(الصفحة 370)
ووجود الرواية من طرق الفريقين، فقد روي من طريق العامّة عن النبي(صلى الله عليه وآله) : «إنّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنّما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»(1). وعن زيد بن أرقم قال: كنّا نتكلّم في الصلاة يتكلّم أحدنا صاحبه وهو إلى جنبه حتى نزلت:
{وقوموا لله قانتين}(2)، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام(3). إنّما الإشكال والكلام في تعيين الموضوع.
فنقول: إنّ القدر المتيقّن من ذلك ما إذا كان اللفظ أي الصوت الخارج من الفم المتكئ على مقطع من مقاطع الحروف مركّباً من حرفين فصاعداً، مع كونه موضوعاً بإزاء معنى مفيداً مفهماً، وأمّا إذا لم يكن كذلك بأن كان مركّباً من حرفين فصاعداً ولكن لم يكن مستعملاً، أو كان حرفاً واحداً سواء كان مفيداً موضوعاً كفعل الأمر من الأفعال المعتلّة الطرفين مثل (ع) و (ق)، أو لم يكن كذلك ففيه إشكال.
والمنسوب إلى المشهور البطلان في المركّب من حرفين مطلقاً، وفي المركّب من حرف واحد إذا كان مفيداً مستعملاً(4)، واستدلّ على ذلك بالاجماع على البطلان في هذه الصور، وعلى عدمه في غيرها، ولكنّ الظاهر أنّ ذلك مجرّد إدّعاء بلا بيّنة وبرهان، بل التتبع والتفحّص التامّ يقتضي خلافه، فإنّه لم يوجد في كلمات قدماء أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم، التعرّض لتحقيق الموضوع وأنّه بمَ يتحقق؟
نعم، ذكر الشيخ في كتاب المبسوط ـ الذي عرفت غير مرّة أنّه من الكتب
- (1) صحيح مسلم 3 : 18 ، ح537; سنن البيهقي 2: 249 ـ 250; مسند احمد 5: 447 ـ 448; وفيهما «ان صلاتنا هذه لا يصلح...» .
- (2) البقرة: 238 .
- (3) صحيح مسلم 5: 22 ح35; سنن النسائي 3: 19 ح1215.
- (4) الخلاف 1: 407; السرائر 1: 225; شرائع الاسلام 1: 91; قواعد الأحكام 1: 280; المنتهى 1: 309; تذكرة الفقهاء 3: 274; الذكرى 4: 13 ـ 14; جامع المقاصد2: 341; مستند الشيعة 7: 28.
(الصفحة 371)
التفريعية، لا الكتب المعدّة لبيان الفتاوى المأثورة عن العترة الطاهرة(عليهم السلام) ـ بعد النهي عن التكلّم بما ليس من الصلاة، سواء كان متعلّقاً بمصلحة الصلاة أم لم يكن كذلك، إنّه لا يأنّ بحرفين ولا يتأفّف مثل ذلك بحرفين(1).
وكيف كان، فدعوى الاجماع في مثل المسألة ممّا لم يتعرّض له القدماء ممّا لا سبيل إلى إثباتها كما هو واضح.
نعم ربّما يمكن أن يستدلّ في المقام بذيل مرسلة الصدوق: «مَن أنّ في صلاته فقد تكلّم»(2). وبخبر طلحة بن زيد، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ(عليهم السلام)، أنّه قال: «مَن أنّ في صلاته فقد تكلّم»(3)، ولكنّه مخدوش، مضافاً إلى ضعف سند الرواية، لأنّ طلحة عاميّ.
والظاهر أنّ مرسلة الصدوق هي هذا الخبر لا رواية أُخرى. وإلى احتمال أن يكون المراد هو إلحاق الأنين بالتكلّم في بطلان الصلاة بسببه، ولزوم الاحتراز عنه، لا كونه من أفراد التكلّم حقيقة، بأنّ الرواية لا تكون وافية بجميع المدّعى، فإنّ غاية مدلولها باعتبار كون الغالب تركّب الأنين من الحرفين وعدم كونه موضوعاً بإزاء معنى، لوضوح أنّ دلالته ليست دلالة وضعيّة بل طبعيّة، هو بطلان الصلاة باللفظ المركّب من الحرفين. وإن لم يكن موضوعاً ; ولا يستفاد منها حكم اللفظ المشتمل على الحرف الواحد كما لا يخفى.
هذا، وربّما يستدلّ لذلك بما حكي عن بعض الاُدباء واللغويّين ، من التصريح بأنّ الكلام هو ما تركّب من حرفين فصاعداً، كما حكي عن نجم الأئمّة في شرحه
- (1) المبسوط 1: 117 .
- (2) الفقيه 1: 232 ح 1029; الوسائل 7 : 81 2. أبواب قواطع الصلاة ب25 ح2.
- (3) التهذيب 2: 330 ح1356 ; الوسائل 7 : 281. أبواب قواطع الصلاة ب25 ح4.
(الصفحة 372)
على الكافية(1) ، من تصريحه بأنّ الكلام وإن كان بحسب الأصل عبارة عمّا يتكلّم به قليلاً كان أو كثيراً، إلاّ أنّه غلب استعماله في العرف على اللفظ المركّب من الحرفين فصاعداً.
ولكنّه مضافاً إلى عدم حجّية مثل ذلك مخدوش بأنّ مورد النزاع ليس هو بيان معنى الكلام، لأنّ الذي ورد في الأخبار هو التكلّم، فلابدّ من ملاحظة معناه، فنقول: ذكر بعض المحقّقين من المعاصرين: أنّ المعيار في صدق التكلّم هو الإتيان باللفظ بقصد الحكاية عن المعنى، سواء كان الحرف واحداً أم كان أزيد، فلو لم يأت باللفظ على نحو الاستعمال والحكاية لم يصدق التكلّم، وإن كان اللفظ موضوعاً، كما لو تلفظ بلفظ (ق) لا بعنوان الحكاية عن المعنى، بل لغرض تعلّم مخرج القاف على النحو الصحيح مثلاً(2).
ولا يخفى أنّ ما أفاده وإن كان يقرب من الذهن في بادئ النظر إلاّ أنّ التدبّر يقضي بأنّ خصوصية قصد المعنى وجعل اللفظ حاكياً عنه لا مدخلية لها في إبطال الصلاة، بل الظاهر بنظر العرف هو أنّ الملاك في ذلك مجرّد إصدار اللفظ غير الملائم لحقيقة الصلاة، سواء قصد به الحكاية عن المعنى أم لم يقصد. ألا ترى أنّه لا فرق عند العرف ـ بعد ملاحظة كون الكلام مبطلاً للصلاة عند الشارع ـ بين الكلام الصادر عمّن يعرف معناه، وبين الكلام الصادر عمّن لا يعرف هذه اللغة؟
والتحقيق في المقام أن يقال: إنّ المتعارف بين العقلاء في مقام إفادة أغراضهم وإفهام مقاصدهم بسبب اللفظ والقول، هو التكلّم بالألفاظ التي وضعت بإزاء معنى من المعاني مع استعمالها في معانيها، وجعلها مندكة فيها آلة لإفهامها، ومع وجود مخاطب في البين، حتّى يكون الغرض إفهامه وإفادته، وحينئذ فلابدّ من ملاحظة أنّ
- (1) شرح الكافية: 187 .
- (2) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري(رحمه الله): 298 .
(الصفحة 373)
هذه القيود الثلاثة المتعارفة بين العقلاء هل لها مدخلية في حقيقة التكلّم بحيث لايصدق بدونها، أم لا يكون لها بل ولا لشيء منها دخل في قوامه وحقيقته؟
فنقول: لا شبهة في أنّ القيد الأخير ـ الذي هو عبارة عن وجود مخاطب في البين قصد إفهامه ـ لا مدخلية له في معنى التكلّم، ضرورة انّه يصدق فيما لو حدث الإنسان نفسه وتكلّم معها، غاية الأمر كونه قبيحاً عند العقل والعقلاء، إلاّ أنّ ذلك لا ارتباط له بصدق معنى التكلّم، فهو قد يكون مع الغير وقد يكون مع النفس.
وأمّا القيد الثاني الذي مرجعه إلى استعمال اللفظ في معناه وجعله مرآة له مندكّاً فيه، فالظاهر أنّه أيضاً أجنبيّ عن الدخل في صدق معناه، فإنّه لا فرق عند العرف في صدق التكلّم بين اللفظ العربي الصادر عمّن يعرف لغة العرب، وبين الصادر عن غيره، فإنّ المتلفّظ بكلمة «ضرب» يصدق عليه أنّه تكلّم بها، سواء كان عارفاً بمعناه أو غير عارف; ويدلّ على ذلك صدق عنوان المتكلّم على النائم الذي تكلّم في أثناء النوم، مع أنّه لم يستعمل ألفاظه في معانيها ولم يجعلها حاكية عنها كما هو واضح.
وأمّا القيد الأوّل الذي هو عبارة عن كون اللفظ موضوعاً بإزاء معنى، فالظاهر أنّه أيضاً خارج عن ماهية التكلّم وحقيقته، فإنّه قد يتكلّم الإنسان بالألفاظ المهملة لغرض إفادة أنّها من المهملات ، أو لغرض آخر، ولا يخرج بذلك عن صدق عنوان المتكلّم كما يظهر بمراجعة العرف، ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه تقسيمهم الكلمة إلى المهمل والمستعمل.
فانقدح ممّا ذكرنا أنّه لا يعتبر كون اللفظ موضوعاً، فضلاً عن اعتبار الاستعمال ووجود المخاطب.
نعم، يبقى الكلام في أنّه هل يتحقق فيما إذا تلفّظ بحرف واحد أم لا؟ فنقول: لو قلنا بأنّ الحرف الواحد الموضوع يصدق به التكلّم، فالظاهر حينئذ عدم الفرق بينه وبين الحرف الواحد غير الموضوع، لما عرفت من عدم مدخلية قيد الموضوعية في
(الصفحة 374)
معنى التكلّم، فالتفصيل بينهما بعيد جدّاً، اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ مثل كلمة (ق) و(ع) من الأفعال المعتلّة الطرفين لا يكون حرفاً واحداً، بل هو في التقدير حرفان أو أزيد، وصدق التكلّم بسببه إنّما هو لأجل ذلك، أي كونه في التقدير زائداً على الحرف الواحد ولا يخفى أنّ هذا أبعد.
وكيف كان، فالظاهر أنّ إثبات دعوى كون الحرف الواحد أيضاً ممّا يتحقق به التكلّم، وكذا إثبات دعوى عدم كونه كذلك في غاية الإشكال، والمرجع على تقدير الشكّ، أصالة البراءة.
استثناء الذكر والقرآن
ثمّ إنّه ظهر لك من تقييد الكلام المبطل في صدر المسألة بما إذا لم يكن ذكراً ولا دعاءً، ولا قراءة قرآن; إنّ شيئاً من هذه الاُمور الثلاثة لا يوجب بطلان الصلاة إذا وقع في أثنائها، للأخبار الدالة على أنّ كلّ ما ناجيت الله به في الصلاة فهو منها(1)، وأنّ كلّ ما كان من ذكر أو قرآن فهو من الصلاة.
وقد عرفت في مبحث القراءة(2) أنّ معنى القراءة كلام الغير، وحكايته عبارة عن إيجاد مماثل ألفاظه قاصداً به حكاية ذلك الكلام، بأن يجعل ألفاظه المقروءة بحذاءالألفاظ المحكيّة مع قطع النظر عن حيثية صدورهاعنه،وإلاّ لا تصدق الحكاية، ضرورة أنّها عبارة عن إراءة المحكيّ وإلقائه، فكأنّه لا يكون هنا واسطة أصلاً.
وبالجملة: فمعنى الحكاية هو أن يجعل ألفاظه مرآة لكلام الغير وفانية فيه لايرى فيها إلاّ ذلك الكلام، وحينئذ فلو أراد ـ مضافاً إلى قصد الحكاية ـ ردّ تحيّة
- (1) الوسائل 6: 289. أبواب القنوت ب19 وص370. أبواب السجود ب17 وج7: 263 . أبواب قواطع الصلاة ب13.
- (2) المسألة الاُولى من بحث القراءة 2 : 126 .