(الصفحة 309)
لحقيقة الصلاة ، جعل محلّلا لها، فلا منافاة بين توقّف التحلّل عليه، وبين كونه خارجاً عن حقيقة الصلاة، ولا يخفى أنّ الرواية أيضاً غير خالية عن الاضطراب وسوء التعبير ، من حيث التعبير بكلمة الانقطاع وغيرها .
ثم إنّ هنا رواية اُخرى ، وهي رواية أبي بكر الحضرمي قال : قلت له : إنّي اُصلّي بقوم، فقال : سلّم واحدة ولا تلتفت . قل : السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم»(1) . ولا يخفى أنّ السؤال في غاية الاجمال ، ولا يعلم المراد منه إلاّ بقرينة الجواب .
فالمقصود منه هو السؤال عن تسليم الإمام الذي يصلّي بقوم ، فأجابه(عليه السلام)بقوله : سلّم واحدة ، وظاهره أنّه تجب تسليمة واحدة ، خلافاً لمن يقول من العامة بوجوب تسليمتين(2) ، كما أنّ المراد بقوله : «لا تلتفت» هو النهي عن الالتفات إلى اليمين واليسار ، كما يقولون به أيضاً(3) ، والتعرّض لكيفية التسليم في الذيل قرينة على أنّ مراد السائل هو السؤال عن التسليم كمّاً وكيفاً .
وكيف كان ، فالرواية تدلّ بظاهرها على أنّ السلام إنما هو قول السلام عليك . . . ، والسلام عليكم ، ولكن قد عرفت أنّ السلام على النبي(صلى الله عليه وآله) لا يكون سلاماً ولا جزءً له ، فهذه الرواية أيضاً لا تطابق الفتاوى .
وقد ظهر لك سابقاً أنّ صيغة التسليم عند العامة كانت منحصرة في الصيغة الأخيرة ، وأمّا الصيغتان الأوليان فقد كانتا عندهم من تحيات التشهد ، وكانوا يقولون باستحبابهما قبل الشهادتين ، نعم ذهب الشافعي إلى وجوبهما قبلهما(4) ،
- (1) التهذيب 3 : 48 ح168; الوسائل 6 : 421. أبواب التسليم ب2 ح9 .
- (2) المجموع 3: 482; تذكرة الفقهاء 3: 244 مسألة 300.
- (3) المغني لابن قدامة 1: 624; الشرح الكبير 1: 624; المجموع 3: 482.
- (4) راجع 2 : 286 .
(الصفحة 310)
ولم يكن فرق عندهم في ذلك بين التشهد الأول والأخير .
وحينئذ فيظهر أنّ المقصود من الأخبار المتقدمة هو الردّ عليهم ، بأنّ السلام علينا . . . ، يوجب الانصراف في التشهد الأول ، وكذا في التشهد الأخير إذا وقع قبل الشهادتين ، كما كان ذلك مستمرّاً بينهم ، فلا يكون المقصود منها كونه أيضاً تسليماً محلّلا ، إذا وقع في آخر الصلاة .
ومقتضى الاحتياط في المقام هو العمل بما دلّ عليه خبر أبي بكر الحضرمي ، من الجمع بين السلام على النبي وبين السلام عليكم ، ولو فصّل بينهما بالسلام علينا . . . ، جاز ، ولكن الأخذ بالاحتياط يقتضي خلافه .
الجهة الثالثة : حكم التسليم من حيث الوجوب والاستحباب
إعلم أنّ ذلك كان محلّ الخلاف بين العامة ، فذهب الشافعي إلى أنّه ركن ، ولايخرج من الصلاة إلاّ به ، ووافقه على ذلك الثوري ، وقال أبو حنيفة : الذي يخرج به من الصلاة أمر غير معيّن ، لأنّه يخرج به منها بأمر يحدثه ، وهو ما ينافيها من سلام ، أو كلام ، أو حدث من ريح ، أو بول ، ولكنّ السنّة أن يسلّم ، لأنّ النبي(صلى الله عليه وآله) كان يخرج به منها(1) .
وأمّا عند أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم ، فالمسألة أيضاً محلّ خلاف ، فالمحكيّ عن السيد المرتضى في المسائل الناصرية ، وفي المسائل المحمدية ، القول بوجوب التسليم ، يعني السلام عليكم ، وبه قال أبو الصلاح ، وسلاّر ، وابن أبي
- (1) المجموع 3: 481; المحلّى 3: 277; المغني لابن قدامة 1: 551; الخلاف 1: 376 مسألة 134; المعتبر 2: 233; المنتهى 1: 295 ـ 296.
(الصفحة 311)
عقيل ، وابن زهرة(1) ، وعن الشيخ في التهذيب ، والاستبصار ، والمبسوط ، والمفيد في بعض كلماته ، القول باستحبابه(2) ، مع سبق السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وصرّح العلاّمة في التذكرة والمختلف ، بعدم وجوب التسليم مطلقاً(3) ، ولم نجد مصرّحاً بذلك غيره ، واستدلّ عليه فيهما بأمور :
الأول : أصالة براءة الذمة عن الوجوب ، ولا يخفى أنّه لا مجال للتشبّث بالأصل ، فيما ثبت استقرار عمل النبي(صلى الله عليه وآله) على الإتيان به في الصلاة ، كما نبّهنا على ذلك مراراً ، لأنّ رفع اليد عن مثل ذلك تمسّكاً بقبح العقاب من غير بيان ممّا لا وجه له ، بعد كون عمله(صلى الله عليه وآله) بياناً واضحاً ، خصوصاً مع قوله(صلى الله عليه وآله) : «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي»(4) ، على ما رواه الجمهور .
وبالجملة : لو ثبت استقرار عمل النبي(صلى الله عليه وآله) على شيء كما في المقام ، مع عدم الدليل على الاستحباب ، لا يجوز نفي وجوبه بالأصل ، إذ لا يحكم العقل بذلك أصلا .
الثاني : إنّ النبي(صلى الله عليه وآله) لم يعلّم الأعرابيّ التسليم(5) ، ولو كان واجباً لبيّنه ، لأنّه لايجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .
هذا ، ولا يخفى أنّ الأعرابيّ لم يكن جاهلا بكيفيّة الصلاة رأساً حتى كان محتاجاً إلى بيانها عليه ، بل الظاهر أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) علّمه منها ما لم يكن يعلّمه ، فلعلّه كان عالماً بوجوب التسليم ، فلم يعلّمه النبي(صلى الله عليه وآله) لذلك .
- (1) المسائل الناصريات: 209; ونقله عن المحمدية وابن أبي عقيل في مختلف الشيعة 2: 174; الكافي في الفقه: 119; المراسم : 69; الغنية: 81 .
- (2) التهذيب 2: 320 ح1306; الإستبصار 1: 346; المبسوط 1: 115 ـ 116; المقنعة: 139.
- (3) تذكرة الفقهاء 3: 243 مسألة 299; مختلف الشيعة 2: 175 .
- (4) سنن البيهقي 2: 345 .
- (5) صحيح البخاري 1 : 216 باب 122 ، ح793; سنن البيهقي 2 : 372 .
(الصفحة 312)
الثالث : قوله(عليه السلام) «إنما صلاتنا هذه تكبير وقراءة وركوع وسجود» ولم يذكر التسليم ، ولو كان واجباً لكان داخلا في الصلاة ، ولأنّ المأمور به إنما هو الصلاة ، فالإتيان بمسمّاها يخرج المكلّف عن العهدة(1) .
وفيه : أنّ التسليم على ما عرفت عبارة عمّا يكون منافياً لحقيقة الصلاة ، غاية الأمر أنّه جعل محلّلا كالحلق والتقصير في الاحرام وحينئذ فلا منافاة بين أن لايكون من سنخ الصلاة التي حقيقتها الخضوع والخشوع في مقابل المعبود جلّ شأنه ، وبين أن يكون واجباً ومخرجاً عنها كما هو واضح .
الرابع : إنّ أحد التسليمين ليس بواجب ، فكذا الآخر . وفساد هذا الدليل على طريقة الإمامية واضح .
الخامس : إنّه لو وجب التسليم لبطلت الصلاة بتخلّل الحدث الناقض للطهارة بين الصلاة على النبي وآله وبينه ، والتالي باطل فالمقدّم مثله ، أمّا الشرطية فظاهرة ، لأنّ الحدث إذا وقع في الصلاة أبطلها إجماعاً ، وأمّا بطلان التالي فللرواية(2) .
أقول : ما يدلّ على عدم بطلان الصلاة بتخلّل الحدث ووقوعه قبل التسليم روايتان :
الأولى : ما رواه أبان بن عثمان، عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : سألته عن الرجل يصلّي ثم يجلس فيحدث قبل أن يسلّم؟ قال : «تمّت صلاته»(3) .
الثانية : ما رواه عمر بن اُذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) في الرجل يحدث بعد أن يرفع رأسه في السجدة الأخيرة وقبل أن يتشهد. قال : ينصرف فليتوضّأ فإن شاء رجع إلى المسجد وإن شاء ففي بيته وإن شاء حيث شاء قعد فيتشهد ثم
- (1 و 2) مختلف الشيعة 2 : 175 ; عوالي اللآلي1 : 421 ح97 .
- (3) التهذيب 2 : 320 ح1306; الاستبصار1 : 345 ح1301; الوسائل 6 : 424. أبواب التسليم ب3 ح2 .
(الصفحة 313)
يسلّم، وإن كان الحدث بعد الشهادتين فقد مضت صلاته» . ورواه في الكافي باسناده عن عمر بن اُذينة مثله، إلاّ أنّه قال : «وإن كان الحدث بعد التشهد»(1) .
هذا ، ولا يخفى أنّ المراد بالتسليم الذي أحدث الرجل قبله ـ كما في الرواية الأولى ـ هو «السلام عليكم» ، لأنّه الظاهر من اطلاقه ، خصوصاً بملاحظة ما عرفت منّا من تعيّنه له ، وأنّ الصيغة الثانية كالصيغة الأولى من تحيّات التشهد ، وحينئذ فلا يستفاد من الرواية استحباب السلام مطلقاً ، كما هو مراد المستدلّ ، وكذا الرواية الثانية ، فإنّها أيضاً لا تدلّ على ذلك ، إذ لم يحرز كون الصادر هو كلمة بعد الشهادتين ، حتّى تدلّ على عدم كون وقوع الحدث قبل التسليم مطلقاً مضرّاً بصحة الصلاة ، بل يحتمل أن يكون الصادر هو كلمة «بعد التشهد» ، كما في الطريق الآخر .
وحينئذ يكون المراد وقوع الحدث قبل الصيغة الأخيرة ، لأنّ غيرها من تحيّات التشهد ، كما كان المعروف بينهم ، فلا دلالة لها أيضاً على استحباب التسليم مطلقاً .
ويمكن أن يجاب عمّا ذكرنا: بأنّ صيغة السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا تخلو من أحد أمرين : إمّا أن تكون من تحيات التشهد وآدابه ، ولا تكون محللة ومخرجة ، وإمّا أن تكون إحدى صيغتي التسليم ، كصيغة «السلام عليكم» ، فعلى الأول يصحّ ما ذكره العلاّمة من استحباب التسليم مطلقاً ، لأنّ «السلام عليكم» يستفاد استحبابه من الرواية الدالة على عدم كون الحدث بعد التشهد وقبل التسليم مضراً بصحة الصلاة ، وأمّا صيغة «السلام علينا» ، فالمفروض إنّه من تحيات التشهد وآدابه ، ومنه يظهر صحة ما ذكره العلاّمة بناءً على الوجه الثاني أيضاً ، فإنّ
- (1) التهذيب 2: 318 ح1301; الاستبصار 1: 402 ح1535; الكافي 3 : 347 ح2; الوسائل 6: 410. أبواب التشهد ب13 ح1.