(الصفحة 385)
الكبير استدلّ للوجوب بالآية الشريفة، وروى عن أبي الزبير أنّه قال: سمعت جابراً يقول: «ما رأيته إلاّ يوجبه قوله تعالى:
{وإذا حيّيتم بتحيّة...}»(1).
ثمّ لا يخفى أنّه لو قطع النظر عمّا يدلّ على وجوب ردّ السلام من حيث هو، فلايمكن أن يستفاد ذلك من الروايات الواردة في الردّ في أثناء الصلاة، لأنّ كثيراً منها لا يدلّ إلاّ على مجرّد الجواز والصلاحيّة التي مرجعها إلى عدم كون الاشتغال بالصلاة مانعاً عن الردّ، وما يدلّ بظاهره على الوجوب كروايتي سماعة ومنصور وغيرهما لا يستفاد منها الوجوب بعد كونها بصدد الردّ على العامّة القائلين بالحرمة في الصلاة، لأنّ الأمر في مقام توهّم الحظر لا يدلّ على الوجوب.
وبالجملة: بعد كون المرتكز في أذهان المسلمين في ذلك الزمان هي الحرمة، لاشتهار الفتوى بها من المتصدّين للإفتاء ، لا يبقى للأمر ظهور في الوجوب ولايستفاد منه إلاّ مجرّد الجواز في مقابل الحرمة كما لا يخفى.
ثمّ إنّ القدر المتيقّن من موارد وجوب ردّ السلام ما إذا كان المسلّم رجلاً بالغاً عاقلاً مسلماً قاصداً لمعنى السلام، مع كونه بإحدى الصيغ الأربع التي هي عبارة عن: «سلام عليك»، و«السلام عليك»، و«سلام عليكم»، و«السلام عليكم»، والظاهر عدم اعتبار قصد القربة في السلام في وجوب ردّه لعدم الدليل عليه، مضافاً إلى أنّ الحكمة في الحكم بوجوب الردّ، والفرق بينه وبين السلام، لأنّه لا يكون إلاّ مستحبّاً، وهي كون السكوت في مقام الردّ والامتناع عنه موجباً للعداوة والبغضاء، مع أنّ مقصود الشارع هو حصول الاُلفة والاُنس، والحكمة تقتضي تعميم الحكم بالوجوب لما إذا لم يكن السلام مقروناً بقصد القربة كما لا يخفى.
- (1) جامع البيان 4 : 259 .
(الصفحة 386)
هذا، ولو لم يكن المسلّم قاصداً لمعنى السلام لأجل أنّه لا يعرف معناه مثلاً حتى يقصده كأكثر الأعاجم، فهل يجب ردّه أم لا؟ الظاهر نعم، لحصول عنوان التحية بذلك، وكفاية كونه قاصداً لها إجمالاً وإن لم يعرف معناه بالخصوص.
ولو لم يكن السلام بإحدى الصيغ الأربع المتعارفة، كما إذا قدّم الظرف على السلام على خلاف ما هو المتعارف بينهم في مقام الابتداء بتحية الأحياء ففيه وجوه أربعة:
أحدها: القول بأنّه لا يجب ردّه أصلاً، وصرّح المحقّق في المعتبر بتحريم إجابته في حال الصلاة، بل يظهر منه تحريم الإجابة في غير سلام عليكم من الصيغ الأربع أيضاً، حيث أنّه قال: إذا قال: سلام عليكم ردّ مثل قوله سلام عليكم، ولايقول: وعليكم السلام.
وبعد نقل الفتاوى والروايات قال: فرعٌ: لو سلّم عليه بغير اللفظ المذكور لم يجز إجابته، نعم لو دعا له وكان مستحقّاً وقصد الدعاء لا ردّ السلام لم أمنع منه، لما ثبت من جواز الدعاء لنفسه ولغيره في أحوال الصلاة بالمباح(1). انتهى.
ثانيها: القول بوجوب ردّه مماثلاً في حال الصلاة; ذهب إليه صاحب الجواهر والمصباح(2).
ثالثها: ما حكي عن المسالك من أنّه يردّ بالسلام المعهود(3).
رابعها: التخيير بين الردّ بالمثل وبين الردّ بغيره. ولا يخفى أنّ منشأ هذه الوجوه الأربعة ملاحظة أمرين:
أحدهما: إنّ التحية بغير السلام، إمّا خارجة عن الآية الشريفة موضوعاً، بناءً
- (1) المعتبر 2: 263 ـ 264 .
- (2) جواهر الكلام 11: 114; مصباح الفقيه كتاب الصلاة: 421.
- (3) المسالك 1: 232.
(الصفحة 387)
على ما ذكره الطبرسي، أو حكماً بناءً على ما ذكره بعض أهل اللّغة من عموم التحيّة لغير السلام، فهل السلام بغير إحدى الصيغ الأربع المتقدّمة أيضاًيكون كذلك أم لا؟
ثانيهما: إنّ المماثلة في التقديم والتأخير المعتبرة في الردّ في حال الصلاة هل تكون معتبرة مطلقاً، أو تكون معتبرة في خصوص ما لو كان السلام بإحدى الصيغ الأربع؟ ولا ينافي الاحتمال الأوّل النهي عن عليكم السلام في موثّقة سماعة المتقدّمة، لأنّ موردها ما إذا كان السلام بإحداها، كما هو المتعارف في السلام الابتدائي في تحيّة الأحياء.
وبعبارة اُخرى هل المماثلة المذكورة في الروايتين معتبرة بعنوانها، سواء كان السلام بإحدى الصيغ المتعارفة أو بغيرها، أو أنّها كناية عن تقديم السلام على الظرف كما هو المتعارف في السلام، وهو الوجه في التعبير عنه بها؟
إذا عرفت ذلك فنقول : الوجه الأوّل يبتني على عدم شمول الآية الشريفة لهذا السلام، إمّا لاختصاص التحية المذكورة في الآية بغيره من الصيغ الأربع المتعارفة، وإمّا لانصرافها عنه، كما أنّ غيره من الوجوه الثلاثة يبتني على شمول الآية له أيضاً، والاختلاف بينها إنّما هو في الأمر الثاني.
فمنشأ ما عليه الجواهر والمصباح هو أنّ المماثلة المعتبرة في الردّ في حال الصلاة معتبرة بعنوانها، فلابدّ من مراعاتها نظراً إلى ما يدلّ على اعتبارها، كما أنّ ما حكي عن المسالك من لزوم تقديم السلام على الظرف مبنيّ على أن لا يكون عنوان المماثلة معتبراً، بل كانت هي كناية عن تقديم السلام على الظرف.
وحيث أنّ مورد الأدلة الدالة على اعتبار المماثلة هو السلام على النحو المتعارف، فلذا كني عن ذلك بعنوان المماثلة ، وإلاّ فالواجب مطلقاً هو تقديم السلام على الظرف، سواء كان بإحدى الصيغ الأربع المتعارفة أو بغيرها، وأمّا الاحتمال
(الصفحة 388)
الأخير فيبتني على خروج المورد المفروض عن الأدلة الدالة على اعتبار المماثلة، لأنّ موردها خصوص ما إذا كان السلام بالنحو المتعارف، فليس هنا ما يدلّ على اعتبارها في المقام.
ثمّ إنّ الظاهر في الأمر الثاني هو كون عنوان المماثلة مأخوذاً بنحو الكناية عن تقديم السلام على الظرف، فالوجه الثاني من الوجوه الأربعة بعيد جدّاً. نعم يبقى الكلام في شمول الآية الشريفة لهذا النحو من السلام، والظاهر إطلاقها لصدق عنوان التحية عليه.
(الصفحة 389)
القاطع الثامن:
الفعل الكثير الخارج عن أفعال الصلاة
قد ادّعى العلاّمة في المنتهى إتّفاق أهل العلم كافّة على بطلان الصلاة به(1)، وهذا يدلّ على كونه مورداً لاتفاق المسلمين، لأنّ التعبير بهذا إنّما هو في مثل تلك الموارد.
والمشهور بين الإمامية التقييد بما إذا فعل ذلك عمداً(2)، ويمكن أن يستكشف من قيام الشهرة المحقّقة على قاطعية هذا العنوان ثبوت نصّ معتبر دالّ على ذلك، وحينئذفلابدّمن الرجوع إلى العرف في تشخيص موضوع الكثرة المأخوذ في النصّ.
هذا، ولكن يستفاد من كلمات كثير من المتأخّرين أنّ المستند في ذلك ليس ثبوت نصّ دالّ بمنطوقه على قاطعية هذا العنوان، بل المناط في البطلان هو محو
- (1) المنتهى 1 : 310 .
- (2) المعتبر 2: 255; نهاية الأحكام 1: 521; تذكرة الفقهاء 3: 288 مسألة 328; جامع المقاصد 2: 350; مجمع الفائدة والبرهان 3: 69; كشف اللثام 4: 172; مستند الشيعة 7: 42; جواهر الكلام 11: 55 .