(الصفحة 319)
ومن أنّ بطلان الصلاة ليس من جهة ترك التسليم ، بل من جهة الاتيان بالمنافي في أثناء الصلاة ، والمفروض كونه منافياً مطلقاً ولو صدر سهواً .
هذا ، ولا يخفى أنّ وقوعه في أثناء الصلاة متوقّف على عدم سقوط السلام عن الجزئية ، وإلاّ فالمنافي قد وقع بعد الصلاة ، لا في أثنائها ، فالاستدلال لعدم السقوط بوقوع المنافي في الأثناء إنما يصير على وجه دائر .
والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ للمسألة صورتين :
الصورة الأولى : ما إذا سهى عن التسليم ، واستمرّ سهوه إلى أن فات بسببه الموالاة ، بحيث لا يمكن إلحاق السلام الذي هو الجزء الآخر للصلاة بباقي الأجزاء ، فعدم صلاحية اللحوق بها ليس لوقوع مثل الحدث بينه وبينها ، بل لأجل فوات الموالات المعتبرة عرفاً في الصلاة بالنسبة إلى أجزائها .
الصورة الثانية : ما إذا سهى عن التسليم ، وأتى بشيء من المنافيات كالاستدبار ونحوه ، بحيث لا يمكن إلحاق السلام بباقي الأجزاء ، لوقوع المنافي بينهما لا لفوات الموالات .
ففي الصورة الأولى: لاينبغي الإشكال في صحة الصلاة وعدم وجوب إعادتها، لأنّ المفروض أنّ ما صار سبباً لعدم إمكان إلحاق السلام بباقي الأجزاء ، هو السهو عن التسليم فقط ، لا هو مع أمر آخر ، وحديث «لا تعاد» يدلّ على عدم وجوب الإعادة ، من جهة الاخلال بشيء من أجزاء الصلاة ، أو شرائطها ، غير الخمسة المذكورة فيه ، إذا كان ذلك سهواً ، فيدلّ على عدم وجوب الإعادة في المقام.
وأمّا الصورة الثانية: فيشكل الحكم بالصحة فيها ، لأنّ الاخلال بالتسليم لم يكن مسبّباً عن السهو عنه فقط ، بل عنه وعن الإتيان بالمنافي ، لأنّه صار سبباً لعدم إمكان لحوقه بباقي الأجزاء ، وإلاّ فلو فرض عدم كونه منافياً لم يكن هنا ما يمنع عن لحوقه واتصافه بجزئيته للصلاة ، لعدم استمرار سهوه إلى حدّ فوت
(الصفحة 320)
الموالات كما هو المفروض .
وحينئذ فليس هنا ما يدلّ على سقوط التسليم عن الجزئية حتّى يقال بأنّ مقتضاه وقوع المنافي بعد الصلاة ، لا في أثنائها ، فالظاهر البطلان ووجوب الإعادة .
ثم إنّه قد يقال في وجه البطلان في هذه الصورة : إنّه لا إشكال في أنّ جزئيّة السلام إنما ترتفع بعد فعل المنافي ، إذ قبل وقوعه يجب عليه التسليم قطعاً ، ولازم ذلك وقوع المنافي في أثناء الصلاة ، فتبطل الصلاة من جهته ، لأنّ المفروض إنّه مناف مطلقاً عمداً وسهواً .
وأجاب عنه بعض الأعاظم من المعاصرين في كتاب صلاته بما هذا لفظه :
لا معنى لإسقاط الجزئية بعد عدم إمكان التدارك ، نعم يمكن العفو والاغماض ، وتقبل الناقص مكان التام ، ولو فرضنا أنّ مقتضى قولهم : «لا تعاد» ، جعل المركب الناقص في حق الساهي كما هو الظاهر منه ، وفرغنا عن إمكان ذلك عقلا ، كما قرّر في الاُصول ، فاللاّزم أنّ الجزئية تكون ساقطة في حق من يسهو عنه ، ويستمرّ سهوه في علم الله تعالى إلى مضيّ محلّ التدارك ، فوقوع الحدث بعد سهوه عن التسليم كاشف عن عدم كونه جزءً من أوّل الأمر .
نعم لو قلنا بعدم إمكان تخصيص الساهي بتكليف ، وحملنا قولهم(عليهم السلام) : «لاتعاد» على العفو عمّا هو عليه ، يمكن أن يقال : إنّ العفو إنما ثبت هنا من حيث ترك التسليم ، وأمّا من حيث وقوع المنافي المطلق في الأثناء فلا يدلّ على العفو ، ولعل هذا هو منشأ الاحتياط بل الفتوى لسيّد مشايخنا الميرزا الشيرازي(قدس سره) في حاشية نجاة العباد(1)، انتهى موضع الحاجة .
وأنت خبير بأنّ السهو المقارن لإيقاع المنافي والسهو غير المقارن له ، لا
- (1) نجاة العباد (مع تعليقة المجدّد الشيرازي): 150; كتاب الصلاة للمحقّق الحائري(رحمه الله) : 283 .
(الصفحة 321)
يكونان فردين من السهو ، لأنّ حيثية المقارنة لوقوعه أمر لا يرتبط بحقيقة السهو أصلا ، فلو فرض أنّ شخصاً سهى عن التسليم في مدّة قليلة ، بحيث لم يفت الموالات ، ولم يأت بشيء من المنافيات ، وشخصاً آخر سهى عنه في هذه المدة ، غاية الأمر أنّه أحدث ، لم يكن بينهما فرق من حيث السهو عن التسليم في مدّة قليلة غير مانعة عن صلاحيّة لحوق التسليم بسائر الأجزاء ، حتّى يلتئم الكلّ ، فدعوى شمول الحديث للشخص الثاني دون الأول تحكّم صرف ، لعدم الفرق بينهما من الحيثية الراجعة إلى ترك التسليم في مدّة قليلة أصلا ، والمفروض أنّ الحدث المانع عن التدارك مبطل مطلقاً ولو سهواً ، فلا وجه لصحة صلاة الثاني ، فالتحقيق في المسألة ما ذكرناه من الفرق بين الصورتين .
ومجمل الكلام في بيانه: أنّ بطلان الصلاة من جهة ترك التسليم إنما هو فيما لو ترك في المحلّ الذي لو أتى به في ذلك المحلّ لكان قابلا للحوقه بسائر الأجزاء ، واتصافه بوصف الجزئية للصلاة ، ومفاد حديث «لا تعاد» أنّ تركه في ذلك المحلّ لو كان مسبّباً عن سهو وذهول ، لما كان ذلك مضرّاً بصحة الصلاة .
وحينئذ فنقول : إنّ تركه سهواً ـ في المحلّ الذي لو أتى به فيه ، لكان قابلا لوقوعه جزءً من الصلاة ـ إنما يتحقق باستمرار السهو في جميع تلك المدّة ، ضرورة أنّ السهو في آن واحد لا يوجب تركه في محلّه ، ولذا لا إشكال في وجوبه لو سهى عنه ، وتذكّر قبل فوت الموالات ، وقبل الإتيان بالمنافي ، ولا إشكال في أنّ استمرار السهو إنما هو في الصورة الأولى دون الثانية .
ضرورة أنّه لم يقع السهو عن التسليم فيها إلاّ في مدّة قليلة غير مانعة عن لحوق التسليم بسائر الأجزاء ، لو لم يتفق فعل المنافي بينهما ، فلم يكن ترك التسليم في محلّه مستنداً إلى السهو عنه ، بل إلى المنافي الذي يكون مبطلا مطلقاً ، كما هو المفروض في المسألة، فتدبّر جيّداً .
(الصفحة 322)
الفرع الثاني : اعتبار نيّة الخروج من الصّلاة بالسلام
هل تعتبر نية الخروج بالسلام المخرج أم لا؟ قولان . قال في الذكرى في وجه الوجوب : إنّ نظم السلام يناقض الصلاة في وضعه من حيث هو خطاب للآدميّين ، ومن ثم تبطل الصلاة بفعله في أثنائها عمداً ، وإذا لم تقترن به نية تصرفه إلى التحليل كان مناقضاً للصلاة مبطلا لها(1) . انتهى .
ويرد على هذا الوجه أنّ كونه مناقضاً للصلاة مبطلا لها ، إنما هو لو وقع في الأثناء ، وأمّا لو وقع في موقعه وهو آخر الصلاة ، فلا وجه لأن يكون مناقضاً لها ومبطلا ، بل قد عرفت فيما سبق أنّ جعله محلّلا إنما هو لعدم كونه من سنخ أجزاء الصلاة ، وحينئذ فمع وقوعه في محلّه يكون محلّلا بحكم الشارع ، من دون احتياج إلى قصد المصلّي .
وأضعف من هذا الوجه ، ما حكي عن غاية المراد(2) ، من أنّ التسليم عمل يخرج من الصلاة ، فيجب له النية ، لعموم «إنما الأعمال بالنيات» ، فإنّ احتياج التسليم إلى النية ممّا لا إشكال فيه ، إنما الكلام في الاحتياج إلى نية الخروج ، وهو لا يثبت بالدليل بعد وضوح أنّه ليس هنا عمل إلاّ التسليم ، لا كونه مخرجاً كما هو ظاهر .
وقد استدلّ(3) للقول بعدم الوجوب ـ مضافاً إلى الأصل ـ بإطلاق الأدلة السابقة ، وخصوص روايتي العيون والخصال المصرّحتين ببطلان الصلاة ، بإتيان
- (1) الذكرى 3: 438 .
- (2) غاية المراد 1 : 160 ، وقد ذكر الوجهين للوجوب وعدمه ، ثمّ قال : عدم الوجوب هو الأقرب .
- (3) المستدلّ هو المحقّق الحائري(رحمه الله) : 286 .
(الصفحة 323)
الصيغة الثانية في التشهد(1) ، كما يصنعه العامة ، معلّلا بأنّ تحليل الصلاة التسليم ، فإذا قلت هذا فقد سلّمت ، مع أنّ العامة لا يقصدون به الخروج ، فيدلّ ذلك على أنّ الخروج إنما هو من أحكام نفس السلام .
ولا يخفى أنّ التمسّك بالأصل لا مجال له ، لو قيل : بأنّ نية الخروج ملازمة عادة للإتيان بصيغة «السلام» ، بعد ملاحظة أنّه مخرج من الصلاة ، ومنه يظهر الخلل في التمسّك بالإطلاق لنفي الوجوب ، وأمّا الروايتان فغاية مدلولهما بطلان الصلاة ، لو وقعت الصيغة الثانية في الأثناء .
ومن الواضح أنّ بطلانها إنما هو لأجل وقوع كلام الآدمي في أثنائها ، وهو لا يحتاج إلى نية الخروج ، ضرورة أنّ الصلاة تبطل بذلك على أيّ تقدير ، كما أنّه لو وقعت الصيغة الأخيرة في الأثناء تبطل به مطلقاً ، فلا يستفاد منهما عدم اعتبار نية الخروج في محلّليّة ا لسلام ، فمن الممكن احتياجه إليها . هذا ، ولكنّ الظاهر عدم وجوب نية الخروج ، لكون المسألة عام البلوى ، فلو كانت واجبة لتواتر ذلك ، ولم تكن المسألة مورداً للشكّ أصلا .
ثم إنّه بناءً على ما ذكرنا من أنّ السلام المحلّل المخرج إنما هي صيغة «السلام عليكم » يجب أن ينوى بها الخروج ، بناءً على لزوم نيته ، ولا يجوز أن ينوي الخروج بصيغة السلام علينا ، ومنه يظهر أنّ مراعاة الاحتياط على المذهب المختار تقتضي الإتيان بالصيغة الثانية رجاءً ، ثم الإتيان بالصيغة الأخيرة مع نية الخروج .
وأمّا بناءً على القول بالتخيير ، فلا يمكن الاحتياط أصلا ، لأنّه إمّا أن ينوي الخروج بصيغة السلام علينا ، أو لا ينوي بها ، بل ينوي بالصيغة الأخيرة ، فعلى الأول خالف القول بتعيّن الأخيرة للتسليم ، كما أنّه على الثاني تكون الصيغة الثانية زيادة مبطلة ، لأنّه لم ينو بها الخروج مع اعتبار نيته في حصول التحلّل ، وتحقق
- (1) عيون أخبارالرضا (عليه السلام)
- 2: 123; الخصال: 604; الوسائل 6: 410. أبواب التشهد ب12 ح3 وج 7: 286 ح2.