(الصفحة 382)
لموافقتها لفتاوى العامّة.
الثانية: مقتضى روايتي منصور وعمّار المتقدّمتين وجوب الردّ خفيّاً، بناءً على أن لا يكون المراد بقوله(عليه السلام) في رواية عمّار: «فردّ عليه فيما بينك وبين نفسك». هو الردّ بالقلب كما يشهد له قوله: «ولا ترفع صوتك»، فإنّ الظاهر أنّ المراد هو القول خفيّاً، ولعلّ الوجه فيه هو أنّ العامّة حيث كانت فتاواهم متطابقة على التحريم، فلذا أمر الشيعة بالإخفاء لئلاّ يظهر أمرهم ويتبيّن مخالفتهم.
الثالثة: قد ورد في إحدى روايتي محمّد بن مسلم ورواية عليّ بن جعفر(عليه السلام)الأمر بالإشارة بالإصبع، ولكنّ الظاهر عدم كونه أمراً وجوبيّاً، لعدم توقّف الردّ عليه وبعد كونه واجباً نفسيّاً، ولعلّ الوجه فيه هو إعلام المسلّم بذلك لعدم إمكان التوجّه والإقبال في حال الصلاة، ويحتمل أن يحمل على التقية، لما عرفت من أنّ الشافعي أوجب الإشارة باليد في موضع من القديم.
الرابعة: مقتضى رواية منصور وإحدى روايتي محمّد بن مسلم وجوب ردّ السلام بمثل ما قيل له وكما قال; وهل المراد بالمماثلة، المماثلة من جميع الجهات من التعريف، والتنكير، والإفراد، والجمع، والتقديم، والتأخير، كما يشهد له إطلاق المماثلة في الروايتين، أو أنّ المراد بها المماثلة في خصوص التقديم والتأخير؟. كما ربما يدلّ على ذلك رواية سماعة الناهية عن الردّ بمثل «عليكم السلام»، لأنّ المتعارف بينهم في مقام السلام هو تقديم السلام، واعتبار المماثلة يقتضي تقديمه في مقام الجواب أيضاً.
وحينئذ، فالتعرّض لذلك انّما هو للتنبيه على أنّ كيفية الجواب في أثناء الصلاة تغاير الكيفية المتعارفة بينهم في مقام الجواب في غيرها من تقديم الظرف، والظاهر هو الوجه الثاني.
فما ورد في إحدى روايتي محمّد بن مسلم ورواية عليّ بن جعفر المتقدّمتين من
(الصفحة 383)
أنّه يجب أن يقال: السلام عليك، إنّما يكون ذكره من باب كونه أحد الأفراد، والمقصود منه وجوب تقديم السلام على الظرف فقط، لا هو مع التعريف والإفراد كما لا يخفى. ثم إنّه يحتمل أن يكون المراد بالمثل هو المماثلة في كونه قولاً، فالمراد هو بيان وجوب الردّ قولاً كما في غير حال الصلاة، قبالاً للعامّة القائلين بحرمته كذلك، ولكن هذا الإحتمال بعيد.
هذا كلّه فيما يتعلّق بوجوب ردّ السلام في الصلاة. وأمّا الردّ من حيث هو فهو واجب شرعاً، ويدلّ عليه قوله تعالى:
{وإذا حيّيتم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها}(1) والتحية عبارة عن نوع خاصّ من التواضع، مستعمل لدى العرف عند ملاقات بعضهم لبعض، وقد كان متداولاً في زمان الجاهليّة أيضاً، وكان علامة لعدم كون المحيّي قاصداً للسوء بالنسبة إلى المحيّى.
وكيف كان، فهل هو عبارة عن مطلق الألفاظ المستعملة في ذلك المورد، أو أنّه يختصّ بخصوص صيغة السلام؟ حكي عن الطبرسي في مجمع البيان أنّه قال: التحية: السلام، يقال: حيّى تحيّة إذا سلّم(2)، ولكن المحكيّ عن بعض أهل اللغة أنّه إسم لمطلق الألفاظ التي تستعمل في ذلك المورد، سلاماً كان أو غيره ممّا هو بمنزلته(3). ويؤيّده ما عن الصدوق في الخصال عن أبي جعفر، عن آبائه، عن أمير المؤمنين(عليهم السلام)قال: «إذا عطس أحدكم فسمّتوه قولوا: يرحمكم الله، وهو يقول: يغفر الله لكم ويرحمكم، قال الله تعالى: (
وإذا حيّيتم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها)(4)».
- (1) النساء : 86 .
- (2) مجمع البيان 3: 84 .
- (3) مجمع البحرين 1 : 608 مادّة حَ ىَ ىَ .
- (4) الخصال: 633; الوسائل 12: 8 8 . أبواب احكام العشرة ب58 ح3 .
(الصفحة 384)
هذا، ولكنّ الحكم بوجوب ردّ مطلق التحية استناداً الى الآية الشريفة في غاية الاشكال ،خصوصاً بعد وضوح أنّ السيرة المستمرّة بين المسلمين إنّما كانت على ردّ خصوص السلام، ولا يلتزمون بردّ سائر التحيّات; وأمّا الاستدلال في الرواية بالآية الشريفة فليس لأجل كون الدعاء بمثل يغفر الله لكم ويرحمكم من مصاديق التحية، بل كان ذكرها من باب الاستئناس للمناسبة بين الموردين.
ثمّ إنّه لو فرض عموم التحية وعدم اختصاصها بخصوص صيغ السلام لوجب حمل الأمر في الآية الشريفة على الاستحباب بالنسبة إلى غير تلك الصيغ، ولا يلزم من ذلك استعمال اللفظ في أكثر من معنى، لأنّ صيغة الأمر موضوعة لمجرّد إنشاء الطلب.
غاية الأمر أنّه مع عدم قيام قرينة على الإذن في الترك، لا يكون المأمور معذوراً في المخالفة عند العقلاء، وكان مستحقّاً للذمّ والعقاب كما حقّقناه في الاُصول.
فالأقوى وجوب ردّ خصوص صيغ السلام، كما أنّه لا خلاف فيه ظاهراً بين المسلمين، وقد عرفت فتاوى العامّة في باب الردّ في أثناء الصلاة، فإنّه يستفاد من مجموعها مفروغية وجوب الردّ بالقول في غير حال الصلاة، بل يستفاد من بعضها أنّ الردّ يكون حقّاً للمسلّم على المسلّم عليه فتدبّر.
هذا، وأمّا ما يدلّ من الروايات على وجوب ردّ السلام فهي رواية مصدّق بن صدقة المتقدّمة، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه(عليهما السلام)، ورواية السكوني عن أبي عبدالله(عليه السلام)(1)، الدالتان على انّ السلام من المسلّم تطوّع والردّ فريضة، وقد روي هذا المضمون من طريق العامّة عن بعض التابعين(2)، ولكنّ الطبري في تفسيره
- (1) الكافي 2: 644 باب التسليم ح1; الوسائل 12: 58. أبواب أحكام العشرة ب33 ح3.
- (2) الجامع لأحكام القرآن 5: 304; صحيح مسلم 13: 117 ب2 و118 ب3; صحيح البخاري 7: 163 ب1 ـ 7.
(الصفحة 385)
الكبير استدلّ للوجوب بالآية الشريفة، وروى عن أبي الزبير أنّه قال: سمعت جابراً يقول: «ما رأيته إلاّ يوجبه قوله تعالى:
{وإذا حيّيتم بتحيّة...}»(1).
ثمّ لا يخفى أنّه لو قطع النظر عمّا يدلّ على وجوب ردّ السلام من حيث هو، فلايمكن أن يستفاد ذلك من الروايات الواردة في الردّ في أثناء الصلاة، لأنّ كثيراً منها لا يدلّ إلاّ على مجرّد الجواز والصلاحيّة التي مرجعها إلى عدم كون الاشتغال بالصلاة مانعاً عن الردّ، وما يدلّ بظاهره على الوجوب كروايتي سماعة ومنصور وغيرهما لا يستفاد منها الوجوب بعد كونها بصدد الردّ على العامّة القائلين بالحرمة في الصلاة، لأنّ الأمر في مقام توهّم الحظر لا يدلّ على الوجوب.
وبالجملة: بعد كون المرتكز في أذهان المسلمين في ذلك الزمان هي الحرمة، لاشتهار الفتوى بها من المتصدّين للإفتاء ، لا يبقى للأمر ظهور في الوجوب ولايستفاد منه إلاّ مجرّد الجواز في مقابل الحرمة كما لا يخفى.
ثمّ إنّ القدر المتيقّن من موارد وجوب ردّ السلام ما إذا كان المسلّم رجلاً بالغاً عاقلاً مسلماً قاصداً لمعنى السلام، مع كونه بإحدى الصيغ الأربع التي هي عبارة عن: «سلام عليك»، و«السلام عليك»، و«سلام عليكم»، و«السلام عليكم»، والظاهر عدم اعتبار قصد القربة في السلام في وجوب ردّه لعدم الدليل عليه، مضافاً إلى أنّ الحكمة في الحكم بوجوب الردّ، والفرق بينه وبين السلام، لأنّه لا يكون إلاّ مستحبّاً، وهي كون السكوت في مقام الردّ والامتناع عنه موجباً للعداوة والبغضاء، مع أنّ مقصود الشارع هو حصول الاُلفة والاُنس، والحكمة تقتضي تعميم الحكم بالوجوب لما إذا لم يكن السلام مقروناً بقصد القربة كما لا يخفى.
- (1) جامع البيان 4 : 259 .
(الصفحة 386)
هذا، ولو لم يكن المسلّم قاصداً لمعنى السلام لأجل أنّه لا يعرف معناه مثلاً حتى يقصده كأكثر الأعاجم، فهل يجب ردّه أم لا؟ الظاهر نعم، لحصول عنوان التحية بذلك، وكفاية كونه قاصداً لها إجمالاً وإن لم يعرف معناه بالخصوص.
ولو لم يكن السلام بإحدى الصيغ الأربع المتعارفة، كما إذا قدّم الظرف على السلام على خلاف ما هو المتعارف بينهم في مقام الابتداء بتحية الأحياء ففيه وجوه أربعة:
أحدها: القول بأنّه لا يجب ردّه أصلاً، وصرّح المحقّق في المعتبر بتحريم إجابته في حال الصلاة، بل يظهر منه تحريم الإجابة في غير سلام عليكم من الصيغ الأربع أيضاً، حيث أنّه قال: إذا قال: سلام عليكم ردّ مثل قوله سلام عليكم، ولايقول: وعليكم السلام.
وبعد نقل الفتاوى والروايات قال: فرعٌ: لو سلّم عليه بغير اللفظ المذكور لم يجز إجابته، نعم لو دعا له وكان مستحقّاً وقصد الدعاء لا ردّ السلام لم أمنع منه، لما ثبت من جواز الدعاء لنفسه ولغيره في أحوال الصلاة بالمباح(1). انتهى.
ثانيها: القول بوجوب ردّه مماثلاً في حال الصلاة; ذهب إليه صاحب الجواهر والمصباح(2).
ثالثها: ما حكي عن المسالك من أنّه يردّ بالسلام المعهود(3).
رابعها: التخيير بين الردّ بالمثل وبين الردّ بغيره. ولا يخفى أنّ منشأ هذه الوجوه الأربعة ملاحظة أمرين:
أحدهما: إنّ التحية بغير السلام، إمّا خارجة عن الآية الشريفة موضوعاً، بناءً
- (1) المعتبر 2: 263 ـ 264 .
- (2) جواهر الكلام 11: 114; مصباح الفقيه كتاب الصلاة: 421.
- (3) المسالك 1: 232.