(الصفحة 234)
نعم يقع الكلام حينئذ في أنّ المراد بالأصابع ، هل هو جميعها الذي منها الابهام ، أو أنّ المراد بها أكثرها، أو فرضت كالشيء الواحد ، فيصدق بلوغها ببلوغ واحد منها كما هو الشأن في المركبات؟
لا سبيل إلى الأخيرين لمخالفتهما لظاهر الرواية ، ضرورة أنّ ظاهرها هو بلوغ الجميع ، وحينئذ يقع الإشكال في أنّ بلوغ رأس الابهام لايجتمع مع بلوغ رؤوس سائر الأصابع ، لعدم كونهما في عرض واحد ، ضرورة أنّ بلوغ رأس الابهام لا يتحقّق إلاّ مع بلوغ ما يقرب من الراحة من سائر الأصابع وحينئذ فيصير التعبير ببلوغ الجميع لغواً .
والتحقيق أن يقال : إنّ المذكور في الروايتين المتقدّمتين هو عين الركبة لا نفسها ، والمراد بها هي النقرة التي في مقدّمها عند الساق ، كما في لسان العرب(1) أو النقرتان في أسفل الركبة ، كما في أقرب الموارد(2) ، وقال في الأول إنّ لكلّ ركبة عينين ، وهما نقرتان في مقدّمها عند الساق .
وحكي عن علماء التشريح أنّ في المفصل بين الساق والركبة عظماً يشبه الدائرة ، متّصلا بعين الركبة ، وهي الحفرة في مقدمها ، وحينئذ فإذا بلغت أطراف الأصابع إلى عين الركبة يقع الكفّ والراحة على نفس الركبة ، فيصير مدلول الرواية ما يدلّ عليه عبارتا المعتبر والتذكرة ، لكن في دلالة الرواية على وجوب هذا المقدار إشكال ، فإنّ فيها احتمالين :
أحدهما : أن يكون المراد بقوله(عليه السلام) : «فان وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك» هو وصولها إلى عين الركبة المذكورة في الجملة التي هي قبل هذه الجملة ، لا الوصول إلى نفسها الصادق بالوصول إلى أعلاها ،
- (1) لسان العرب 9 : 507 .
- (2) أقرب الموارد 2 : 856 .
(الصفحة 235)
وحينئذ فيكون المراد من قوله(عليه السلام) : «وأحبّ إليّ إن تمكّن كفّيك من ركبتيك» هو مجرّد استحباب وضع الكفّين بالفعل على الركبتين ، فتكون الرواية متضمّنة لحكمين :
حكم وجوبيّ; وهو وجوب الانحناء بقدر ما يمكن وصول أطراف الأصابع إلى عين الركبة .
وحكم استحبابيّ; وهو استحباب الوضع خارجاً ، وجعل الركبة مكاناً للكفّ .
ثانيهما : أن يكون المراد بقوله(عليه السلام) «فإن وصلت أطراف أصابعك . . .» ، هو وصول أطراف الأصابع إلى نفس الركبة ، وهو يصدق بالوصول إلى أعلاها ، من غير جهة الساق ، ويكون المراد بالجملة التي بعدها هو الوصول إلى قدر يتمكن معه من وضع الكفّين .
ففي الحقيقة تكون الجملتان الأخيرتان مفسّرتين للجملة الأولى المشتملة على وجوب إيصال أطراف الأصابع إلى عين الركبة ، بأنّ هذا المقدار لا يكون واجباً بتمامه ، بل القدر المجزي هو ما يدلّ عليه الجملة الثانية ، والمقدار المستحبّ هو ما يدلّ عليه الجملة الأخيرة ، فتكون الرواية بناءً على هذا الاحتمال متعرّضة لما يجب من الانحناء ، وما يستحبّ منه ، ولا دلالة لهاحينئذ على استحباب الوضع الحقيقي والتمكين أصلا .
هذا، والظاهر هو الاحتمال الأول ، ويؤيده تفريع الجملة الثانية على الجملة الأولى الظاهر في كون مفادها مستفاداً منها ، وظهور الجملة الأخيرة في الوضع والتمكين ، كما يدلّ عليه قوله(عليه السلام) في ذيل رواية زرارة المتقدمة : «فتجعل أصابعك في عين الركبة» كما لا يخفى .
وبالجملة: فالالتزام بكفاية بلوغ رؤوس الأصابع إلى الركبة الصادق ببلوغها
(الصفحة 236)
إلى أعلاها ممّا لا سبيل إليه ، ودعوى الشهرة(1) على ذلك ممّا لا تسمع ، لعدم كون المسألة معنونة في كتب قدماء الأصحاب رضوان الله عليهم .
نعم ذكر الشيخ في الخلاف في مسألة اعتبار الطمأنينة في الركوع أنّه قال أبو حنيفة: أنّها يعني الطمأنينة ، غير واجبة ، ولا يجب عنده أن ينحني بقدر ما يضع يديه على ركبتيه ، وقال في المبسوط(2) : وأقلّ ما يجزي من الركوع أن ينحني إلى موضع يمكنه وضع يديه على ركبتيه مع الاختيار ، وما زاد عليه فمندوب إليه(3) .
وتبعه ابن إدريس في السرائر ، حيث إنّه ذكر هذه العبارة بعينها(4)، ويظهر من المعتبر أنّه لا يكون بين العبارات المختلفة بحسب الظاهر فرق من حيث المقصود ، لأنّه ادعى الاجماع على لزوم الانحناء إلى قدر تصل معه كفّاه إلى ركبتيه ، ولم ينسب الخلاف إلاّ إلى أبي حنيفة ثم استدلّ عليه بعمل النبي(صلى الله عليه وآله) وبما رواه أنس قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : «إذا ركعت فضع كفّيك على ركبتيك» ، وبرواية الثلاثة المتقدمة وبرواية زرارة المتقدمة أيضاً(5) .
وبالجملة: فالظاهر بملاحظة ما تقدّم هو عدم الاكتفاء بمجرّد وصول رؤوس الأصابع إلى الركبة ، لأنّ الظاهر أنّ أبا حنيفة أيضاً لا يقول بكفاية أقلّ من هذا المقدار ، فعدّه مخالفاً دليل على أنّ الإمامية، وكذا ما عدا أبي حنيفة من فقهاء العامة ، يقولون بلزوم أزيد من هذا المقدار كما هو ظاهر .
ثم إنّ الأصحاب قد اتفقوا على ما اشتملت عليه رواية زرارة ، من أنّ المرأة إذا
- (1) كما عن المجلسي في البحار 82 : 119 ـ 120 .
- (2) الخلاف1 : 348 مسألة 98 .
- (3) المبسوط 1 : 111 .
- (4) السرائر 1 : 240.
- (5) المعتبر 2 : 193 .
(الصفحة 237)
ركعت وضعت يديها فوق ركبتيها على فخذيها لئلاّ تطأطأ كثيراً ، فترتفع عجيزتها(1) ، ومقتضاه كون ركوع المرأة أقلّ انحناء من ركوع الرجل ، لأنّ الظاهر أنّها في هذا الفرض لا تنحني إلاّ بمقدار يمكنها وضع اليد على الفخذ ، غاية الأمر استحباب الوضع عليه .
ولكنّه ذكر في الجواهر أنّه لا منافاة بين استحباب وضع اليدين فوق الركبتين ، وكون الانحناء بمقدار الرجال ، فيكون إطلاق الأصحاب بحاله ، مضافاً إلى أنّ ذلك لا يتمّ بناءً على الوضع الشرعي للركوع ، إذ لا منافاة في وضعه للانحنائين الخاصّين بالنسبة إلى المكلّفين ، بل وإن لم نقل بالوضع الشرعي وقلنا بالمراد الشرعي ، إذ لا مانع من تكليف الرجال بهذا الفرد من الركوع ، والنساء بالفرد الآخر بعد أن كان في اللغة لمطلق الانحناء(2) ، انتهى .
ولكنّه لا يخفى أنّ مجرّد وضع اليد على الفخذ مع الانحناء بمقدار الرجال ، لا يوجب عدم ارتفاع العجيزة التي وقع علّة للحكم المذكور في الرواية ، لأنّ الذي يوجب ذلك هو كون الانحناء قليلا كما هو واضح .
وأمّا الوضع الشرعي للركوع ، فقد عرفت سابقاً أنّه لا يكون للشارع في ذلك وضع خاصّ ، بل هو قد استعمله أيضاً في معناه اللغوي ، وهو مطلق الانحناء .
غاية الأمر أنّ له مراتب من حيث القلّة والكثرة وحينئذ فنقول : إنّ ضمّ هذه الرواية إلى الروايات المتقدمة يعطي التفصيل بين الرجل والمرأة ، بمعنى أنّ الرجل مأمور بمقدار من الانحناء ، والمرأة بأقلّ منه ، فما عن جامع المقاصد(3) من التصريح
- (1) المقنعة: 111; مفاتيح الشرائع 1: 141; المهذّب 1: 93; الوسيلة : 95; السرائر 1: 225; مستند الشيعة 5 : 195.
- (2) جواهر الكلام 10: 73 ـ 74 .
- (3) جامع المقاصد 2: 284 .
(الصفحة 238)
بعدم الفرق بين الرجل والمرأة ممّا لا وجه له ظاهراً .
هل يجب الانحناء الحدوثي في الركوع؟
إنّ الركوع هل هو عبارة عن الانحناء بمعناه الحدوثي الذي مرجعه إلى أنّه من حين التلبّس بالانحناء يكون أخذاً في الركوع ، غاية الأمر إنّ صدق عنوانه عليه مراعى شرعاً ببلوغه إلى ذلك الحدّ الخاص ، فهو أمر تدريجي الوجود يتحقّق أولا بمرتبته الضعيفة إلى أن ينتهي إلى ذلك الحد ، أو أنّه عبارة عن المرتبة الخاصة من الانحناء ، وهي المرتبة البالغة ذلك الحدّ الشرعي والهويّ إليه يكون مقدّمة لتحققه كهويّ السجود؟ وجهان ، بل قولان :
حكي الأول عن التذكرة ، والذكرى ، والدروس ، والبيان ، والموجز الحاوي ، وكشف الالتباس،والجعفرية،وعن الشيخ الأنصاري(قدس سره)(1)،وقوّاه صاحب المصباح(2) .
وذهب صاحب الجواهر إلى الثاني ، وهو المحكيّ عن منظومة العلاّمة الطباطبائي حيث قال :
- إذ الهوي فيهما مقدمة
إذ الهوي فيهما مقدمة
-
خارجة لغيرها ملتزمة(3)
خارجة لغيرها ملتزمة(3)
والثمرة بين القولين تظهر فيما لو هوى غافلا لا بقصد الركوع ، أو بقصد غيره من قتل حيّة أو عقرب مثلا ، ثم بدا له الركوع ، فعلى الأول لا يجوز بل يجب أن ينتصب ثم يركع وعلى الثاني يجوز .
وقد استدلّ في المصباح على مذهبه بالفرق بين هويّ الركوع وهويّ السجود ،
- (1) تذكرة الفقهاء 3: 165 مسألة 247; الذكرى 3: 365; الدروس الشرعيّة 1: 176; البيان: 85 ; الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 79; وحكاه عن كشف الإلتباس والجعفريّة في جواهر الكلام 10: 78; كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : 157 .
- (2) مصباح الفقيه، كتاب الصلاة: 325 ـ 327 .
- (3) جواهر الكلام 10: 76 ـ 77; الدرّة النجفيّة: 126 .