(الصفحة 172)
(الصفحة 173)
الجهر والاخفات
لا إشكال ولا خلاف بين المسلمين ـ العامة والخاصة ـ في أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) كان يجهر بالقراءة في الركعتين الاُوليين من المغرب والعشاء الآخرة ، وفي صلاة الفجر ، ويقرأ اخفاتاً في بقية الركعات والصلوات(1) ، ولذا حكي عن ابن عباس أنّه قال بعدم وجوب القراءة في الصلوات الاخفاتية ، معلّلا بأنّ النبي(صلى الله عليه وآله) سكت فيها ، وحكي عن أبي حنيفة وجماعة القول بعدم وجوب قراءة شيء في الركعتين الأخيرتين من الظهر والعصر والعشاء ، وفي الركعة الأخيرة من المغرب(2) ، وهذا يدلّ على أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) حيث كان يقرأ إخفاتاً لم يفهموا أنّه يقرأ ، بل فهموا مجرّد السكوت ، ولذا حكموا بعدم وجوب شيء في مواضع الاخفات .
- (1) المجموع 3: 389; سنن البيهقي 2: 44; المقنعة : 141; المبسوط 1: 108; الغنية: 78; الكافي في الفقه: 117; المهذّب 1: 92; السرائر 1: 223; شرائع الإسلام 1: 72; تذكرة الفقهاء 3: 151; مفتاح الكرامة 3: 363; كشف اللثام 4: 14; مستند الشيعة 5: 156; جواهر الكلام 9: 364.
- (2) بداية المجتهد 1: 181 ـ 182; التفسير الكبير 1: 188 .
(الصفحة 174)
وبالجملة: فلا ينبغي الإشكال في استمرار عمل النبي(صلى الله عليه وآله) على ذلك ، وإنما الكلام في أنّ ذلك على سبيل الوجوب أو الاستحباب ، فالمحكيّ عن الجمهور القول بالاستحباب(1) ، وذهب ابن أبي ليلى منهم إلى الوجوب(2) ، ومستندهم في ذلك أصالة البراءة عن التكليف الوجوبي مع الشكّ فيه .
ولا يخفى أنّه لا مجال للتمسّك بالأصل ، مع ما عرفت من استمرار عمل النبي(صلى الله عليه وآله) على ذلك ، بحيث لم يقرأ جهراً في مواضع الاخفات ولا إخفاتاً في مواضع الجهر أصلا ولو مرّة ، لوضوح أنّ مدرك أصالة البراءة هو حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان .
ومن المعلوم أنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب مع مداومة النبي(صلى الله عليه وآله) على الجهر والاخفات في مواضعهما ، خصوصاً مع ما حكوه عنه(صلى الله عليه وآله) من أنّه قال بعدما صلّى : «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي»(3) . فالتمسّك بالأصل بعد ثبوت ذلك ـ كما عرفت أنّه لا خلاف فيه ـ ممّا لا سبيل إليه ، ولذا قال العلاّمة في محكيّ التذكرة : إنّه غلط(4) .
والمشهور بين علمائنا الإمامية رضوان الله عليهم هو القول بالوجوب(5) ، والمحكيّ عن المرتضى مجرّد الاستحباب(6)، ومنشأ الاختلاف اختلاف ظاهر الأخبار المرويّة عن الأئمة(عليهم السلام) التي هي حجّة عندنا ، فمستند المشهور صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه، وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، فقال(عليه السلام) : أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة فإن
- (1 و 2) تذكرة الفقهاء 3 : 151; المعتبر 2 : 176; المجموع 3: 389; الشرح الكبير 1: 569 .
- (3) صحيح البخاري7: 102 ح6008وج8،169،ح7246; سنن البيهقي2:345; سنن الدارقطني1: 272 ح1296.
- (4) تذكرة الفقهاء 3 : 152 .
- (5) الخلاف 1: 332 ; الغنية : 78; السرائر 1: 218; جواهر الكلام 9: 364; مستند الشيعة 5: 156; كشف اللثام 4: 14; مفتاح الكرامة 2: 363.
- (6) المنتهى 1: 277 عن المصباح للمرتضى.
(الصفحة 175)
فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه، وقد تمّت صلاته»(1) . وغيرها من الأخبار الظاهرة في الوجوب .
ومستند القول بالاستحباب، رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى(عليه السلام)قال : سألته عن الرجل يصلّي من الفريضة ما يجهر فيه بالقراءة، هل عليه أن لا يجهر؟ قال : «إن شاء جهر وإن شاء لم يفعل»(2) .
وقد يجمع بينها وبين صحيحة زرارة بحمل هذه على التقية ، لأنّها موافقة للعامّة ، ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّه لا معنى للتقيّة في مثل هذا الأمر الذي يكون عملهم مطابقاً لعمل النبي(صلى الله عليه وآله) ، خصوصاً مع ما عرفت من وجود القائل بالوجوب بينهم(3) ، مضافاً إلى أنّ ظاهر الرواية التساوي بين الاجهار وعدمه ، مع أنّ الاستحباب ورجحان الجهر في مواضعه والاخفات كذلك ، ثابت عندهم بلا خلاف .
وقد يقال : بأنّ مقتضى الجمع هو حمل الأولى على الاستحباب ، كما هو الحال في مطلق الدليلين المتعارضين ، اللذين كان أحدهما دالاًّ على الوجوب ، والآخر على الاستحباب ، لما قد حقّق في محلّه ، من أنّ الوجوب يستفاد من ظهور الطلب الذي هو معنى الأمر ، وفعل من الأفعال ، في كونه ناشئاً من الإرادة الحتميّة ، ومع الدليل على خلافه لا يبقى مجال لاستفادته .
ولكن لا يخفى ما في حمل صحيحة زرارة على الاستحباب من الاستبعاد ،
- (1) الفقيه 1 : 227 ح1003; التهذيب 2 : 162 ح635 ; الإستبصار 1: 313 ح1163; الوسائل 6 : 86. أبواب القراءة في الصلاة ب26 ح1.
- (2) التهذيب 2 : 162 ح636; الاستبصار 1 : 313 ح1164; قرب الإسناد: 175 ح782; الوسائل : 6 / 85 . أبواب القراءة في الصلاة ب25 ح6 .
- (3) وهو ابن أبي ليلى كما في المعتبر 2: 176; وتذكرة الفقهاء 3: 151.
(الصفحة 176)
وذلك لأنّ أصل رجحان الجهر والاخفات في مواضعهما كان مفروغاً عنه عند السائل ، ولذا عبّر بكلمة «لا ينبغي» وإنما كان مورد شكّه مدخليتهما في صحة الصلاة ، بحيث يجب عليه إعادتها مع الاخلال بهما ، أو أنهما يوجبان مجرّد الفضيلة والكمال .
ولا ريب أنّ ظاهر الجواب هو الأول ، وحمله على الاستحباب في غاية البعد ، فظاهرهما متعارضان ، والترجيح مع صحيحة زرارة ، الظاهرة في الوجوب ، لخلوّها عن الاضطراب ، دون الرواية الاُخرى ، لأنّ الجمع بين التعبير بكلمة «عليه» وبين إضافة كلمة «لا» في قوله : «هل عليه أن لا يجهر» ممّا لا ينبغي كما لايخفى ، مضافاً إلى أنّها موافقة لفتوى المشهور وللسّنة كما عرفت ، فالأحوط إن لم يكن أقوى مراعاتهما في مواضعهما .
ثم إنّ وجوب الاخفات في الظهرين على ما عرفت ، إنما هو في غير يوم الجمعة ، وأمّا يوم الجمعة ، فالمحكيّ عن العلاّمة في المنتهى(1) ، دعوى اتّفاق كلّ من يحفظ عنه العلم على الجهر بالقراءة في صلاتها ، أي الركعتين مع الخطبة ، والدليل عليه استمرار سيرة النبي(صلى الله عليه وآله) على الجهر بها ، كاستفادة أصل مشروعية صلاة الجمعة عن عمله(صلى الله عليه وآله) ، ولكن لم يعلم أنّ ذلك هل هو على سبيل الوجوب أو الاستحباب ؟ وكلام العلاّمة غير ظاهر في الثاني ، وعلى تقدير ظهوره غير مفيد ، لأنّه من المحتمل أن يكون القائل بالاستحباب هو الذي يقول باستحباب الجهر والاخفات في مواضعهما ، ولم يعلم اختيار القائل بوجوبهما في مواضعهما ذلك القول .
وبالجملة: فأصل الرجحان ممّا لا إشكال فيه ، لما عرفت من استقرار سيرة