(الصفحة 358)
لأجل اشتماله على الصوت، ففي الحقيقة كلام الخليل يكون تعليلاً لوجود مصدرين مختلفين.
وكيف كان، فلو قلنا بأنّ الأصل في الاشتقاق هو المصدر، فإمّا أن يقال: بأنّ المشتقّات كلّها مشتقّة من أحد المصدرين دون الآخر، وإمّا أن يقال: باشتقاق كلّها من المصدرين، فعلى الأوّل يحتاج إلى دليل معيّن لذلك، مع أنّ من الواضح عدم وجوده، وعلى الثاني يلزم الاشتراك بحسب اللفظ، بناءً على تباين المصدرين بحسب المعنى، كما عرفت من الجوهري.
وحينئذ فقولنا: بكى يبكي محتمل لكلّ من المعنيين، فلابدّ من وجود قرينة على إرادة كلّ منهما نظير باب المشترك، وإن كان بين المقام وباب المشترك فرق، من جهة أنّ اللفظ هناك واحد والمعنى متعدّد لأجل الأوضاع المتعدّدة، وأمّا هنا فالمفروض أنّ اللفظ متعدّد كالمعنى، ومن هنا يظهر أنّ الاحتياج إلى القرينة هناك إنّما هو لتعيين المستعمل فيه وهنا لتعيين المستعمل، وأنّ لفظ «بكى» مثلاً هل يكون مأخوذاً من المصدر المقصور أو الممدود، فيحتاج إلى قرينة معيّنة، وحينئذ فهل المخصّص والمعيّن قصد المتكلّم، وإرادته كون لفظ «بكى» المستعمل مأخوذاً من المقصور أو الممدود أو غيره؟ أمّا الأوّل فليس كذلك، وأمّا الثاني فليس بثابت، وحينئذ فلابدّ من القول بوحدة المشتقّات من حيث المعنى، ومن وحدتها يستكشف وحدة المشتقّ منه، كما عليه الخليل.
نعم، لو قلنا: بأنّ الأصل في الاشتقاق هو الفعل، فيمكن القول بمقالة الجوهري، نظراً إلى أنّ الفعل وإن كان واحداً من حيث اللفظ والمعنى إلاّ أنّه اشتقّ منه مصدران مختلفان من حيث المعنى، وكذا يمكن الالتزام بذلك لو قلنا: بأنّ الأصل في الاشتقاق هي طبيعة (ب ك ى) لا الفعل ولا المصدر.
وكيف كان، فما ذكره الجوهري غير ثابت، مع انّه على الظاهر أخذ ذلك من
(الصفحة 359)
الخليل، وقد عرفت عدم دلالة كلامه عليه.
ويؤيّد ما ذكرنا أنّه ورد في الحديث: «ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا»(1) فإنّ الظاهر أنّ البكاء فيه بمعنى خروج الدمع، وإلاّ فلو كان البكاء الممدود عبارة عن خروج الدمع مع الصوت فالتباكي حاصل قهراً، ويؤيّده أيضاً إسناد البكاء في كلمات العرب نثراً ونظماً إلى العين، ولو كان البكاء الممدود عبارة عمّا فيه الصوت، لكان الأنسب إسناده إلى الفم لأجل الصوت، لا إلى العين لأجل خروج الدمع.
ومنه ينقدح أنّ الأظهر بعد عدم ثبوت ما ذكره الجوهري من الفرق بين الممدود والمقصور. هو كون البكاء مطلقاً بمعنى خروج الدمع فقط الناشئ عن الحزن الحاصل للقلب من غير اعتبار الصوت فيه أصلاً، لما عرفت من الإسناد إلى العين، ومن الحديث الآمر بالتباكي إذا لم يجد البكاء، وبعض الروايات الواردة في أنّ البكّائين خمسة كما عن الخصال(2); وفي أنّ اليتيم إذا بكى اهتزّ له العرش(3).
وما في البحار في قضية فوت إبراهيم بن النبي(صلى الله عليه وآله) وأنّه لمّا مات بكى النبي(صلى الله عليه وآله) (4)، لا يدلّ على أنّ المراد بالبكاء ما هو المشتمل على الصوت كما في مورد الروايات المزبورة، لأنّ خصوصية المورد في كلّ منها قد اقتضت ذلك، وامّا معنى البكاء من حيث هو فليس إلاّ خروج الدمع فقط. قارنه الصوت أم لا. هذا كلّه فيما يتعلّق بمفهوم البكاء.
وأمّا حكمه إذا وقع في الصلاة فحكى في مفتاح الكرامة عن جمع من المحقّقين كالأردبيلي والخراساني والسيّد في المدارك، التوقّف في مبطلية البكاء للصلاة(5).
- (1) سنن ابن ماجة 2: 1403 ح4196; بحار الانوار 89 : 191 ح 2.
- (2) الخصال : 272. باب الخمسة ح15.
- (3) بحار الانوار 72 : 5 ح 12 نقلا عن ثواب الاعمال : 237 ح1.
- (4) بحار الانوار 22 : 157 ح16; وفيه: «ثمّ قال النبي
(صلى الله عليه وآله)
- : تدمع العين ويحزن القلب».
- (5) مجمع الفائدة والبرهان 3: 73 ـ 74; ذخيرة المعاد: 357; مدارك الأحكام 3: 466.
(الصفحة 360)
ونقل عن الذكرى والمفاتيح أنّه إنّما يكون مبطلاً إذا كان من الفعل الكثير(1)، فيرجع إلى عدم مبطليّة البكاء بما هو هو، وعن الموجز الحاوي وحاشية الإرشاد وكشف اللثام والميسية، أنّ المبطل ما اشتمل على النحيب، وإن خفي لاُفيض الدمع بلا صوت(2).
وعن إرشاد الجعفرية، وفوائد الشرائع، والروض، والروضة، والمقاصد العلية، والمدارك، أنّ المبطل منه ما اشتمل على صوت لا مجرّد خروج الدمع(3); وجعله في الحدائق مشهوراً استناداً إلى هؤلاء الأعاظم(4)، وعن الروض والروضة والمقاصد، احتمال الاكتفاء في الإبطال بخروج الدمع، لاحتمال القصر في البكاء الوارد في النصوص، وعن المسالك فيه نظر(5)،(6) انتهى. ولعلّ وجه النظر التأمّل في الفرق بين المقصور والممدود، أو اشتراك الفعل الواقع في الجواب; وكلام المفتاح ظاهر في أنّ الباقين لم يتعرّضوا للتفصيل وحينئذ فالإطلاق والتقييد من الفقهاء يبتني على اعتقادهم في معنى البكاء، فلو ثبت أنّ معتقدهم في البكاء كان مطلق خروج الدمع، تثبت الشهرة بالنسبة إليه، ولكن ذلك غير معلوم.
وقال المحقّق البهبهاني في حاشية المدارك: أنّ القدماء لو كان نظرهم ـ مثل الجوهري ـ التفصيل بين المقصور والممدود كان عليهم التعرّض، فعدم تعرّضهم يكشف عن عدم اعتقادهم ذلك. وهذا الكلام ـ بضميمة ما عرفت منّا من ضعف القول بالتفصيل وأنّ اسناد البكاء إلى العين يدلّ على كون المراد به هو خروج
- (1) الذكرى 4 : 10; مفاتيح الشرائع 1: 173 .
- (2) كشف اللثام 4 : 178; الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 85 .
- (3) الروضة البهيّة 1 : 233; روض الجنان : 333; مدارك الأحكام 3: 466.
- (4) الحدائق 9 : 50 .
- (5) مسالك الأفهام 1: 228.
- (6) مفتاح الكرامة 3 : 31.
(الصفحة 361)
الدمع ـ يفيد وحدة معنى البكاء عندهم، وأنّه عبارة عن مجرّد خروج الدمع.
وبالجملة: فالإشكال في مبطلية البكاء للصلاة نظراً إلى ضعف الرواية كما عن مجمع الفائدة والبرهان(1) في غير محلّه، لما عرفت من أنّ اشتهار الفتوى على طبقها يوجب جبر ضعفها. كما أنّه ممّا ذكرنا ظهر أنّ الاستشكال في بطلان الصلاة بمجرّد خروج الدمع ـ كما في الجواهر والمصباح(2) ـ ممّا لا وجه له، لدلالة الدليل على ذلك كما عرفت.
فالأقوى مبطلية البكاء مطلقاً إذا كان للأمور الدنيوية، وأمّا البكاء للأمور الاُخروية كذكر الجنّة أو النار فلا إشكال فيه، بل هو من أفضل الأعمال في الصلاة كما في الرواية(3)، وأولى بالجواز ما لو كان بكاؤه للاشتياق إلى المعبود، أو لإدراك عظمته وذلّة نفسه، أو للخوف من معاصيه.
ثمّ إنّ البكاء للاُمور الاُخروية لا يوجب بطلان الصلاة بما أنّه بكاء، وإن اشتمل على صوت، أمّا لو كان الصوت المقرون به بحيث يخرج منه حرف أو حرفان فيوجب بطلان الصلاة، نظراً إلى مبطلية الكلام; والالتزام بعدم كونه مبطلاً حتّى في هذه الصورة في غاية الإشكال، فإنّ ما دلّ الدليل على جوازه أو استحبابه في الصلاة هو البكاء للأمور الاُخروية، وقد عرفت أنّ معنى البكاء عبارة عن مجرّد خروج الدمع، وأمّا خروج الكلام من الصوت البكائي فلا يمكن الغضّ عنه إلاّ فيما كان الكلام الخارج ذكراً أو دعاء أو غيرهما من مستثنيات الكلام، فتدبّر.
- (1) مجمع الفائدة والبرهان 3 : 73 .
- (2) جواهر الكلام 11 : 74 ; مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 413.
- (3) الوسائل 7 : 248. أبواب قواطع الصلاة ب5 ح4.
(الصفحة 362)
القاطع السادس :
الحدث ،
على المشهور(1)
وبه قال الشافعي في الجديد وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي في القديم إلى عدم قاطعيته للصلاة، بل عليه أن يتوضّأ ويبني(2)، فللعامة قولان.
وأمّا الإمامية فقال المحقّق في المعتبر: إنّه قال الشيخ في الخلاف ، وعلم الهدى في المصباح: إذا سبق الحدث ففيه روايتان، إحداهما: يعيد الصلاة. والاُخرى: يعيد الوضوء، ويبني عليه صلاته ـ إلى أن قال ـ : وقال في المبسوط: وقد روي إذا سبقه الحدث جاز أن يعيد الوضوء ويبني على صلاته، والأحوط الأوّل(3)، انتهى.
- (1) جمل العلم والعمل (رسائل المرتضى) 3: 35; المسائل الناصريات: 232 مسألة 73; السرائر 1 : 235; الكافي في الفقه : 120; الوسيلة: 98; المراسم : 89 ; الغنية: 82 ; المهذّب 1: 153; المعتبر 2 : 250 تذكرة الفقهاء 3 : 271 مسألة 318; نهاية الاحكام 1: 513; الروضة البهيّة 1: 230; مجمع الفائدة والبرهان 3: 48; مدارك الأحكام 3: 455; الحدائق 9 : 2 .
- (2) المجموع 4 : 75 ـ 76; فتح العزيز 4 : 4; المحلّى 4 : 156; تذكرة الفقهاء 3 : 272.
- (3) الخلاف 1: 409 مسألة 157; المبسوط 1 : 117; المعتبر 2 : 250 .