(الصفحة 183)
مضافاً إلى أنه جعل الحد الأعلى في الاخفات هو سماع الاُذنين بالقراءة ، مع أنّه الحدّ الأدنى فيه ، ولو حمل الأعلى في كلامه على شدّة الاخفات ، والأدنى على ضعفه كما هو غير بعيد .
فالجمع بين أنه ليس له حدّ أدنى ، وبين أنّه لو سمع من عن يمينه أو شماله يصير جهراً ، ممّا لا يصح أصلا ، مضافاً إلى أنّه لا دليل على صيرورته جهراً في هذه الصورة كما عرفت في عكسه . فالانصاف أنّ عبارته في غاية الاضطراب .
ونظير عبارة الحلّي في تحديد أقلّ الجهر وأعلى الاخفات ، ما حكي عن المالكية في تحديدهما ، ولكن المحكيّ عن الشافعية والحنابلة والحنفية ، تحديد الجهر من الطرف الأدنى ، وكذلك الاخفات(1) ، وإن اختلفوا في أقلّ الجهر من حيث الاكتفاء بما يسمع من يليه ولو واحداً ، كما عن الأول ين ، ولزوم إسماع غيره ممّن ليس بقربه ، كأهل الصفّ الأول ، فلو سمع رجل أو رجلان فقط لا يجزي كما عن الأخير .
وكيف كان فالظاهر كما عرفت أنّ ذلك المعنى المعروف بينهم ليس المراد به بيان حقيقة الجهر والاخفات ، كيف! وضرورة العرف قاضية بأنّهما نوعان من الصوت متضادّان ، وسماع الغير وعدمه خارجان عن معناهما الحقيقي ، بل هما وصفان للقراءة المتحققة في الخارج ، نعم لازم الجهر نوعاً سماع الغير ، كما أنّ لازم الاخفات كذلك هو العدم .
وحينئذ فإن كان مرادهم بأنّ أقلّ الجهر إسماع غيره القريب ، هو مدخلية ذلك في معناه ، بحيث لا يصدق عنوانه على الأقل منه ، ففيه منع ذلك ، وإن كان المراد أنّ هذه المرتبة من الجهر تعتبر في صحة الصلوات الجهرية ، ولا تكفي المرتبة النازلة عنها ، فيرد عليه ما عرفت من عدم الدليل عليه ، بعد صدق الجهر على هذه المرتبة
- (1) الفقه على المذاهب الأربعة 1 : 263 .
(الصفحة 184)
أيضاً ، مضافاً إلى أنّ المسلمين كانوا من أوّل الإسلام إلى يومنا هذا يقسّمون الصلاة إلى الجهرية والاخفاتية ، وكانوا يعبّرون عن كيفية قراءة النبي(صلى الله عليه وآله) في الصلوات بالجهر في بعضها والاخفات في اُخرى ، ولم يقيّدوا الجهر بغير المرتبة النازلة أصلا ، ولو لم يكن هنا دليل على تحديد الجهر من الطرف الأعلى ، والاخفات من الطرف الأدنى ، لقلنا بكفاية الجهر والاخفات بمراتبهما ، ولكن قد عرفت أنّ الآية الشريفة بضميمة النصوص الواردة في تفسيرها تدلّ على ذلك ، وأنّ السيرة المستمرّة بين المسلمين في الصلوات الجهرية والاخفاتية موافقة لما ذكرنا .
ثم إنّ المراد بإسماع النفس المعتبر في أدنى الاخفات ، هل هو إسماعها فعلا ، أو ولو بالقوّة؟
وعلى التقديرين هل اللاّزم وجوب إسماعها الكلمة بمادّتها وهيئتها ، أو يكفي مجرّد إسماع الصوت وإن لم يتميّز المواد والهيئات؟ وجوه ، واللاّزم ملاحظة الأخبار الدالة على اعتبار ذلك في صحة القراءة في الصلاة أو مطلقاً فنقول :
منها : رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «لا يكتب من القراءة والدعاء إلاّ ما أسمع نفسه»(1) .
ومنها : رواية سماعة قال : سألته عن قول الله عزّوجلّ :
{ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}(2) قال : «المخافتة ما دون سمعك، والجهر أن ترفع صوتك شديداً»(3) .
- (1) الكافي 3 : 313 ح6 ; التهذيب 2 : 97 ح363 ; الاستبصار 1 : 320 ح1194; الوسائل 6 : 96. أبواب القراءة في الصلاة ب33 ح1.
- (2) الاسراء : 110 .
- (3) الكافي 3 : 315 ح 21; التهذيب 2 : 290 ح1164 ; الوسائل 6 : 96. أبواب القراءة في الصلاة ب33 ح 2 .
(الصفحة 185)
ومنها : رواية الحلبي قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) هل يقرأ الرجل في صلاته وثوبه على فيه؟ قال : «لا بأس بذلك إذا أسمع اُذنيه الهمهمة»(1) .
ومنها : رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال : سألته عن الرجل يصلح له أن يقرأ في صلاته ويحرّك لسانه بالقراءة في لهواته من غير أن يسمع نفسه؟ قال : «لا بأس أن لا يحرّك لسانه يتوهّم توهّماً»(2) .
واللهوات بالتحريك جمع لهات ، كحصاة ، وهي سقف الفم ، وقيل هي اللحمة الحمراء المتعلّقة في أصل الحنك ، ذكر ذلك في مجمع البحرين(3) ، ويبعد كون المراد هو المعنى الثاني كما لا يخفى وأمّا الأول فلا يناسب أيضاً ، لأنّ مخارج الحروف بعضها لا يتجاوز عن الشفتين ، كالباء ونحوها .
وكيف كان فالرواية مخالفة للأدلّة الدالة على وجوب القراءة في الصلاة ، لأنّ القراءة لا تتحقّق مع عدم تحريك اللسان ، ومجرد التوهم والتخيل كما هو واضح ، فإنّ مجرد تحريك اللسان مع التوهم لا يحقق القراءة ، وعلى تقديره فاحرازها في غاية الإشكال ، ولذا حملها الشيخ على من يصلّي خلف من لا يقتدى به .
وأمّا رواية زرارة الظاهرة في وجوب الاسماع فعلا فيمكن أن يقال بأنّه يبعد أن يكون المراد مدخلية إسماع النفس ، بحيث يكون اللازم تأثّر القوة السامعة بسبب القراءة ، فإنّ ذلك لا ربط له بتحققها ، بل المراد هو لزوم إيجاد الصوت ، بحيث بلغ تلك المرتبة ، فلو علم أنّه أوجد الألفاظ بمادّتها وهيئتها من غير سماعها ،
- (1) الكافي 3: 315 ح15; التهذيب 2: 97 ح364 وص229 ح903; الاستبصار 1: 320 ح1195; الوسائل 6: 97. أبواب القراءة في الصلاة ب33 ح4.
- (2) التهذيب 2 : 97 ح365; الاستبصار 1 : 321 ح1196; الوسائل 6 : 97. أبواب القراءة في الصلاة ب33 ح5 ; وص128 ب52 ح2.
- (3) مجمع البحرين 4 : 147 .
(الصفحة 186)
فالظاهر عدم البطلان ، ولزوم إسماع الألفاظ بخصوصياتها ، تنفيه رواية الحلبي المتقدمة . وكيف كان فالظاهر أنّه لا يعتبر الإسماع بحيث تتميّز الكلمات بعضها عن بعض .
ثم إنّ وجوب الجهر في الصلاة الجهرية يختصّ بالرجال ، وأمّا النساء فليس عليهنّ جهر(1) ، فلو خافتن في مواضع الجهر فلا تبطل صلاتهنّ ، كما إنّه لا تبطل لو أجهرن ، نعم ربما يوجب البطلان فيما إذا أجهرن فيما يسمع صوتهن الأجنبي ، بناءً على حرمة الاسماع ، واقتضاء حرمة الاجهار بطلان الصلاة ، لاتّحاده معها ، والمبعّد لا يمكن أن يكون مقرّباً . هذا ، وأمّا الصلوات الاخفاتية ، فيجب عليهنّ الاخفات فيها كالرجال بلا إشكال .
المسألة الثانية : الاخفات في موضع الجهر وبالعكس
إذا خافت في موضع الجهر أو أجهر في موضع الاخفات ، فلا إشكال في بطلان صلاته إذا كان ذلك عمداً ، وأمّا إذا كان جهلا أو نسياناً أو سهواً ، فلا تجب عليه الإعادة ، كما هو صريح رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) في رجل جهر فيما لا ينبغي الاجهار فيه، وأخفى فيما لا ينبغي الاخفاء فيه; فقال : «أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته»(2) . وهذا أي عدم وجوب الإعادة على هؤلاء ممّا لا إشكال
- (1) المعتبر 2: 178; المنتهى 1 : 277; تذكرة الفقهاء 3: 154; الذكرى 3: 322; كشف اللثام 4: 37; جواهر الكلام 9: 383.
- (2) الفقيه 1 : 227 ح1003; التهذيب 2 : 162 ح635; الاستبصار 1 : 313 ح1163; الوسائل 6 : 86 . أبواب القراءة في الصلاة ب26 ح1 .
(الصفحة 187)
فيه ، لو استمرّ كلّ واحد من هذه الأعذار إلى بعد الفراغ من الصلاة ، وكذا لو استمرّ إلى أن تجاوز عن محلّ القراءة ، بحيث لو كان الإخلال بالجهر والاخفات مضرّاً بصحة الصلاة مطلقاً ، حتّى مع الجهل واختيه ، لكان اللاّزم عليه وجوب إعادة الصلاة واستئنافها ، لا إعادة القراءة ، كما لو انكشف له الحال بعد الركوع ، فإنّ الحكم فيه يدور بين صحة الصلاة وتماميتها ، وبين بطلانها ووجوب الإعادة ، ولا ثالث لهما كما هو واضح ، وظاهر الرواية عدم وجوب إعادة الصلاة على الناسي ونظائره ، واختصاصه بالمتعمّد ، فتتمّ صلاة كلّ واحد منهم في المورد المفروض ولا شيء عليه .
وأمّا لو استمرّ كلّ واحد من تلك الاُمور إلى محلّ يمكن إعادة القراءة جهراً أو إخفاتاً ، كما إذا التفت الناسي أو علم الجاهل قبل الركوع ، فهل يجب عليهم إعادة القراءة ، أو أنّ مدلول الرواية هو الإخبار بعدم وجوب شيء عليهم لا إعادة الصلاة ولا أمر آخر؟ وجهان .
ولابدّ قبل الخوض في معنى الرواية من بيان ما يحتمل في اعتبار الجهر والاخفات في مواضعهما ثبوتاً .
فنقول : يحتمل أن يكون الجهر في الصلوات الجهرية ، والاخفات في الصلوات الاخفاتية ، معتبراً في نفس الصلاة مستقلاً بلا واسطة شيء ، بحيث كان الجهر في بعض الصلوات والاخفات في بعضها الآخر شرطاً لنفس تلك الصلوات ، نظير سائر الشروط المعتبرة فيها مستقلاً ، ولا ينافي هذا كونهما وصفين عارضين للقراءة كما هو واضح .
وحينئذ فالقراءة اخفاتاً في الصلوات الجهرية مثلا لا تخرج عن الجزئية للصلاة ، فلا تبطل الصلاة من حيث فقدانها لبعض الأجزاء ، بل بطلانها يكون مسبّباً عن فقدانها لبعض الشروط المعتبرة فيها .