(الصفحة 181)
والظاهر أنّه ليس المراد بالتحديد المذكور في كلامه هو الحدّ والتعريف المنطقي ، بحيث يكون إسماع الغير معرّفاً للجهر ، وإسماع النفس حدّاً للاخفات ، بل المراد به بيان المقدار الذي يعتبر في صحة الصلوات الجهرية والاخفاتية ، ولا يجزي في الجهر أكثر منه ، ولا في الاخفات أقلّ منه .
ويؤيد ذلك ما ذكره في المعتبر ، حيث قال : وأقلّ الجهر أن يسمع غيره القريب، والاخفات أن يسمع نفسه ، أو بحيث يسمع لو كان سميعاً ، وهو إجماع العلماء ، ولأنّ ما لا يسمع لا يعدّ كلاماً ولا قراءة(1) . انتهى .
فإنّ التعليل الأخير يدلّ على أنّ مقصوده مجرّد عدم الاكتفاء بما دون إسماعه نفسه ، لعدم عدّه كلاماً ولا قراءة ، فالاجماع وقع على هذا المعنى .
وبالجملة: فالظاهر أنّ مرادهم بالحدّ هو المحدودية في ناحية الاجزاء وأنّ المراد بالجهر والاخفات المعتبرين في الصلوات الجهرية والاخفاتية ليس ما يصدق عليه الجهر ، ولو كان جهراً عظيماً وصوتاً عالياً، ولا ما يصدق عليه الاخفات ، ولو كان ما دون سماع النفس ، بل المعتبر الجهر المتوسّط والاخفات بما يسمعها .
وليس مرادهم التحديد بمعنى التعريف ، وبيان الحقيقة ، حتى يورد عليهم بما ذكرنا ، بل قد عرفت أنّ عبارات القدماء من الأصحاب خالية عن تفسيرهما ، ولو بما هو المعروف بين المتوسّطين . فدعوى أنّ المشهور بين القدماء هو التحديد بما ذكر ، كما هو المحكيّ عن مفتاح الكرامة(2) ممنوعة جدّاً .
وكيف كان فقد عرفت من النهاية والمبسوط أنّه يعتبر في الجهر أن يكون متوسّطاً ، بمعنى أنّه لا يجزي أكثر منه ، وفي الاخفات أن يكون بحيث يسمع نفسه ، بمعنى أنّه لا يجزي أدنى منه ، وعرفت التصريح بالثاني من المفيد في المقنعة ، ولكن
- (1) المعتبر 2 : 177 .
- (2) مفتاح الكرامة 2 : 365 .
(الصفحة 182)
عبارة التبيان المتقدمة مشتملة على أمر زائد ، وهو أنّه يعتبر في الجهر أن يسمع غيره ، بمعنى أنّه يعتبر فيه أن لا يكون أقلّ منه .
ويرد عليه حينئذ أنّه لا دليل على اعتبار هذا الأمر أصلا ، بعد كون معنى الجهر هو اظهار جوهر الصوت ، وهو لا ينافي عدم سماع الغير ، فإنّه قد يتّفق الاظهار مع العدم ، كما هو واضح ، واعتبار كون الجهر متوسّطاً لا عالياً، والاخفات بحدّ يوجب سماع النفس ، إنما هو لدلالة الآية الشريفة(1) ، بضميمة الأخبار الكثيرة الواردة في تفسيرها ، وإلاّ فقد عرفت شمول الجهر والاخفات بمعناهما الحقيقي لهما أيضاً .
هذا ، وعبارة المعتبر المتقدمة كعبارة التبيان تدلّ على اعتبار ذلك الأمر الزائد حيث قال : وأقلّ الجهر أن يسمع غيره القريب . وقد عرفت أنّه لا دليل عليه أصلا .
ومن الغريب ما وقع من الحلّي في هذا المقام ، حيث قال في السرائر : وأدنى الجهر أن تسمع من عن يمينك أو شمالك ، ولو علا صوته فوق ذلك لم تبطل صلاته ، وحدّ الاخفات أعلاه أن يسمع أُذناك بالقراءة ، وليس له حدّ أدنى ، بل إن لم تسمع اُذناه القراءة ، فلا صلاة له ، وإن سمع من عن يمينه أو شماله صار جهراً ، فإذا فعله عامداً بطلت صلاته(2) . انتهى .
فإنّه اعتبر في الجهر أن يسمع من عن يمينه أو شماله ، ولم يعتبر في طرف أعلاه شيئاً ، بل صرّح بأنّه لا تبطل الصلاة مع الصوت عالياً ، وقد عرفت قيام الدليل على مبطلية الثاني ، وعدم قيامه على الأول ، هذا مع أنّه اعتبر الحدّ في أعلى الاخفات دون أدناه ، وقد عرفت أنّه معتبر في الثاني دون الأول .
- (1) الإسراء: 110 .
- (2) السرائر 1 : 223 .
(الصفحة 183)
مضافاً إلى أنه جعل الحد الأعلى في الاخفات هو سماع الاُذنين بالقراءة ، مع أنّه الحدّ الأدنى فيه ، ولو حمل الأعلى في كلامه على شدّة الاخفات ، والأدنى على ضعفه كما هو غير بعيد .
فالجمع بين أنه ليس له حدّ أدنى ، وبين أنّه لو سمع من عن يمينه أو شماله يصير جهراً ، ممّا لا يصح أصلا ، مضافاً إلى أنّه لا دليل على صيرورته جهراً في هذه الصورة كما عرفت في عكسه . فالانصاف أنّ عبارته في غاية الاضطراب .
ونظير عبارة الحلّي في تحديد أقلّ الجهر وأعلى الاخفات ، ما حكي عن المالكية في تحديدهما ، ولكن المحكيّ عن الشافعية والحنابلة والحنفية ، تحديد الجهر من الطرف الأدنى ، وكذلك الاخفات(1) ، وإن اختلفوا في أقلّ الجهر من حيث الاكتفاء بما يسمع من يليه ولو واحداً ، كما عن الأول ين ، ولزوم إسماع غيره ممّن ليس بقربه ، كأهل الصفّ الأول ، فلو سمع رجل أو رجلان فقط لا يجزي كما عن الأخير .
وكيف كان فالظاهر كما عرفت أنّ ذلك المعنى المعروف بينهم ليس المراد به بيان حقيقة الجهر والاخفات ، كيف! وضرورة العرف قاضية بأنّهما نوعان من الصوت متضادّان ، وسماع الغير وعدمه خارجان عن معناهما الحقيقي ، بل هما وصفان للقراءة المتحققة في الخارج ، نعم لازم الجهر نوعاً سماع الغير ، كما أنّ لازم الاخفات كذلك هو العدم .
وحينئذ فإن كان مرادهم بأنّ أقلّ الجهر إسماع غيره القريب ، هو مدخلية ذلك في معناه ، بحيث لا يصدق عنوانه على الأقل منه ، ففيه منع ذلك ، وإن كان المراد أنّ هذه المرتبة من الجهر تعتبر في صحة الصلوات الجهرية ، ولا تكفي المرتبة النازلة عنها ، فيرد عليه ما عرفت من عدم الدليل عليه ، بعد صدق الجهر على هذه المرتبة
- (1) الفقه على المذاهب الأربعة 1 : 263 .
(الصفحة 184)
أيضاً ، مضافاً إلى أنّ المسلمين كانوا من أوّل الإسلام إلى يومنا هذا يقسّمون الصلاة إلى الجهرية والاخفاتية ، وكانوا يعبّرون عن كيفية قراءة النبي(صلى الله عليه وآله) في الصلوات بالجهر في بعضها والاخفات في اُخرى ، ولم يقيّدوا الجهر بغير المرتبة النازلة أصلا ، ولو لم يكن هنا دليل على تحديد الجهر من الطرف الأعلى ، والاخفات من الطرف الأدنى ، لقلنا بكفاية الجهر والاخفات بمراتبهما ، ولكن قد عرفت أنّ الآية الشريفة بضميمة النصوص الواردة في تفسيرها تدلّ على ذلك ، وأنّ السيرة المستمرّة بين المسلمين في الصلوات الجهرية والاخفاتية موافقة لما ذكرنا .
ثم إنّ المراد بإسماع النفس المعتبر في أدنى الاخفات ، هل هو إسماعها فعلا ، أو ولو بالقوّة؟
وعلى التقديرين هل اللاّزم وجوب إسماعها الكلمة بمادّتها وهيئتها ، أو يكفي مجرّد إسماع الصوت وإن لم يتميّز المواد والهيئات؟ وجوه ، واللاّزم ملاحظة الأخبار الدالة على اعتبار ذلك في صحة القراءة في الصلاة أو مطلقاً فنقول :
منها : رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «لا يكتب من القراءة والدعاء إلاّ ما أسمع نفسه»(1) .
ومنها : رواية سماعة قال : سألته عن قول الله عزّوجلّ :
{ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}(2) قال : «المخافتة ما دون سمعك، والجهر أن ترفع صوتك شديداً»(3) .
- (1) الكافي 3 : 313 ح6 ; التهذيب 2 : 97 ح363 ; الاستبصار 1 : 320 ح1194; الوسائل 6 : 96. أبواب القراءة في الصلاة ب33 ح1.
- (2) الاسراء : 110 .
- (3) الكافي 3 : 315 ح 21; التهذيب 2 : 290 ح1164 ; الوسائل 6 : 96. أبواب القراءة في الصلاة ب33 ح 2 .
(الصفحة 185)
ومنها : رواية الحلبي قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) هل يقرأ الرجل في صلاته وثوبه على فيه؟ قال : «لا بأس بذلك إذا أسمع اُذنيه الهمهمة»(1) .
ومنها : رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال : سألته عن الرجل يصلح له أن يقرأ في صلاته ويحرّك لسانه بالقراءة في لهواته من غير أن يسمع نفسه؟ قال : «لا بأس أن لا يحرّك لسانه يتوهّم توهّماً»(2) .
واللهوات بالتحريك جمع لهات ، كحصاة ، وهي سقف الفم ، وقيل هي اللحمة الحمراء المتعلّقة في أصل الحنك ، ذكر ذلك في مجمع البحرين(3) ، ويبعد كون المراد هو المعنى الثاني كما لا يخفى وأمّا الأول فلا يناسب أيضاً ، لأنّ مخارج الحروف بعضها لا يتجاوز عن الشفتين ، كالباء ونحوها .
وكيف كان فالرواية مخالفة للأدلّة الدالة على وجوب القراءة في الصلاة ، لأنّ القراءة لا تتحقّق مع عدم تحريك اللسان ، ومجرد التوهم والتخيل كما هو واضح ، فإنّ مجرد تحريك اللسان مع التوهم لا يحقق القراءة ، وعلى تقديره فاحرازها في غاية الإشكال ، ولذا حملها الشيخ على من يصلّي خلف من لا يقتدى به .
وأمّا رواية زرارة الظاهرة في وجوب الاسماع فعلا فيمكن أن يقال بأنّه يبعد أن يكون المراد مدخلية إسماع النفس ، بحيث يكون اللازم تأثّر القوة السامعة بسبب القراءة ، فإنّ ذلك لا ربط له بتحققها ، بل المراد هو لزوم إيجاد الصوت ، بحيث بلغ تلك المرتبة ، فلو علم أنّه أوجد الألفاظ بمادّتها وهيئتها من غير سماعها ،
- (1) الكافي 3: 315 ح15; التهذيب 2: 97 ح364 وص229 ح903; الاستبصار 1: 320 ح1195; الوسائل 6: 97. أبواب القراءة في الصلاة ب33 ح4.
- (2) التهذيب 2 : 97 ح365; الاستبصار 1 : 321 ح1196; الوسائل 6 : 97. أبواب القراءة في الصلاة ب33 ح5 ; وص128 ب52 ح2.
- (3) مجمع البحرين 4 : 147 .