(الصفحة 279)
في الوجوب ، مضافاً إلى أنّ كتاب زيد النرسي ممّا لا يجوز الاعتماد عليه ، لأنّه من الكتب التي ظهرت في القرون الأخيرة ولم يعلم صحة انتسابه إلى مؤلّفه .
ومنها : ما رواه الشيخ بإسناده عن عليّ بن الحكم عن رحيم قال : قلت لأبي الحسن الرضا(عليه السلام) : جعلت فداك أراك إذا صلّيت فرفعت رأسك من السجود في الركعة الأولى والثالثة فتستوي جالساً ثم تقوم، فنصنع كما تصنع؟ فقال : «لاتنظروا إلى ما أصنع أنا، إصنعوا ما تؤمرون»(1) .
وقد يحمل هذا الخبر بملاحظة ذيله على التقية ، ولكن لا وجه له بعدما عرفت من كون المسألة بين العامة من الصحابة والتابعين اختلافية ، خصوصاً بعد حكايتهم عن النبي(صلى الله عليه وآله) إنّه كان إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة في الركعة الأولى استوى قاعداً ثم قام، وقوله(عليه السلام) : «إصنعوا ما تؤمرون» يمكن أن يكون الوجه فيه كون الراوي من زمرة العوام ، لعدم ثبوت رواية له في أبواب الفقه ، عدا هذه الرواية ، كما يظهر بملاحظة الأسانيد .
والظاهر باعتبار نقل عليّ بن الحكم عنه ، هو كونه من أهل الكوفة التي كان الشائع فيها في تلك الأعصار هي فتاوى أبي حنيفة ، ومن الواضح أنّ الرجل العامّي يعمل غالباً على طبق ما هو المتعارف بين الناس من الفتاوى ، فأمره(عليه السلام)بمتابعة ما يؤمر به ، إنما هو بملاحظة أنّه لم يشأ الإمام(عليه السلام) أن يترك الرجل سيرته المستمرّة ، ولا يلزم منه اغراء بالجهل ، لعدم كون ذلك واجباً ، فالرواية ربما يستفاد منها الاستحباب بملاحظة الذيل .
وبالجملة : فسؤال الراوي في هذه الرواية يكشف عن كون الجلوس بعد السجدتين أمراً غير معهود عند من يحشر معهم من أهل بلده ، ولكن الظاهر عدم ثبوت السيرة المستمرّة على الترك ، كيف وقد ذهب جمع من الصحابة على ما حكى
- (1) التهذيب 2 : 82 ح304; الاستبصار1 : 328 ح1230; الوسائل 6 : 347 . أبواب السجود ب5 ح6 .
(الصفحة 280)
عنهم في كتاب الخلاف(1) إلى الاستحباب .
كما أنّ الظاهر أنّ ما حكاه مالك بن الحويرث من فعل النبي(صلى الله عليه وآله) (2) ، وأنّه كان إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة في الركعة الأولى استوى قاعداً ثم قام لم يكن على سبيل الاستمرار ، وإلاّ لاستمرّ العمل من المسلمين عليه . وقد عرفت أنّ المحكيّ عن الشيخين في رواية الأصبغ هو أنّهم إذا رفعوا رؤوسهم من السجود نهضوا على صدور أقدامهم ولم يجلسوا .
وكيف كان، فالمسألة كانت مورداً لاختلاف المسلمين ، ولذا صار الرواة بصدد حكاية قول الإمام(عليه السلام) أو فعله ، وقد عرفت أنّ رواية زرارة نصّ في جواز الترك ، ويؤيد الاستحباب أنّه لو كانت جلسة الاستراحة واجبة ، لكان اللازم أن يكون وجوبها ضرورياً ، لعموم الابتلاء بها ، فلا يبعد القول بالاستحباب ، وإن كان الأحوط بملاحظة أهمّية حال الصلاة ، وانّها إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردَّ ما سواها ، هو الإتيان ، فلا ينبغي الترك .
المسألة الثامنة : استحباب إرغام الأنف
يستحبّ إرغام الأنف حال السجود كما هو المشهور(3) ، والمحكيّ عن الصدوق في الفقيه القول بالوجوب(4) ، ويمكن أن يستدلّ له بما رواه الشيخ عن
- (1) الخلاف1 : 361 مسألة 119 .
- (2) صحيح البخاري 1: 218 ب127 ح802 وص224 ب142 ، ح823; سنن النسائي 2: 249 ح1148.
- (3) المقنعة: 105; الخلاف 1: 355; المراسم: 71; الوسيلة: 94; مستند الشيعة 5: 289; جواهر الكلام 10: 174; كشف اللثام 4: 101.
- (4) الفقيه 1: 205; الهداية: 137 .
(الصفحة 281)
أحمد بن محمد، عن محمد بن يحيى، عن عمّار، عن جعفر، عن أبيه قال : قال عليّ(عليه السلام) : «لا تجزي صلاة لا يصيب الأنف ما يصيب الجبين»(1) .
وبما رواه الكليني عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبدالله بن المغيرة، عمّن سمع أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : «لا صلاة لمن لم يصب أنفه ما يصيب جبينه»(2) . هذا ولكن الثانية مرسلة ، والأولى يكون الراوي فيها عامياً على الظاهر ، فلايصحّ الاعتماد على روايته .
ويدلّ على الاستحباب صحيحة زرارة قال : قال أبو جعفر(عليه السلام) : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : «السجود على سبعة أعظم : الجبهة، واليدين، والركبتين، والابهامين من الرجلين، وترغم بأنفك إرغاماً، أمّا الفرض فهذه السبعة، وأمّا الإرغام بالأنف فسنّة من النبي(صلى الله عليه وآله) »(3) .
وما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أبي عبدالله البرقي، عن محمد بن مصادف(4) قال : سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : «إنما السجود على الجبهة وليس على الأنف سجود»(5) . فإنّ الظاهر أنّ المراد بالسنة في الصحيحة ما يقابل الوجوب ، كما تدلّ عليه الرواية الثانية النافية للسجود على الأنف .
- (1) التهذيب 2 : 298 ح1202; الاستبصار1 : 327 ح1223; الوسائل 6 : 344 . أبواب السجود ب4 ح4 .
- (2) الكافي 3: 333 ح2، الوسائل 6: 345. أبواب السجود ب4 ح7.
- (3) التهذيب 2 : 299 ح1204 ; الاستبصار1 : 327 ح1224; الخصال: 349; الوسائل 6 : 343 . أبواب السجود ب4 ح2.
- (4) الظاهر أنّ الصواب محمد بن مضارب ، فإنّه هو الذي يروي عن الصادق(عليه السلام)، وأمّا محمد بن مصادف فلم يوجد في الرواة ، نعم يوجد فيهم مصادف الذي كان مولى الصادق(عليه السلام) ، وقد روي عنه كثيراً . هذا ، ولكن سند الرواية غير خال عن الإرسال ظاهراً ، لأنّ أبا عبدالله البرقي من الطبقة السابعة ، وأصحاب الصادق(عليه السلام)من الطبقة الخامسة ، فكان بينهما واسطة من الطبقة السادسة (منه) .
- (5) التهذيب 2 : 298 ح 1200; الإستبصار 1 : 326 ح1220; الوسائل 6 : 343 . أبواب السجود ب4 ح1 .
(الصفحة 282)
وتوهّم إنّه لا منافاة بينهما ، بتقريب أنّ ظاهر قوله : «وترغم بأنفك إرغاماً» هو الوجوب ، وعليه فالمراد من السنة هي ما ثبت وجوبها بقول النبي(صلى الله عليه وآله) ، أو فعله ، مقابل الفرض الذي هو عبارة عمّا ثبت وجوبه بالكتاب ، وأمّا قوله : «ليس على الأنف سجود» فظاهره نفي وجوب السجود على الأنف ، وهو لا ينافي كون الارغام واجباً مستقلاً غير مرتبط بالسجود .
مندفع بأنّ ظاهر الصحيحة أنّ الفرق بين الأنف وسائر الأعظم السبعة هو شيء واحد ، وهو كونها فرضاً وهو سنّة ، ولو كان المراد من السنة هو ما ذكر ، يلزم ثبوت الفرق بينهما من وجهين كما هو واضح ، فالظاهر أنّ المراد بالسنة هو الاستحباب مقابل الوجوب ، ويدلّ عليه مضافاً إلى ما عرفت أنّه لو كان الارغام واجباً في الصلاة ، أو في السجود ، لكان اللازم مع عموم الابتلاء به لكلّ أحد ، أن يكون وجوبه ضرورياً فضلا عن أن تكون السيرة على خلافه ، والشهرة الفتوائية أيضاً قائمة على الخلاف ، فالأقوى ما ذهب إليه المشهور .
ثم إنّ ظاهر الأخبار يقتضي حصول الاستحباب بإصابة أيّ جزء من الأنف ، ولكن المحكيّ عن المرتضى في جمل العلم والعمل; اعتبار إصابة الطرف الأعلى الذي يلي الحاجبين(1) ، وعن ابن الجنيد أنّه قال : يماسّ الأرض بطرف الأنف وخديه(2) ، وقد عرفت أنّ الظاهر هو الإطلاق .
ثم إنّ الارغام عبارة عن إلصاق الأنف بالرغام وهو التراب ، فمقتضى الجمود على هذا الظهور ، أن يكون المعتبر في السنّة هو وضع الأنف على التراب فقط ، ولكن الظاهر كفاية مطلق الأرض ، بل مطلق ما يصح السجود عليه ، كما يدلّ على
- (1) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) 3 : 32 .
- (2) الحدائق 8 : 297 .
(الصفحة 283)
ذلك ما ورد في مرسلة ابن المغيرة ورواية عمّار المتقدمتين(1) ، ممّا ظاهره كفاية ما يكفي في وضع الجبهة عليه ، والتعبير بالارغام إنما هو بملاحظة أنّ الغالب فيما يسجد عليه هو التراب كما لا يخفى .
وحينئذ فيظهر أنّ السجود على الأنف والارغام به ليسا أمرين ، خلافاً لما حكي عن بعض من التغاير بينهما(2) ، نظراً إلى اعتبار الوضع على التراب في تحقق الارغام ، ولو كان سجوداً لكان يكفي فيه كلّ ما يصحّ السجود عليه فتدبّر .
ثم إنّ العامة أيضاً اختلفوا في وجوب الارغام وعدمه(3) ، ولكنّ الظاهر أنّ الوجه في ذلك هو أنّ الواجب عندهم هي السجدة على الوجه لا الجبهة ، فوقع الاختلاف بينهم في أنّ الواجب من السجدة على الوجه هي السجدة على الجبهة ، أو على الأنف ، أو على كليهما معاً ، أو أنّه يتخيّر المصلّي بينهما ، وأمّا النزاع بين الإمامية ، فهو بعد الفراغ عن وجوب السجدة على الجبهة تعييناً كما هو واضح .
- (1) الوسائل 6: 344 ـ 345. أبواب السجود ب4 ح4 و 7 .
- (2) كتاب الأربعين للشيخ البهائي(رحمه الله): 167.
- (3) المجموع 3: 425; المغني لابن قدامة 1: 592; الشرح الكبير 1: 592; تذكرة الفقهاء 3: 188.