(الصفحة 263)
والمقام ، وصريح الرواية الأخيرة هو نفي البأس عمّا إذا كان الارتفاع بمقدار لبنة ، فيجب حمل الأولى على الاستحباب ، كما تدلّ عليه الرواية الثانية ، فظهر من مجموعها عدم جواز الارتفاع الزائد عن مقدار اللبنة .
ويؤيده عدم صدق عنوان السجود فيما إذا كان الارتفاع كثيراً ، والمراد باللبنة هي المعروفة في ذلك الزمان ، وقد قدر بأربع أصابع مضمومة ، ويؤيده اللبن الموجود الآن في أبنية بني عباس في سرّ من رأى ، فإنّها بهذا المقدار تقريباً . هذا في الارتفاع .
وأمّا الانخفاض ، فمقتضى القاعدة عدم البأس به ، لأنّه يوجب مزية الخضوع ، ولكن مقتضى رواية عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام) عدم الجواز ، إذا كان زائداً على قدر آجرة حيث قال : سألته عن المريض أيحلّ له أن يقوم على فراشه ويسجد على الأرض؟ قال: فقال : «إذا كان الفراش غليظاً قدر آجرة أو أقلّ استقام له أن يقوم عليه ويسجد على الأرض، وإن كان أكثر من ذلك فلا»(1) .
ويحتمل أن يكون المراد من الرواية هو كون المصلّي في حال القيام على الفراش ، وفي حال السجود على الأرض بالانتقال من الفراش إليها ، لا أن يكون المراد هو السؤال عن عدم مساواة المقام مع المسجد ، وانخفاض الثاني بالنسبة إلى الأول ، ولكن هذا الاحتمال بعيد جدّاً .
فانقدح أنّه لا يجوز الارتفاع ولا الانخفاض إلاّ بمقدار أربع أصابع مضمومة الذي هو مقدار اللبنة والآجرة ، والظاهر أنّه لم يظهر الفتوى بذلك من الأصحاب في الانخفاض ، بل صرّح العلاّمة في محكيّ النهاية بوجوب تساوي الأسافل والأعالي ، أو انخفاض الأعالي(2) ، بل عن الشهيد في الذكرى ، الفتوى باستحباب
- (1) الكافي 3 : 411 ح13; التهذيب 3 : 307 ح949; الوسائل 6 : 358 . أبواب السجود ب11 ح2 .
- (2) نهاية الأحكام 1: 488; الذكرى 3: 389 .
(الصفحة 264)
انخفاض الأعالي ، لما فيه من زيادة الخضوع(1) .
وحينئذ فالوجه في عدم الفتوى على طبق الرواية الواردة في الانخفاض ، إمّا عدم الاعتماد عليها ، وإمّا استظهار الاحتمال الثاني من الاحتمالين اللذين ذكرناهما ، وكيف كان فالفتوى بتساوي الانخفاض والارتفاع من حيث الحكم ـ وهو عدم الزيادة على اللبنة ـ مشكل ، وإن كان الأحوط ذلك .
ثم إنّ رواية عبدالله بن سنان المتقدمة الدالة على التفصيل في المسألة ، بين قدر اللبنة والزائد عليه ، تدلّ على أنّ الارتفاع بهذا المقدار إنما يلاحظ بالنسبة إلى موضع الجبهة ، وموضع البدن ، والمراد بالأول واضح ، وأمّا الثاني فيجري فيه احتمالات أربعة :
أحدها : أن يكون المراد به هو موضع البدن في حال القيام ، وهو محلّ القدمين ، ضرورة أنّ استقراره في ذلك الحال إنما هو على القدمين ، فموضعه هو المكان الذي اعتمدنا عليه كما لا يخفى .
وحكى هذا الاحتمال في الجواهر عن اُستاذه في كشف الغطاء(2) ، ولكن هذا الاحتمال في غاية البعد ، بل لا يجوز حمل الرواية عليه أصلا ، لأنّ لازمه البطلان في من كان موقفه في حال القيام أخفض من موضع الجبهة بالمقدار الزائد على اللبنة ، ولكن كان موضع الجبهة مساوياً لمواضع الأعظم الستّة في حال السجود ، كما إذا انتقل من موقفه في ذلك الحال إلى مكان مساو لموضع الجبهة لأجل السجود ، ومن الواضح عدم البطلان في هذه الصورة .
ثانيها : الاحتمال الأول بشرط أن لا ينتقل من موقفه في حال القيام إلى مكان
- (1) نهاية الأحكام 1: 488; الذكرى 3: 389 .
- (2) كشف الغطاء: 265; جواهر الكلام 10: 159 .
(الصفحة 265)
آخر . ويبعد هذا الاحتمال أنّ اعتبار عدم كون الارتفاع زائداً على ذلك المقدار إنما هو لمراعاة تحقق السجود ، وحصول الكيفيّة الخاصة الراجعة إلى عدم ثبوت الاختلاف الكثير بين مواضع السجود ، ومن المعلوم أنّ الموقف في حال القيام ممّا لا ربط له بحال السجود ، خصوصاً بعد عدم كونه موضعاً لشيء من الأعظم السبعة .
ضرورة أنّ موضع الابهامين وكذا موضع الركبتين ، إنما هو واقع في طرفي الموقف في حال القيام ، والمحاذي له إنما هو الساق الذي يكون متجافياً عن الأرض في حال السجدة ، ولا يكون له اعتماد عليها كما هو واضح .
ثالثها : أن يكون المراد به هو موضع البدن ، وما استقرّ واعتمد عليه في حال الجلوس للسجود ، ومن المعلوم أنّ البدن في حال الجلوس يكون معتمداً على القدمين والساق والركبتين ، فالمراد بموضعه هو محلّها من الأرض الذي هو مقدار ذراع تقريباً .
وهذا الاحتمال وان كان أقرب من الاحتمال الثاني ، إلاّ أنّه يبعّده ما عرفت من أنّ ملاحظة موضع البدن في حال الجلوس ممّا لا ربط له بحال السجود الذي يصير البدن في ذلك الحال بكيفية اُخرى ، ويتغير مستقرة ومعتمدة كما لايخفى .
رابعها : وهو أظهر الاحتمالات ، أن يكون المراد به هو موضع البدن ومستقرّه في حال السجود ، ومن المعلوم أنّ استقراره في ذلك الحال إنما هو على الأعظم السبعة المعتبر وضعها على الأرض في السجدة ، فمرجع هذا الاحتمال إلى أنّه يلزم أن لا يكون التفاوت بين مواضع السجود بأزيد من مقدار لبنة .
ولكن يقع الكلام في أنّه هل يلزم ملاحظة ذلك بالنسبة إلى جميع مواضع السجود ، بأن لا يكون موضع الجبهة عالياً بذلك المقدار ، لا عن موضع اليدين ، ولا عن موضع الركبتين ، ولا عن موقف الابهامين ، أو يقال: بأنّ المراد بموضع البدن في حال السجود ، هو موضع الركبتين والابهامين فقط ، لأنّ عمدة استقراره
(الصفحة 266)
في ذلك الحال إنما هو عليهما ، إذ لو فرض عدم وضع اليدين لما يضرّ ذلك بتحقق السجود ، ولا بالانحناء المعتبر فيه كما لا يخفى .
ومن هنا يمكن أن يقال : بأنّ المعتبر إنما هو موضع الركبتين فقط ، هذا ، ولكنّ الأحوط هو الوجه الأول ، كما أنّ الأظهر هو الوجه الأخير ، ويمكن أن يستفاد الوجه الأول عمّا حكي من نهاية الأحكام ، من أنّه يجب تساوي الأعالي والأسافل ، أو انخفاض الأعالي(1) ، إذ الظاهر أنّ المراد بالأعالي هو اليدان والجبهة ، وبالأسافل هو الركبتان والابهامان .
وكيف كان ، فلا يخفى أنّه لا معارضة بين هذه الرواية الدالة على اعتبار موضع البدن بالمعنى الذي ذكرنا ، وبين الرواية الاُخرى لعبدالله بن سنان المتقدمة(2) ، التي عبّر فيها بالمقام ، لأنّ الظاهر أنّ المراد بالمقام هو مكان المصلّي وموضعه ، لا موضع القيام ، وقد عرفت أنّ الأظهر بنظر العرف من ملاحظة مكان المصلّي ، هو موضعه في حال السجود ، لعدم ارتباط حال القيام ، وكذا حال الجلوس ، ببتحقق كيفية السجود المعتبرة فيه ، والانحناء الذي هو الغرض منه ، فلاتنافي بين الروايتين .
فرعٌ: لو سجد على موضع مرتفع سهواً
لو سجد فوقعت جبهته على موضع مرتفع بأزيد من مقدار لبنة سهواً ، ففي جواز رفع الرأس ثم وضعه على محلّ يصح السجود عليه ، أو وجوب الجرّ وعدم جواز الرفع ، وجهان بل قولان ، حكي الأول عن المعتبر ، والمنتهى ، وجامع المقاصد ، وكشف اللثام ، والبيان(3) ، وغيرها ، وذهب إليه صاحب الجواهر ،
- (1) نهاية الأحكام 1 : 488 .
- (2) الوسائل 6: 357. أبواب السجود ب10 ح1.
- (3) المعتبر 2: 212; المنتهى 1 : 288; جامع المقاصد 2: 299; كشف اللثام 4: 87 ; البيان: 89 ـ 90.
(الصفحة 267)
واختاره في المصباح(1) . ولكن المحكيّ عن السيد صاحب المدارك هو الثاني(2) .
وحيث إنّ القول بعدم جواز الرفع يمكن أن يكون مستنده لزوم الزيادة في الصلاة المبطلة لها ، فلابدّ لنا من التكلّم في هذه الجهة.
فنقول: ظاهر كلمات الأصحاب وفتاويهم هو الاتّفاق على أنّ زيادة السجدة الواحدة مبطلة للصلاة عمداً ، وزيادة السجدتين مبطلة لها مطلقاً ، عمداً كانت أو سهواً(3) ، وهذا الحكم وإن لم يكن منصوصاً بالخصوص ، إلاّ أنّه يستكشف من ذلك ـ أي من اتفاق الأصحاب ـ وجود نصّ معتبر ، غاية الأمر أنّه لم يصل إلينا .
وحينئذ يقع الكلام في أنّ المراد بالسجدة الزائدة المبطلة للصلاة هل هي السجدة التي كانت واجدة لجميع ما اعتبر فيها ، من طهارة المسجد ، ووقوعها على ما يصح السجود عليه ، وعدم كون موضعها أعلى من سائر المواضع بأزيد من مقدار لبنة ، وغير ذلك من الأمور المعتبرة فيها ، أو أنّ المراد بها هي طبيعة السجدة ولو لم تكن كذلك؟
وبعبارة اُخرى هل المراد بها هي السجدة الشرعية القابلة للوقوع جزءً من الصلاة ، أو طبيعة السجدة ولو لم تكن شرعية بل كانت عرفية؟
لايبعد أن يقال: بأنّ الظاهر هو الوجه الثاني ، لأنّه لو فرض أنّه سجد بعد السجدتين على موضع نجس ، أو على شيء لا يصحّ السجود عليه ، لعدم كونه من الأرض ونباتها ، فالظاهر أنّهم يحكمون ببطلان الصلاة بسببه ، مع أنّها لا تكون سجدة شرعية .
- (1) جواهر الكلام 10: 159; مصباح الفقيه كتاب الصلاة: 345.
- (2) مدارك الأحكام 3 : 408 .
- (3) المبسوط 1: 112; الغنية: 111; المهذّب 1: 153 و 156; المراسم: 89 ; الكافي في الفقه: 119; السرائر 1: 240 ـ 241; جواهر الكلام 10: 127 و 130; مستند الشيعة 5: 231; تذكرة الفقهاء 3: 184 مسألة 256.