(الصفحة 23)
صيرورة الصلاة جماعة ، إنّما تحصل بأن يجعل مجموع الصلاة تابعاً لصلاة الغير ومرتبطاً بها ، دون كل جزء منها ، وإلاّ فلو كانت الجماعة وصفاً للأجزاء على سبيل الاستقلال لا منافاة بين نيتها ونية الانفراد في الأثناء في ابتداء الصلاة ، إذ متعلق نية الجماعة هي صيرورة بعض الأجزاء جماعة ، ومتعلّق نية الانفراد هي صيرورة البعض الآخر كذلك ، فلا تنافي بينهما أصلا .
فالإشكال إنّما نشأ من حيث عدم إمكان اجتماع النيتين عندهم ، وهو متفرع على كون الجماعة وصفاً للصلاة لا لأجزائها ، وهذا بخلاف ما لو عدل في الأثناء ، فإنّ قصد الجماعة صار متمشّياً منه، فصارت صلاته جماعة، فنية الإنفراد في الأثناء إنّما هي عدول عنها، فلا تنافي بينهما .
وبالجملة : فعدم جواز نية الانفراد في الابتداء ، وكذا عدم جواز نقل النية من الانفراد إلى الائتمام ، ممّا يدل على أنّ الجماعة وصف للصلاة دون الأجزاء ، ومع هذا فلا يجوز الاعتماد على القول بالجواز ، فالانصاف أنّ المسألة في غاية الإشكال ، والأخذ بالاحتياط يقتضي عدم الانفراد في أثناء الصلاة ، ما دام يمكن بقاء الجماعة ، لعدم فراغ الإمام عن الصلاة ، ومع عدم الإمكان يكون الانفراد قهرياً ، كالمأموم المسبوق بركعة أو أزيد .
ثمّ إنّه قد يستدلّ على المنع كما في المدارك(1) وغيره ، بصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(عليهما السلام) . وقد سأله عن إمام أحدث فانصرف ولم يقدّم أحداً ما حال القوم؟ قال(عليه السلام) : «لا صلاة لهم إلاّ بإمام»(2) .
ولا يبعد أن يكون المراد بالسؤال انّه هل تكون صلاة القوم باقية على الجماعة إلى انتهائها ولو من دون إمام ، فأجاب(عليه السلام) بأنّ بقاء القدوة مشروط بوجود الإمام ،
- (1) مدارك الأحكام 4: 378 .
- (2) الفقيه 1 : 262 ح1196; التهذيب 3 : 283 ح843 ; الوسائل 8 : 426. أبواب صلاة الجماعة ب72 ح1 .
(الصفحة 24)
لا أنّ صحة الصلاة متوقفة عليه ، فالرواية لا تدلّ على المنع في المقام .
تنبيه : قد أشرنا فيما سبق إلى أنّ النزاع في المسألة ليس مبنياً على كون الجماعة والفرادى نوعين متغايرين ، أو فردين من نوع واحد ، بل النزاع يجري ولو قلنا بالثاني ، فإنّه وإن كانت الجماعة بناءً عليه وصفاً عارضاً لبعض الأفراد يوجب أفضليته على سائر الأفراد ، وليست لها مدخلية في قوام الصلاة وحقيقتها ، نظير وقوعها في المسجد ، إلاّ أنّها باعتبار كونها من العناوين القصدية المتوقفة على القصد ، قد وقع النزاع في جواز العدول عنها إلى الانفراد .
وهذا بخلاف سائر الأوصاف العارضة لبعض الأفراد ، كوقوعها في المسجد ، فإنّه لم يقع خلاف من أحد في أنّه يجوز أن يقع بعض الأجزاء خارج المسجد بعد وقوع البعض الآخر فيه أو قبل وقوعه ، وليس ذلك إلاّ لعدم كونها من العناوين القصدية حتى يجري فيها النزاع .
لو انكشف الخلل في صحّة صلاة الجماعة
إنّ من المسائل المتفرّعة على ما ذكرنا ـ من كون الجماعة عنواناً قصدياً ـ مسألة اُخرى مذكورة في باب الجماعة أيضاً ، وهي أنّه لو نوى الاقتداء وجعل صلاته مرتبطة بصلاة الإمام بسبب القصد، ثمّ انكشف فقدان بعض ما يعتبر في صحة الصلاة جماعة ، أو تحقّق بعض ما اعتبر عدمه فيها كذلك ، كما إذا انكشف وجود الحائل بينه وبين الإمام ، أو بين صفوف المأمومين ، أو عدم الاتّصال به ، أو كون موضع الإمام أعلى من محلّ المأموم ، وغير ذلك ممّا اعتبر في صحة الجماعة وجوداً أو عدماً،فهل يكون ذلك مضرّاًبصحّة الجماعة فقط، أويوجب بطلان الصلاة من رأس؟
وبعبارة اُخرى ، هل تكون تلك الاُمور معتبرة في تحقق الاقتداء ـ بمعنى أنّ مجرّد قصد الاقتداء لا يوجب تحققه لو لم تكن هذه الأمور متحققة ، فكما أنّه يتوقف
(الصفحة 25)
على القصد ، كذلك يتوقف عليها ـ أو أنّ تحقق عنوان الاقتداء لا يتوقف إلاّ على مجرّد القصد ، وهذه الاُمور معتبرة في صحة الصلاة بعد اتّصافها بأنّها صلاة المقتدى ، لا في صدق الاقتداء؟
لا إشكال بل لا خلاف في بطلان الصلاة لو أخلّ المأموم بوظائف المنفرد ، بأن ترك القراءة في الركعتين الاُوليين ، أو زاد ركناً ، كالركوع والسجود ، أو غير ذلك من الأمور التي يكون الإخلال بها في حال الانفراد مضراً بصحة الصلاة .
وجه البطلان في هذه الصورة واضح ، لأنّ المفروض عدم وقوع صلاته جماعة ، وصحتها فرادى متوقفة على الاتيان بما هو وظيفة للمنفرد ، والمفروض الاخلال به . إنّما الإشكال فيما لو لم يخلّ بوظائف المنفرد أصلا ، وأنّه هل تكون الجماعة غير متحققة ، أو تكون الصلاة فاسدة؟
فنقول : إنّ في المسألة وجهين بل قولين ، ربما يستفاد من كلام الفقهاء المتقدمين والمتوسطين القول بالبطلان(1) ، كما أنّ المشهور بين المحققين من المتأخرين هو القول بصحّة الصلاة فرادى(2) ، ويمكن أن يستظهر القول الأوّل من بعض الأخبار الدالة على اعتبار تلك الأمور ، مثل صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) الواردة في مسألة الحائل، حيث قال(عليه السلام) : «إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يُتخطّى فليس ذلك الإمام لهم بإمام وأيّ صفّ كان أهله يصلّون بصلاة إمام وبينهم وبين الصفّ الذي يتقدّمهم قدر ما لا يتخطّى فليس لهم تلك بصلاة فإن كان بينهم سترة أو جدار
- (1) الفقيه 1 : 253 ح1144 و 1146; المبسوط 1: 155 ـ 156; الوسيلة: 106; المهذّب 1: 79 و81 ; السرائر 1: 283 و 289; الغنية : 88 ; الكافي في الفقه : 144; شرائع الاسلام 1: 112 ـ 113; نهاية الأحكام 2: 122 و 124.
- (2) مستند الشيعة 8 : 130 و 134; كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: 280; العروة الوثقى 1: 612 مسألة 10 وص614 مسألة 18; كتاب الصلاة للمحقّق النائيني: 338 .
(الصفحة 26)
فليس تلك لهم بصلاة . . .»(1) .
فإنّ ظاهره نفي حقيقة الصلاة معوجودالحائل بين الإمام والمأموم، أو المأمومين بعضهم مع بعض، لانفي صحة الجماعة فقط، ومثله في الدلالة على ذلك خبر السكوني الوارد فيما لو صلّى اثنان فقال : كل منهما كنت إماماً أو قال كنت مأموماً حيث روى «عن أبي عبدالله(عليه السلام) عن أبيه قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في رجلين اختلفا فقال أحدهما : كنت إمامك وقال الآخر : أنا كنت إمامك فقال: صلاتهما تامّة. قلت : فإن قال كل واحد منهما : كنت أئتمّ بك؟ قال : فصلاتهما فاسدة وليستأنفا»(2) .
فإنّ الحكم ببطلان صلاتهما فيما لو قال كل واحد منهما: كنت أئتمّ بك مع ترك الاستفصال عن الاخلال بوظائف المنفرد وعدمه ، لا ينطبق إلاّ على كون وجود الإمام معتبراً في صحة صلاة المقتدي ، لا في صحة أصل الاقتداء حتى لا ينافي بطلانه صحة أصل الصلاة .
وبالجملة : لو كان وجود الإمام شرطاً في تحقق الاقتداء ، فمع عدمه لا وجه لبطلان الصلاة ولو فرادى كما لا يخفى ، والاعتراض على الرواية من حيث السند يندفع بأنّ ضعفها مجبور باشتهارها بين الأصحاب فتوى ورواية ، بل كما في المصباح(3) تكون العلّة في تعرّضهم لهذا الفرع مع كونه من الفروع الفرضية التي لايكاد يتفق الابتلاء بها إلاّ نادراً إنّما هو ورود الرواية في مورده ، فالظاهر أنّ الرواية مقبولة عند الأصحاب ولا وجه لطرحها أصلا .
- (1) الفقيه 1: 253 ح1144; الكافي 3 : 385 ح4; التهذيب 3: 52 ح182; الوسائل 8 : 410. أبواب صلاة الجماعة ب 62 ح 2 وص407 ب59 ح1 .
- (2) الكافي 3 : 375 ح3; الفقيه 1 : 250 ح1123; التهذيب 3 : 54 ح186; الوسائل 8 : 352. أبواب صلاة الجماعة ب29 ح1 .
- (3) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 655 .
(الصفحة 27)
ثمّ لا يخفى أنّ ما ورد في صحة الصلاة وعدم وجوب إعادتها فيما لو انكشف كون الإمام فاقداً لشروط الإمامة ، مثل ما ورد فيما صلّى الرجل من خراسان إلى بغداد خلف رجل ثمّ ظهر كونه يهودياً من عدم وجوب الإعادة(1)، لايدل على الصحة في المقام، وإنّ فقدان الشرط لا يضرّ بصحّة الصلاة ، وذلك لأنّ الشرط ليس هو الإسلام الواقعي، بل إحرازه بالأمارة أو بالأصل ، والمفروض تحققه في مورد الرواية.
وبالجملة : فالنزاع في المقام إنّما هو فيما لو انكشف فقدان ما هو الشرط ، والمفروض في الرواية تحققه ، فلا يمكن الاستدلال بها للمقام ، مع أنّ الظاهر تحقّق الاخلال بوظائف المنفرد في الرواية ولو نادراً ، إذ يبعد عدم تحققه مع بعد المسافة بين خراسان وبغداد ، وطول المدّة في الطريق ، خصوصاً في الأزمنة السابقة، وحينئذ فلا يجوز التمسّك بها للمقام بعد كون البطلان في صورة الاخلال بوظائف المنفرد مورداً للاتّفاق هنا كما عرفت .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ القدر المتيقّن وإن كان هو اعتبار الأمور المعتبرة في صحة الجماعة في تحقّق أصل الاقتداء ، لا في صحة صلاة المقتدي إلاّ أنّك عرفت ظهور بعض الأخبار في البطلان ، فيما لو انكشف الخلاف ، فالأحوط إعادة الصلاة واستئنافها .
ثمّ إنّك عرفت أنّ الصلاة من العناوين القصدية التي لا ينصرف العمل المشترك إلى بعضها إلاّ بالنية ، فاعلم أنّ هذا القصد معتبر حين الشروع في العمل ، إذ مجرّد كونه قاصداً سابقاً لأداء الدين مثلا لا يوجب صرف العمل إلى ذلك العنوان ، وكذا الحكم في جميع العناوين القصدية التي منها عنوان الصلاة .
- (1) الكافي : 3 / 378 ح4 ; التهذيب 3: 40 ح141; الفقيه 1: 263 ح1200; الوسائل : 8 / 374 أبواب صلاة الجماعة ب37 ح1 و2 .