف لمجموع الصلاة أو لكلّ جزء منها ، وهذا لا يتوقف على الوجه الأوّل أصلا ، بل نقول: إنّه لا وجه للالتزام بأنّ صلاة الجماعة والفرادى نوعان من طبيعة الصلاة ، ولم يظهر من أحد الالتزام به ، بل الظاهر هو الوجه الثاني ، والنزاع إنّما وقع بناءً عليه .
وحينئذ فنقول : لو قلنا بأنّ المعروف لوصف الجماعة هو كل جزء من الأجزاء
- (1) سنن ابن ماجه 1 : 258 ـ 259 ب16; سنن الترمذي 1: 255 ب47; صحيح البخاري 1: 179 ب30 ، ح645 ، و 646 و 647.