(الصفحة 373)
هذه القيود الثلاثة المتعارفة بين العقلاء هل لها مدخلية في حقيقة التكلّم بحيث لايصدق بدونها، أم لا يكون لها بل ولا لشيء منها دخل في قوامه وحقيقته؟
فنقول: لا شبهة في أنّ القيد الأخير ـ الذي هو عبارة عن وجود مخاطب في البين قصد إفهامه ـ لا مدخلية له في معنى التكلّم، ضرورة انّه يصدق فيما لو حدث الإنسان نفسه وتكلّم معها، غاية الأمر كونه قبيحاً عند العقل والعقلاء، إلاّ أنّ ذلك لا ارتباط له بصدق معنى التكلّم، فهو قد يكون مع الغير وقد يكون مع النفس.
وأمّا القيد الثاني الذي مرجعه إلى استعمال اللفظ في معناه وجعله مرآة له مندكّاً فيه، فالظاهر أنّه أيضاً أجنبيّ عن الدخل في صدق معناه، فإنّه لا فرق عند العرف في صدق التكلّم بين اللفظ العربي الصادر عمّن يعرف لغة العرب، وبين الصادر عن غيره، فإنّ المتلفّظ بكلمة «ضرب» يصدق عليه أنّه تكلّم بها، سواء كان عارفاً بمعناه أو غير عارف; ويدلّ على ذلك صدق عنوان المتكلّم على النائم الذي تكلّم في أثناء النوم، مع أنّه لم يستعمل ألفاظه في معانيها ولم يجعلها حاكية عنها كما هو واضح.
وأمّا القيد الأوّل الذي هو عبارة عن كون اللفظ موضوعاً بإزاء معنى، فالظاهر أنّه أيضاً خارج عن ماهية التكلّم وحقيقته، فإنّه قد يتكلّم الإنسان بالألفاظ المهملة لغرض إفادة أنّها من المهملات ، أو لغرض آخر، ولا يخرج بذلك عن صدق عنوان المتكلّم كما يظهر بمراجعة العرف، ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه تقسيمهم الكلمة إلى المهمل والمستعمل.
فانقدح ممّا ذكرنا أنّه لا يعتبر كون اللفظ موضوعاً، فضلاً عن اعتبار الاستعمال ووجود المخاطب.
نعم، يبقى الكلام في أنّه هل يتحقق فيما إذا تلفّظ بحرف واحد أم لا؟ فنقول: لو قلنا بأنّ الحرف الواحد الموضوع يصدق به التكلّم، فالظاهر حينئذ عدم الفرق بينه وبين الحرف الواحد غير الموضوع، لما عرفت من عدم مدخلية قيد الموضوعية في
(الصفحة 374)
معنى التكلّم، فالتفصيل بينهما بعيد جدّاً، اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ مثل كلمة (ق) و(ع) من الأفعال المعتلّة الطرفين لا يكون حرفاً واحداً، بل هو في التقدير حرفان أو أزيد، وصدق التكلّم بسببه إنّما هو لأجل ذلك، أي كونه في التقدير زائداً على الحرف الواحد ولا يخفى أنّ هذا أبعد.
وكيف كان، فالظاهر أنّ إثبات دعوى كون الحرف الواحد أيضاً ممّا يتحقق به التكلّم، وكذا إثبات دعوى عدم كونه كذلك في غاية الإشكال، والمرجع على تقدير الشكّ، أصالة البراءة.
استثناء الذكر والقرآن
ثمّ إنّه ظهر لك من تقييد الكلام المبطل في صدر المسألة بما إذا لم يكن ذكراً ولا دعاءً، ولا قراءة قرآن; إنّ شيئاً من هذه الاُمور الثلاثة لا يوجب بطلان الصلاة إذا وقع في أثنائها، للأخبار الدالة على أنّ كلّ ما ناجيت الله به في الصلاة فهو منها(1)، وأنّ كلّ ما كان من ذكر أو قرآن فهو من الصلاة.
وقد عرفت في مبحث القراءة(2) أنّ معنى القراءة كلام الغير، وحكايته عبارة عن إيجاد مماثل ألفاظه قاصداً به حكاية ذلك الكلام، بأن يجعل ألفاظه المقروءة بحذاءالألفاظ المحكيّة مع قطع النظر عن حيثية صدورهاعنه،وإلاّ لا تصدق الحكاية، ضرورة أنّها عبارة عن إراءة المحكيّ وإلقائه، فكأنّه لا يكون هنا واسطة أصلاً.
وبالجملة: فمعنى الحكاية هو أن يجعل ألفاظه مرآة لكلام الغير وفانية فيه لايرى فيها إلاّ ذلك الكلام، وحينئذ فلو أراد ـ مضافاً إلى قصد الحكاية ـ ردّ تحيّة
- (1) الوسائل 6: 289. أبواب القنوت ب19 وص370. أبواب السجود ب17 وج7: 263 . أبواب قواطع الصلاة ب13.
- (2) المسألة الاُولى من بحث القراءة 2 : 126 .
(الصفحة 375)
الغير بآية من القرآن يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وهو ممّا لا يجوز بل لا يعقل كما قرّرنا في محلّه.
وجه اللزوم أنّ ردّ التحية متقوم بإيجاد اللفظ مخاطباً إلى المحييّ مع قصد عنوان الردّ، وحينئذ فكيف يجتمع مع ذلك جعل اللفظ حاكياً عن كلام الغير مندكّاً فيه مع قطع النظر عن حيثية صدوره عنه؟!.
نعم، قد يقال : بأنّ المتكلّم بسلام عليكم الوارد في القرآن الكريم حكاية عن الملائكة المخاطبين لأهل الجنّة عند الدخول فيها، إنّما يقصد بلفظه حكاية الكلام المنزل مع قصده من الكلام المحكيّ الخطاب إلى المسلّم، لا أنّه يسلّم على المخاطب باللفظ الصادر منه، ونظير ذلك كتابة السلام عليكم لشخص تريد أن ترسل المكتوب إليه، فإنّ المكتوب إنّما قصد به الحكاية عن السلام الملفوظ، ويقصد من السلام الملفوظ الخطاب إلى المخاطب المقصود.
ولكن لا يخفى أنّ تنظير المقام بمسألة الكتابة محلّ نظر بل منع، فإنّه لو سلّم أنّ المكتوب إنّما قصد به الحكاية عن السلام الملفوظ، فهو إنّما يكون ملفوظاً للشخص الكاتب مندكّاً في معناه الذي هو عبارة عن السلام وردّ التحية، بخلاف المقام الذي يكون الكلام المحكيّ صادراً عن الغير قائماً به بالقيام الصدوري.
هذا، مضافاً إلى أنّه لا نسلّم أن يكون المكتوب مقصوداً به الحكاية عن الملفوظ، فإنّ النقوش الكتابية وإن كانت بحذاء الألفاظ، والألفاظ موضوعة للمعاني بحيث لو أراد الإنسان أن يفهم معنى كلمة منقوشة يكون ذلك متوقّفاً أوّلاً على تطبيق تلك الكلمة المنقوشة على ملفوظها، وثانياً على العلم بمعنى ذلك الملفوظ، إلاّ أنّ تلك النقوش إنّما تجعل بدلاً عن الألفاظ في الدلالة على معانيها، لا أنّها تقصد بها الألفاظ وتقصد من الألفاظ معانيها.
وبالجملة: فالنقوش الكتابية إنّما هي طريق آخر لإفهام الأغراض وإفادة
(الصفحة 376)
المقاصد في عرض الألفاظ، وهذا الطريق أوسع من وجه، وأضيق من وجه آخر. أمّا الأوسعية فلإنّ النقوش لا تنعدم بمجرّد وجودها كالألفاظ بل هي باقية، وأمّا الأضيقية فلإحتياجها إلى الآلات الكثيرة بخلاف اللفظ. وكيف كان، فقياس المقام على مسألة الكتابة قياس مع الفارق، وحينئذ فلا دليل على جواز ردّ التحية بقراءة آية من القرآن.
نعم يمكن أن يقال: إنّ قراءة آية مناسبة لردّ التحية بعد صدورها من المحيّي ينتزع منها عنوان ردّ التحية، وإن لم يكن من قصده فعلاً ذلك، نظراً إلى أنّ ذلك يشعر بكون المصلّي قاصداً لردّها، وإنّما منعه عن ذلك وجود المانع وهو الاشتغال بالصلاة.
ونظير هذا ما إذا قرأ المأموم آية من القرآن لغرض إفهام الإمام وإعلامه بأنّه سهى كما إذا قرأ قوله تعالى: (
ولا تجهر بصلاتك)(1) فيما إذا جهر في الصلاة التي يجب الإخفات فيها، أو قرأ قوله تعالى: (
وقوموا لله قانتين)(2) فيما إذا جلس في الركعة الاُولى أو الثالثة من الرباعية للتشهّد سهواً، أو قرأ قوله تعالى: (
فاركعوا مع الراكعين)(3) فيما إذا قرأ الإمام القنوت في الركعة الاُولى مثلاً، فإنّه في جميع هذه الموارد يترتّب الغرض على قراءة القرآن من دون أن يجعل الألفاظ القرآنية بحذاء المعنى الذي يريد ، لوضوح أنّه لا يريد أن يخاطب الإمام وينهاه عن الجهر بقوله: «ولا تجهر بصلاتك»، بل يقرأ القرآن فيترتّب عليه إعلام الإمام للمناسبة بين الآية التي قرأها وبين ما سهى عنه الإمام.
هذا، ولا يخفى أنّ انتزاع عنوان الردّ بمجرّد ذلك مشكل. نعم يمكن أن يتحقق
- (1) الاسراء : 110.
- (2) البقرة: 238.
- (3) البقرة: 43.
(الصفحة 377)
ذلك بحيث لا ينافي الصلاة، بأن قصد بقوله: سلام عليكم، في مقام ردّ الجواب الدعاء، وسأل من الله تعالى أن يسلّمه، وأمّا لو لم يكن المقصود منه الدعاء سواء أراد بذلك مجرّد سلامة المخاطب أو أراد أن يسلمه الله ولكن لا على سبيل الدعاء والسؤال منه تعالى، فهو محلّ إشكال، بل الظاهر أنّه داخل في الكلام المبطل.
ومنه يظهر أنّ الابتداء بالسلام في أثناء الصلاة وكذا تسميت العاطس يوجب بطلان الصلاة إلاّ أن يرجع إلى الدعاء والمسألة منه تعالى.
هذا، ويمكن أن يقال: إنّ تحقق عنوان الدعاء الذي مرجعه إلى الطلب من الله تعالى، لا يجتمع مع توجيه الكلام إلى المخاطب والمخاطبة معه، فإنّ قوله: سلّمك الله، أو غفر الله لك ونظائرهما، يكون الخطاب فيه متوجّهاً إلى المخاطب وإن كان الإسناد فيه إلى الله تعالى، والدعاء لابدّ فيه أن يكون الطلب منه تعالى، وإن كان متعلّقاً بالشخص الحاضر، كقوله: اللهمّ اغفر لهذا.
وبالجملة: فصدق عنوان الدعاء مع توجيه الكلام إلى المخاطب الحاضر مشكل، اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الكلام الذي أُخذ موضوعاً للحكم بوجوب الإعادة إنّما هو كلام الآدميّين، كما يدلّ على ذلك النبويّ المتقدّم: «إنّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنّما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن». فخروج الدعاء والذكر والقرآن إنّما هو على سبيل التخصّص لا التخصيص .
وحينئذ فكما شكّ في صدق عنوان الدعاء مع توجيه الكلام إلى المخاطب، كذلك يكون صدق كلام الآدميّين عليه مشكوكاً أيضاً، فلا دليل على كون هذا القسم من الكلام مبطلاً، فلابدّ من الرجوع إلى الأصل وهو يقتضي العدم، لكنّ الأحوط الترك.