(الصفحة 391)
ممّا يدلّ على أنّ التكفير عمل وليس في الصلاة عمل(1). فإنّ الظاهر أنّ المراد بالعمل هو العمل الخارجي الذي لا يكون من سنخ أفعال الصلاة، وحينئذ فيدلّ على بطلانها بفعل شيء خارج عن حقيقتها ولو كان قليلاً، فلابدّ من ورود دليل مخصّص حتّى يدلّ على الجواز في بعض الموارد.
ثمّ لا يخفى أنّ استكشاف النصّ في المسألة من الفتاوى مشكل، لأنّه لم يكن لها تعرّض في أكثر الكتب المعدّة لنقل الفتاوى المأثورة عن العترة الطاهرة(عليهم السلام)بعين الألفاظ الصادرة عنهم. نعم ذكر في المراسم في عداد ما يوجب التعمّد إليه بطلان الصلاة : وكلّ فعل كثير أباحت الشريعة قليله في الصلاة، أو كلّ فعل لم تبح الشريعة قليله ولا كثيره(2).
وقال في الوسيلة في بيان القواطع : أنّها تسعة أشياء: العمل الكثير ممّا ليس من أفعال الصلاة(3). وقال الشيخ في المبسوط الذي هو كتاب تفريعيّ له: ولا يفعل فعلاً كثيراً ليس من أفعال الصلاة(4). والظاهر أنّ هذا استنباط من تجويز الأفعال الجزئية في الشريعة، لا أن يكون بهذا العنوان ممّا قام عليه نصّ. ويؤيّده أنّه في كتاب النهاية ـ الموضوع لنقل الفتاوى المأثورة ـ إقتصر على ذكر موارد الجواز(5).
وكيف كان، فدعوى الإجماع على مبطلية الفعل الكثير بعنوانه كما عن العلاّمة وجماعة من المتأخّرين مما لا وجه لها بعد عدم وجود نصّ في المسألة، ولا ما يمكن أن يستكشف منه، فالأولى كما عرفت التمسّك لذلك بأنّ المغروس في أذهان المتشرّعة أنّه يعتبر في الصلاة التوجّه إلى الخالق المعبود بحيث ينافيه الاشتغال
- (1) قرب الاسناد: 177 ح795; الوسائل 7: 266. أبواب قواطع الصلاة ب15 ح4.
- (2) المراسم : 87 .
- (3) الوسيلة : 97 .
- (4) المبسوط 1: 117.
- (5) النهاية: 93 .
(الصفحة 392)
بالأعمال الخارجية التي لا تكون من سنخ أجزاء الصلاة. نعم لا بأس بالاشتغال بالأفعال الجزئية غير المنافية للتوجّه فتدبّر.
قاطعيّة الأكل والشرب
لا يخفى أنّه ليس هنا أيضاً ما يدلّ من النصوص على ذلك، نعم ربّما يستدلّ له بالرواية الواردة في جواز شرب الماء في صلاة الوتر لمن أصابه عطش، وهو يريد الصوم في صبيحة تلك الليلة، بشرط أن لا يكون موجباً للاستدبار(1)، نظراً إلى أنّ المستفاد منها أنّ هذا إنّما يكون على سبيل الإستثناء، فيدلّ على قاطعية الشرب في غير هذا المورد، ولكنّه كما ترى.
فالأولى الاستدلال له أيضاً بما عرفت في الفعل الكثير من مغروسية التنافي بين حقيقة الصلاة التي هي التوجّه ، وبين الاشتغال بغيرها من الأفعال الخارجية، ولكن هذا الاستدلال يقتضي بطلان الصلاة بهما إذا كانا منافيين للتوجّه، فلا بأس بما لا يكون منهما منافياً له، كأكل شيء صغير وبلع ما بقي بين الأسنان، وإن كان هذا يوجب البطلان في باب الصوم.
ثمّ إنّ قاطعية الأكل والشرب إنّما تكون مذكورة في كتب المحقّق والعلاّمة ومَن بعدهما من الفقهاء المتأخّرين(2)، وليس في كلمات القدماء منهم ـ خصوصاً في كتبهم المعدّة لنقل الفتاوى المأثورة ـ تعرّض لها أصلاً.
- (1) التهذيب 2: 329 ح 1354;الفقيه 1 : 313 ح1424; الوسائل 7: 279. أبواب قواطع الصلاة ب23 ح1 ، 2 .
- (2) المعتبر 2: 259; قواعد الأحكام 1: 281; نهاية الاحكام 1: 522; الدروس 1: 185; مسالك الأفهام 1 : 228; كفاية الاحكام: 24; رياض المسائل 3: 518; مجمع الفائدة والبرهان 3: 77; جامع المقاصد 2: 351; مدارك الأحكام 3: 467; كشف اللثام 4: 178; مستند الشيعة 7: 49; جواهر الكلام 11: 77; الحدائق 9: 55.
(الصفحة 393)
نعم، ذكر الشيخ في كتاب المبسوط في عداد القواطع: إنّ الأكل والشرب يفسدان الصلاة، وروي جواز شرب الماء في الصلاة النافلة، وما لا يمكن التحرّز منه مثل ما يخرج من بين الأسنان، فإنّه لا يفسد الصلاة ازدراده(1).
وقال في الخلاف: روي أنّ شرب الماء في النافلة لا بأس به، فأمّا الفريضة فلايجوز أن يأكل فيها ولا أن يشرب. وبهذا التفصيل قال سعيد بن جبير، وطاووس. وقال الشافعي: لا يجوز ذلك لا في نافلة ولا في فريضة(2) .
دليلنا: إنّ الأصل الإباحة، فمن منع فعليه الدليل، وإنّما منعنا في الفريضة بدلالة الاجماع. وأيضاً روى سعيد الأعرج قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): إنّي أبيت وأُريد الصوم فأكون في الوتر فأعطش فأكره أن أقطع الدعاء فأشرب، وأكره أن أصبح وأنا عطشان، وأمامي قلّة بيني وبينها خطوتان أو ثلاثة؟ قال: «تسعى إليها وتشرب منها حاجتك وتعود في الدعاء»(3)،(4)
ولا يخفى أنّ الرواية الواردة في جواز شرب الماء إنّما وردت في خصوص صلاة الوتر مع الخصوصيّات المذكورة فيها، فقوله: روي أنّ شرب الماء...، مبنيّ على إلغاء الخصوصيّات وإسراء الحكم إلى مطلق النافلة. ويحتمل أن يكون مراده الجواز في النافلة في الجملة في مقابل الفريضة التي لا يجوز فيها الشرب أصلاً.
وكيف كان، فدعوى الإجماع في الخلاف على بطلان الفريضة بذلك مبتنية على ملاحظة فتاوى الفقهاء من المسلمين المتعرّضين لها، حيث إنّها متطابقة على المنع في الفريضة كما عرفت من كلامه، فلا يكون كاشفاً عن وجود نصّ دالّ على
- (1) المبسوط 1 : 118 .
- (2) المجموع 4 : 90 .
- (3) الوسائل 7: 279. أبواب قواطع الصلاة ب23 ح1.
- (4) الخلاف 1 : 413 مسألة 159 .
(الصفحة 394)
كون ذلك مبطلاً في الفريضة.
ثمّ إنّ تعبير السائل في الرواية بقوله: «فأكره أن أقطع الدعاء وأشرب». ربّما يشعر بعدم كون الشرب في نظره منافياً للتوجّه المعتبر في الصلاة، بل حيث يكون موجباً لقطع الدعاء الذي كان مشتغلاً به، فلذلك كرهه. وكيف كان فدعوى الاجماع في المسألة والاستدلال به ممّا لا وجه له، خصوصاً بعد ثبوت الاختلافات الكثيرة في فروعها، وفي كيفية الاستدلال لها، فإنّ جملة من أفاضل المتأخّرين كالعلاّمة والشهيدين(1) يرون الإبطال دائراً مدار صدق عنوان الفعل الكثير، فلا تبطل الصلاة بمسمّى الأكل والشرب.
نعم، جعل العلاّمة كما حكي عنه مطلق الأكل والشرب بانضمامها إلى مقدّماتهما من الفعل الكثير(2)، وبعض آخر منهم استدلّ لذلك بكونهما ماحيين لصورة الصلاة، ولا يبعد الالتزام بذلك في مطلق الأكل والشرب، حتى في مثل ما لو ترك في فيه شيئاً يذوب كالسكر فذاب فابتلعه، لأنّ هذا العمل لو اطّلع عليه المتشرّعة لحكم بمنافاته مع هيئة الصلاة وصورتها.
نعم، يبقى الكلام في أنّه لو كان كلّ من الأكل والشرب ماحياً لصورتها فكيف يمكن تجويز شيء منهما ولو في خصوص النافلة، كما في الرواية المتقدّمة؟
هذا، ويمكن استفادة الحكم من بعض الروايات الواردة في صلاة الوتر كرواية عليّ بن أبي حمزة وغيره، عن بعض مشيخته قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): أفصل في الوتر؟ قال: «نعم»، قلت: فانّي ربّما عطشت فأشرب الماء؟ قال: «نعم، وانكح»(3). والمراد من قوله: أفصل هو الفصل بين الركعة الأخيرة والركعتين الأوليين بالسلام،
- (1) المنتهى 1 : 312; الذكرى: 8 ; المسالك 1: 228.
- (2) تذكرة الفقهاء 3: 292 مسألة 328 .
- (3) التهذيب 2: 8 12 ح493; الوسائل 4: 65. أبواب أعداد الفرائض ب15 ح13.
(الصفحة 395)
وحينئذ فيستفاد أنّ جواز الشرب بعد الركعتين الأوليين إنّما هو لتحقق الفصل بالتسليم، فيدلّ على أنّه لولا الفصل لكان عدم جواز الشرب مسلّماً مفروغاً عنه، وليس المراد هو الشرب في أثناء صلاة الوتر، يعني في أثناء الأوليين أو الأخيرة بقرينة قوله: «وأنكح».
وبالجملة: فالرواية تدلّ على مفروغية منافاة الشرب للصلاة، ومثلها ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي ولاّد حفص بن سالم الحنّاط أنّه قال: سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: «لا بأس بأن يصلّي الرجل ركعتين من الوتر ثم ينصرف فيقضي حاجته، ثم يرجع فيصلّي ركعة، ولا بأس أن يصلّي الرجل ركعتين من الوتر ثمّ يشرب الماء، ويتكلّم، وينكح، ويقضي ما شاء من حاجته، ويحدث وضوءً ثم يصلّي الركعة قبل أن يصلّي الغداة»(1). والظاهر أنّ قوله: لا بأس أن يصلّي الرجل ركعتين من الوتر ...، من كلام الصدوق، لا جزء للرواية كما زعمه صاحب الوسائل، ويؤيّده أنّه حكاها في محكيّ الوافي بدون هذا الذيل(2).
ومنشأ زعم الخلاف أنّ الصدوق كان بناؤه في كتاب الفقيه على ذكر فتواه بعد نقل الرواية بلا فصل بينهما، فصار ذلك في بعض الموارد موجباً لتوهّم كون فتواه أيضاً جزءً للرواية، والظاهر أنّ مستند فتواه هذا هي رواية عليّ بن حمزة المتقدّمة.
أضف إلى جميع ما ذكرنا، كون الأكل والشرب في أثناء الصلاة يعدّ من المنكرات عند المتشرّعة، بحيث يرون التنافي بينهما، وعدم إمكان اجتماعهما كما لا يخفى، فالأكل والشرب في الجملة ممّا لا خفاء ظاهراً في قاطعيّتهما للصلاة.
وهنا عناوين خمسة مذكورة في كلماتهم، وقد وقع الاختلاف بينهم في حكم بعضها:
- (1) الفقيه 1: 312 ح1420 ; الوسائل 4: 63. أبواب أعداد الفرائض ب15 ح4.
- (2) الوافي 7 : 94 .