(الصفحة 160)
والذي يوجب الترديد في أصل المسألة أنّ المحقّق(قدس سره) مع تبحره في الفقه ، لم يتعرّض لها أصلا ، نعم ذكر في الشرائع في مبحث صلاة الجمعة : إنّه إذا سبق الإمام إلى قراءة سورة فليعدل إلى الجمعة، وكذا في الثانية يعدل إلى سورة المنافقين ، ما لم يتجاوز نصف السورة إلاّ في سورة الجحد والتوحيد(1) .
وقال في المعتبر : ويجوز العدول من سورة إلى غيرها ما لم يتجاوز النصف ، ويكره في قل هو الله أحد ، وسورة الجحد ، وقال علم الهدى : يحرم(2) ، وقد روى عمرو بن أبي نصر عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «يرجع من كلّ سورة إلاّ من
{قل هو الله أحد} و
{قل يا أيّها الكافرون}»(3) . والوجه الكراهيّة ، لقوله :
{فاقرؤا ما تيسّر من القرآن}(4) ولا تبلغ الرواية المذكورة قوّة في تخصيص الآية(5) . انتهى .
وكيف كان فالظاهر أنّ المسألة عنده لم تكن خالية عن الإشكال ، ولذا أفتى بخلاف ما عليه القدماء ، فالواجب ملاحظة الأخبار الواردة في الباب فنقول :
يدلّ على الحكم الأخير روايات :
منها : ما رواه محمّد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام) في الرجل يريد أن يقرأ سورة الجمعة في الجمعة فيقرأ
{قل هو الله أحد} قال : «يرجع الى سورة الجمعة»(6) والمراد بقوله : «في الجمعة» يحتمل أن يكون في يوم الجمعة ، ويحتمل أن يكون في
- (1) شرائع الاسلام 1 : 89 .
- (2) الانتصار: 147.
- (3) الكافي 3: 317 ذ ح25; التهذيب 2: 290 ح1166 و: 190 ح752; الوسائل 6: 99. أبواب القراءة في الصلاة ب35 ح1.
- (4) المزّمل : 20 .
- (5) المعتبر 2: 191 .
- (6) الكافي : 3 / 426 ح6; التهذيب 3 : 241 و242 ح649 و652; الوسائل 6 : 152. أبواب القراءة في الصلاة ب69 ح1.
(الصفحة 161)
صلاة الجمعة .
ولكن لابدّ على الثاني من أن يكون المراد بالرجل هو الإمام إذ الجمعة لاتنعقد إلاّ جماعة ، والمأموم لا يقرأ فحمله عليها بعيد ، وعلى الأول لا تدلّ على الاختصاص بصلاة الظهر ، إلاّ أن يقال : إنّ المراد به صلاة الجمعة ، ولكن المقصود منها هي صلاة الظهر ، لقيامها مقامها كما لا يخفى .
ومنها : ما رواه الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إذا افتتحت صلاتك بـ
{قل هو الله أحد} وأنت تريد أن تقرأ بغيرها فامض فيها، ولا ترجع إلاّ أن تكون في يوم الجمعة، فإنّك ترجع إلى الجمعة والمنافقين منها»(1) .
ومنها : رواية عبيد بن زرارة قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل أراد أن يقرأ في سورة فأخذ في اُخرى؟ قال : «فليرجع إلى السورة الأولى إلاّ أن يقرأ بـ
{قل هو الله أحد}، قلت: رجل صلّى الجمعة فأراد أن يقرأ سورة الجمعة فقرأ
{قل هو الله أحد}قال : «يعود إلى سورة الجمعة»(2) .
ومنها : ما رواه في قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال : سألته عن القراءة في الجمعة بما يقرأ؟ قال : «سورة الجمعة، وإذا جاءَك المنافقون، وإن أخذت في غيرها، وإن كان
{قل هو الله أحد} فاقطعها من أوّلها وارجع إليها»(3) .
ويدلّ على الحكم الثاني أيضاً روايات :
منها : رواية الحلبي المتقدمة .
ومنها : رواية عبيد بن زرارة المتقدمة أيضاً .
- (1) التهذيب 3: 242 ح650، الوسائل 6: 153. أبواب القراءة في الصلاة ب69 ح2.
- (2) التهذيب 3: 242 ح651، الوسائل 6: 153. أبواب القراءة في الصلاة ب69 ح3.
- (3) قرب الإسناد: 181 ح825; الوسائل 6: 153. أبواب القراءة في الصلاة ب69 ح4.
(الصفحة 162)
ومنها : رواية عمرو بن أبي نصر قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : الرجل يقوم في الصلاة فيريد أن يقرأ سورة فيقرأ
{قل هو الله أحد} و
{قل ياأيّها الكافرون}، فقال : يرجع من كلّ سورة إلاّ من
{قل هو الله أحد} و
{قل يا أيّها الكافرون}(1) .
ومنها : رواية الحلبي قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : رجل قرأ في الغداة سورة
{قل هو الله أحد} قال : لا بأس، ومن افتتح سورة ثم بدا له أن يرجع في سورة غيرها فلا بأس إلاّ
{قل هو الله أحد}، ولا يرجع منها إلى غيرها، وكذلك
{قل يا أيّها الكافرون}(2) .
ومنها : ما رواه في قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر، عن أخيه(عليه السلام) قال : سألته عن الرجل إذا أراد سورة فقرأ غيرها، هل يصلح له أن يقرأ نصفها ثم يرجع إلى السورة التي أراد؟ قال : «نعم، ما لم تكن
{قل هو الله أحد} و
{قل يا أيّها الكافرون}»(3) . وهذه الرواية صريحة في خلاف ما ذكره الحلّي في السرائر تبعاً لبعض آخر .
ويدلّ على الحكم الأول مضافاً إلى بعض الأخبار المتقدمة ، ما رواه في الذكرى عن كتاب البزنطي، عن أبي العبّاس، في الرجل يريد أن يقرأ السورة فيقرأ في اُخرى، قال : «يرجع إلى التي يريد وإن بلغ النصف»(4) . وبهذه الرواية يقيّد
- (1) الكافي 3 : 317 ح25; التهذيب 2 : 190 ح752 وص290 ح1166; الوسائل 6 : 99. أبواب القراءة في الصلاة ، ب35 ح1.
- (2) التهذيب 2: 190 ح753; الوسائل 6: 99. أبواب القراءة في الصلاة ب35 ح2.
- ولكن هذه الرواية مرسلة ، من جهة أنّ أحمد بن محمد بن عيسى الذي روى في هذا السند عن ابن مسكان لا يمكن له النقل عنه من دون واسطة ، لأنّه من الطبقة السابعة ، من الطبقات التي رتبناها ، وابن مسكان من الطبقة الخامسة، (منه) .
- (3) قرب الإسناد: 176 ح788; مسائل عليّ بن جعفر: 164 ح260; الوسائل 6: 100. أبواب القراءة في الصلاة ب35 ح3.
- (4) الذكرى 3 : 356; الوسائل 6 : 101. أبواب القراءة في الصلاة ب36 ح3.
(الصفحة 163)
اطلاق بعض الأخبار المتقدمة الشامل لما إذا بلغ النصف وتجاوز عنه أيضاً .
وما رواه جماعة من الرواة كالحلبي وأبي الصباح الكناني وأبي بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) : في الرجل يقرأ في المكتوبة بنصف السورة ثم ينسى فيأخذ في اُخرى حتّى يفرغ منها ثم يذكر قبل أن يركع، قال : «يركع ولا يضرّه»(1) . نعم ظاهر رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبدالله(عليه السلام) خلافه ، حيث أنّه قال : «في الرجل يريد أن يقرأ السورة فيقرأ غيرها ، قال: له أن يرجع ما بينه وبين أن يقرأ ثلثيها»(2) فإنّ ظاهرها جواز الرجوع وإن تجاوز عن النصف .
ولكن يحتمل قويّاً أن تكون كلمة «ثلثيها» غلطاً ، وكان الصواب ثلثها ، باعتبار أنّ الكتابة كانت في الأزمنة السابقة خالية عن النقطة ، كما يشهد بذلك بعض الكتب المكتوبة فيها الباقية إلى زماننا ، مضافاً إلى أنّ خطوطهم لم تكن بحيث يمكن أن تقرأ كاملا ، وكيف كان فالرواية باعتبار مخالفتها لفتوى المشهور تسقط عن الحجية ، كما هو الشأن في مثلها من الروايات المخالفة لهم .
ثم إنّ أكثر الروايات المتقدمة إنما وردت فيمن أراد قبل الأخذ في قراءة السورة ، قراءة سورة مخصوصة ، فنسي وشرع في سورة اُخرى ، نعم رواية الحلبي المتقدمة(3) المذكورة في جملة الروايات التي تدلّ على الحكم الثاني تعمّ ما إذا افتتح سورة ، ثم بدا له أن يرجع إلى غيرها ، وإن لم يكن مريداً لقراءته قبل .
ولكن يمكن أن يقال: بأنّها هي روايته الاُخرى(4) الموافقة مع سائر الروايات في المورد ، بمعنى عدم كونهما روايتين ، بل رواية واحدة ، غاية الأمر أنّ الراوي تارة
- (1) التهذيب 2: 190 ح754; الوسائل 6: 101. أبواب القراءة في الصلاة ب36 ح4.
- (2) التهذيب 2: 293 ح1180; الوسائل 6: 101. أبواب القراءة في الصلاة ب36 ح2.
- (3) الوسائل 6: 99. أبواب القراءة في الصلاة ب35 ح2.
- (4) الوسائل 6: 153. أبواب القراءة في الصلاة ب69 ح2.
(الصفحة 164)
نقلها بأجمعها ، واُخرى ببعضها ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى وثوق بأعمّية مورد جواز العدول ، وعدم اختصاصه بمن أراد أن يقرأ سورة فقرأ سورة اُخرى .
وحينئذ فيشكل تعميم الحكم ، ولكنّه مضافاً إلى أنّ مورد الفتاوى عام ، كما عرفت من النهاية(1) ، يمكن أن يقال بأنّ ذكر هذه الصورة فقط في الروايات إنما هو لأنّ الداعي والموجب للعدول إنما يتحقّق غالباً في هذه الصورة التي أراد المصلّي فيها قراءة سورة ، فقرأ غيرها ، إذ مع الالتفات والتوجه يختار أولاً ما يحبّه كما لايخفى .
فالحكم بالجواز في هذا الفرض إنما هو لكونه محلاًّ للعدول غالباً ، فالحقّ أنّ الجواز متحقّق في جميع الصور ، كما هو ظاهر فتاوى الأصحاب . هذا ، ولا يذهب عليك أنّ المراد بمورد الروايات ليس ما إذا شرع في سورة اُخرى غفلة ، بحيث لم يكن متوجّهاً إلى أنّه يقرأ السورة أصلا .
كيف! ولازم ذلك بطلان قراءتها، فلا يبقى وجه لعدم جواز العدول عن «قل هو الله أحد» و«قل يا أيّها الكافرون» كما هو مصرّح به في الروايات الدالة على الحكم الثاني من الأحكام الثلاثة المتقدمة ، بل المراد بذلك ما إذا أراد قراءة سورة ثم لمّا بلغ إلى محلّها قرأ سورة اُخرى بمقتضى ارتكازه ، ثم ظهر له أنّه كان يريد قراءة غيرها .
ثم إنّ القاعدة هل تقتضي جواز العدول حتّى يصار إليها فيما لم يقم الدليل على الخلاف، أو تقتضي عدم الجواز حتى يقتصر على الموارد التي قام الدليل على الخلاف؟
قد يقال بالأول ، نظراً إلى أنّ المصلّي قبل إتمام السورة مخيّر بمقتضى إطلاق