(الصفحة 19)
دام يمكن بقاؤه ، لعدم فراغ الإمام عن صلاته ، وحينئذ فلا ينافي تلك الموارد التي وقع بعض أجزاء الصلاة جماعة ، وبعضها فرادى ، فيرجع النزاع إلى هذا المعنى .
والبطلان حينئذ يبتني على أن تكون الجماعة وصفاً لمجموع الصلاة دون الاجزاء ، كما أنّ القول بالجواز مبني على أن تكون الجماعة وصفاً لكلّ جزء من أجزاء الصلاة مستقلاً ، فاللازم في هذا المقام النظر في هذا المعنى ، وأنّ الجماعة التي توجب الفضيلة للصلاة ، هل هي وصف لمجموع الصلاة ـ بمعنى أنّ الصلاة التي وقعت بتمامها جماعة يزيد ثوابها على الصلاة منفرداً بخمس وعشرين درجة، كما ورد في النبوي الشريف(1)ـ أو أنّها وصف لكلّ جزء من أجزاء الصلاة؟ ، بمعنى أنّ وقوع القراءة مثلا جماعة لا يتوقف على وقوع غيرها كذلك ، فكلّ جزء وقع جماعة فهو يزيد على هذا الجزء ، لو وقع فرادى ، بخمس وعشرين درجة .
ولا يخفى أنّ النزاع في هذه المسألة ليس مبنياً على أنّ وصف الجماعة هل له مدخلية في حقيقة الصلاة؟ بمعنى أنّ صلاة الجماعة والفرادى نوعان من طبيعة الصلاة ـ كصلاة الظهر والعصر ـ أو أنّها وصف عارض لبعض الأفراد التي توجب أفضليّته ، كوقوعها في المسجد مثلا؟
وذلك لأنّ النزاع جار ولو بناءً على الوجه الثاني ، لما عرفت من أنّ مرجع البحث إلى أنّ الجماعة وصف لمجموع الصلاة أو لكلّ جزء منها ، وهذا لا يتوقف على الوجه الأوّل أصلا ، بل نقول: إنّه لا وجه للالتزام بأنّ صلاة الجماعة والفرادى نوعان من طبيعة الصلاة ، ولم يظهر من أحد الالتزام به ، بل الظاهر هو الوجه الثاني ، والنزاع إنّما وقع بناءً عليه .
وحينئذ فنقول : لو قلنا بأنّ المعروف لوصف الجماعة هو كل جزء من الأجزاء
- (1) سنن ابن ماجه 1 : 258 ـ 259 ب16; سنن الترمذي 1: 255 ب47; صحيح البخاري 1: 179 ب30 ، ح645 ، و 646 و 647.
(الصفحة 20)
على سبيل الاستقلال ، فاللازم جواز العدول من الانفراد إلى الجماعة أيضاً ، إذ المصلّي عند كل جزء يكون مخيّراً بين أن يأتي به جماعة أو فرادى ، ولا تتوقف صيرورة الجزء اللاحق متّصفاً بوصف الجماعة ، على أن يكون الجزء السابق أيضاً كذلك ، بل يمكن أن يقع الجزء السابق فرادى ، واللاحق جماعة .
كما أنّه بناءً على هذا القول يجوز الاقتداء في صلاة واحدة بأشخاص متعدّدة ، فيجوز الاقتداء في القراءة مثلا بزيد ، وفي الركوع بعمرو ، وفي السجود ببكر ، وهكذا ، وأيضاً فاللازم على هذا القول أن يكون اتّصاف كل جزء من أجزاء الصلاة بوصف الجماعة موقوفاً على قصد الائتمام بالنسبة إلى ذلك الجزء .
فعند الشروع في كلّ جزء يلزم أن يكون قصد الاقتداء فيه مقارناً للشروع في الإتيان به ، لو أراد صيرورته جماعة ، لما عرفت من أنّ تحقّق عنوان الاقتداء متوقف على القصد ا ليه ، وبدونه تصير الصلاة فرادى ، وإن لم يقصد ذلك ، لأنّه ليس إلاّ مجرّد عدم وقوع الصلاة جماعة .
وهذا بخلاف ما لو كانت الجماعة وصفاً لمجموع الصلاة ، فإنّه يكفي في صيرورتها كذلك القصد إلى عنوان الاقتداء حين الشروع فيها ، ولا يحتاج إلى ذلك القصد عند الشروع في كل جزء ، بل يكفي مجرّد كون القصد عند الشروع باقياً في ارتكازه، وهو الذي يعبّر عنه بالاستدامة الحكمية .
ثمّ إنّ التعبير بالعدول من الجماعة إلى الانفراد ـ كما وقع في أكثر العبارات ـ أو بنقل النية ـ كما وقع من الشيخ في عبارة الخلاف(1) ـ ربما يؤيد كون الجماعة وصفاً لمجموع الصلاة ، إذ بناءً على القول الأوّل لا يصدق العدول ولا النقل كما لايخفى .
وكيف كان ، فقد استدلّ على جواز العدول من الائتمام إلى الانفراد ، بما ورد في
- (1) الخلاف 1: 552 مسألة 293 .
(الصفحة 21)
بعض الروايات من جواز التسليم قبل الإمام ، فيما لو أطال التشهد(1) ، بدعوى إنّه لم يقل أحد بالتفصيل في جواز العدول بين مورد الرواية وغيره ، فيجوز مطلقاً .
ولا يخفى أنّ هذا الاستدلال مبنيّ على أن يكون مورد الرواية جائزاً فيه قصد الانفراد ، غاية الأمر إنّه يتعدّى عنه إلى سائر الموارد ، لعدم القول بالفصل ، مع أنّه في محلّ المنع ، لأنّ مجرّد جواز التسليم قبل الإمام كما ورد في الرواية لا يتوقف على صيرورة صلاته فرادى ، بل صلاته باقية على الجماعة ما دام لم يفرغ منها .
غاية الأمر أنّه بالفراغ لا يبقى موضوع لوصف الجماعة ، والحاصل أنّ جواز التسليم قبل الإمام ليس من أفراد المسألة حتى يتمسّك به عليها ، بل مرجعه إلى أنّ ما يكون واجباً على المأموم عند صيرورة صلاته جماعة ـ وهو وجوب متابعة الإمام في الأفعال ـ يرتفع عند عروض عذر للمأموم ، لأنّ متابعة الإمام في الأفعال ليست مقومة للجماعة ، لأنّها عبارة عن مجرّد اجتماع الناس لأجل العبادة ، وجعل واحد منهم واسطة بينهم وبين معبودهم ، بحيث يجعلون عبادتهم تابعة لعبادته ، وخضوعهم متعقّباً لخضوعه .
وأمّا متابعته في الأفعال فليست ممّا له مدخلية في حقيقة الجماعة ، نعم يجب على كل مأموم عند قصد الاقتداء وجعل صلاته تبعاً ، متابعة الإمام في الأفعال ، فإذا ارتفع الوجوب في بعض الموارد لعذر فلا يلزم من ذلك ارتفاع الجماعة ، ومورد الرواية من هذا القبيل ، لا من موارد صيرورة الجماعة فرادى ، ولذا ذكرنا في صلاة ذات الرقاع انّ صلاة كل من الطائفتين تقع بتمامها جماعة .
غاية الأمر إنّه بعد تماميّة سجود الركعة الاُولى يزول وجوب المتابعة بالنسبة إلى الركعة الثانية ، كما إنّه عند تماميّة سجود الركعة الثانية ، لا يجب على الطائفة
- (1) الفقيه 1 : 257 ح1163; التهذيب 2 : 349 ح1445; الوسائل 8 : 413. أبواب صلاة الجماعة ب64 ح3 .
(الصفحة 22)
الثانية متابعة الإمام ، إلى أن يفرغ منها ، بل بمجرّد رفع الرأس من السجود تقوم الطائفة الثانية للإتيان بالركعة الثانية ، والإمام يطيل التشهّد حتّى تبلغ الطائفة الثانية إليه فيسلّم بهم .
وأنت خبير بأنّ وجوب إطالة الإمام التشهد حتى يسلم بهم ، دليل على أنّ صلاتهم لم تخرج من الجماعة الى الفرادى ، وإلاّ فلا وجه لذلك أصلا كما لا يخفى .
ثمّ إنّ هنا وجهاً قويّاً يمكن أن يستدلّ به للقول بالجواز ، وهو: إنّه يستفاد من دعوى الشيخ في الخلاف اتّفاق أصحابنا الإمامية على جواز العدول(1) ، بأنّ ذلك كان متداولا بين الناس في مقام العمل ، بحيث لم يكن فيهم التزام بإدامة الجماعة أصلا ، وإلاّ فلو فرض خلافه والناس كانوا ملتزمين بذلك ، فلا يبقى وجه لادعائه بجواز العدول إلى الأصحاب في مقابل العامة ، بل لم يكن وجه لذكر المسألة في كتاب الخلاف الذي بناؤه فيه على ذكر المسائل الخلافية بين المسلمين كما لا يخفى .
نعم هنا شيء ربما يمنع من القول بالجواز ، وهو إنّه قد عرفت أنّ القول بالجواز في المسألة مبني على أن تكون الجماعة وصفاً لأجزاء الصلاة ، وقد عرفت أيضاً أنّ لازم هذا المبنى كما يجوز العدول من الائتمام إلى الانفراد ، كذلك يجوز نقل النيّة إلى الجماعة ، مع أنّه لا يجوز عند الأصحاب عدا الشيخ في الخلاف ، فإنّه أفتى بالجواز في المسألتين ، وكذا صاحب الجواهر(2) ، فإنّه يظهر منه تقوية القول بالجواز .
هذا ، مضافاً إلى ما يظهر من بعض المحققين من المعاصرين(3) ، من أنّه لو نوى الانفراد في أثناء الجماعة جاز ، ولو نوى ذلك عند الشروع في الصلاة فالجواز محلّ إشكال ، فإنّ المستفاد من ذلك أنّ المرتكز في أذهان الفحول من الفقهاء ، أنّ
- (1) الخلاف : 1 / 552 مسألة 293 .
- (2) جواهر الكلام : 14 / 23 .
- (3) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري : 455 .
(الصفحة 23)
صيرورة الصلاة جماعة ، إنّما تحصل بأن يجعل مجموع الصلاة تابعاً لصلاة الغير ومرتبطاً بها ، دون كل جزء منها ، وإلاّ فلو كانت الجماعة وصفاً للأجزاء على سبيل الاستقلال لا منافاة بين نيتها ونية الانفراد في الأثناء في ابتداء الصلاة ، إذ متعلق نية الجماعة هي صيرورة بعض الأجزاء جماعة ، ومتعلّق نية الانفراد هي صيرورة البعض الآخر كذلك ، فلا تنافي بينهما أصلا .
فالإشكال إنّما نشأ من حيث عدم إمكان اجتماع النيتين عندهم ، وهو متفرع على كون الجماعة وصفاً للصلاة لا لأجزائها ، وهذا بخلاف ما لو عدل في الأثناء ، فإنّ قصد الجماعة صار متمشّياً منه، فصارت صلاته جماعة، فنية الإنفراد في الأثناء إنّما هي عدول عنها، فلا تنافي بينهما .
وبالجملة : فعدم جواز نية الانفراد في الابتداء ، وكذا عدم جواز نقل النية من الانفراد إلى الائتمام ، ممّا يدل على أنّ الجماعة وصف للصلاة دون الأجزاء ، ومع هذا فلا يجوز الاعتماد على القول بالجواز ، فالانصاف أنّ المسألة في غاية الإشكال ، والأخذ بالاحتياط يقتضي عدم الانفراد في أثناء الصلاة ، ما دام يمكن بقاء الجماعة ، لعدم فراغ الإمام عن الصلاة ، ومع عدم الإمكان يكون الانفراد قهرياً ، كالمأموم المسبوق بركعة أو أزيد .
ثمّ إنّه قد يستدلّ على المنع كما في المدارك(1) وغيره ، بصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(عليهما السلام) . وقد سأله عن إمام أحدث فانصرف ولم يقدّم أحداً ما حال القوم؟ قال(عليه السلام) : «لا صلاة لهم إلاّ بإمام»(2) .
ولا يبعد أن يكون المراد بالسؤال انّه هل تكون صلاة القوم باقية على الجماعة إلى انتهائها ولو من دون إمام ، فأجاب(عليه السلام) بأنّ بقاء القدوة مشروط بوجود الإمام ،
- (1) مدارك الأحكام 4: 378 .
- (2) الفقيه 1 : 262 ح1196; التهذيب 3 : 283 ح843 ; الوسائل 8 : 426. أبواب صلاة الجماعة ب72 ح1 .