(الصفحة 45)
المحكي عن الحلّي في مسألة الصلاة في الثوبين المشتبهين ، عدم جواز التكرار للاحتياط حتّى مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي(1) ، ومرجعه إلى سقوط شرطية الستر مع اشتباه الثوب الطاهر بالنجس .
ويظهر أيضاً ممّا ذكره في رسالة الاشتغال(2) ، إنّه قد يقال بعدم جواز الاحتياط ; للزوم التشريع ، وذلك لأنّ قصد القربة المعتبر في الواجب الواقعي لازم المراعاة في كلا المحتملين ليقطع باحرازه في الواجب الواقعي ، ومن المعلوم أنّ الإتيان بكلّ من المحتملين بوصف أنّها عبادة مقربة موجب للتشريع بالنسبة إلى ما عدا الواجب الواقعي ، فيكون محرّماً ، فالاحتياط ممّا لا يمكن في العبادات ، وإنما يمكن في غيرها ، لعدم اعتبار قصد القربة فيها المستلزم لإتيان غير العبادة بوصف أنّها عبادة كما عرفت .
وأما الاجماع فلا حجية له في نظائر المسألة ، وقد حقّقنا في الاُصول(3) أنّ حجيّته منحصرة بما إذا كان معقده من المسائل الأصلية المدونة في الكتب(4)الموضوعة لنقل الفتاوى المأثورة عن الأئمة الطاهرة(عليهم السلام) ، بعين ألفاظها الصادرة عنهم ، وذلك لكشفه عن وجود نصّ معتبر لم يصل إلينا ، فحجّيته تكون من حيث الكشف الراجع إلى حجية المكشوف، لا الكاشف .
وأمّا المسائل التفريعية غير المذكورة في تلك الكتب ، بل الأصحاب ذكروها في كتبهم المعدّة لمثلها ، فلا يكون الاجماع فيها حجّة ، خصوصاً في مثل المسألة التي لم يتعرّضها إلاّ قليل من الأصحاب .
- (1) السرائر 1 : 185 ـ 186 ، أحكام النجاسات.
- (2) فرائد الاُصول : 266 .
- (3) نهاية الاُصول: 538 .
- (4) كالمقنعة والنهاية والمقنع والإنتصار والغنية والوسيلة.
(الصفحة 46)
وأمّا التشريع فلا يخفى عدم استلزام الاحتياط له ، لأنّ اعتبار قصد التقرب في العبادة لا يقتضي قصده في كلّ من المحتملين ، حتّى يلزم التشريع ، بل اللاّزم الإتيان بما هو الواجب في الواقع بوصف أنّها عبادة مقرّبة ، فيقصد في كلّ منهما حصول التقرب به أو بصاحبه الذي يأتي به بعده ، أو أتى به قبله ، وهذا واضح جدّاً .
فتحصّل من جميع ما ذكرنا جواز الاكتفاء بالاحتياط ، ولو مع التمكّن من الامتثال العلمي التفصيلي ، بلا فرق بين ما إذا كان متوقّفاً على التكرار ، كما في المتبائنين ، وبين ما إذا لم يكن كذلك ، كما في الأقل والأكثر ، وقد عرفت أيضاً أنّ القائل بالمنع في الأول ، يلزمه القول بالمنع في الثاني أيضاً ، في خصوص ما إذا كان أمر الجزء الزائد مردّداً بين أن يكون واجباً ، أو لغواً ، لا مستحبّاً كما لايخفى .
العدول إلى صلاة أخرى
قد عرفت أنّه كما يجب قصد عنوان الصلاة ، كذلك يجب قصد الأنواع المندرجة تحتها من الظهرية والعصرية وغيرهما ، من العناوين التي لا ينصرف العمل المشترك من حيث الصورة إلاّ بالقصد إلى بعضها، وحينئذ فيقع الكلام في أنّه إذا شرع في الصلاة مع قصد بعض تلك العناوين ، فهل يجوز له العدول في الأثناء إلى بعضها الآخر .
كما إذا شرع فيها بقصد صلاة العصر ، ثم التفت في الأثناء إلى أنّه لم يأت بصلاة الظهر بعد ، فعدل إليها ، أو العكس .
وكما إذا شرع في نافلة الفجر بقصدها ، ثم عدل إلى فريضته ، أو العكس .
وكما إذا شرع في الصلاة بقصد عنوان الظهر في وقته ، ثم التفت إلى أنّه فاتت منه صلاة الغداة فعدل منها إليها .
(الصفحة 47)
فإنّه لا فرق بين أن يكون كلّ من المعدول عنه والمعدول إليه في وقته ، بأن كانا أدائيين ، أو كان واحد منهما قضاءً ، بل يظهر من كلمات الأصحاب(1) كون كلّ منهما قضاءً ، كما إذا شرع في قضاء العصر ، ثم التفت إلى أنّه فات منه الظهر أيضاً ، فعدل منه إليه .
ولا يخفى أنّ مقتضى الأصل والقاعدة عدم جواز العدول ، بحيث لو عدل تقع الصلاة فاسدة ، ولا تصلح لأن تصير مصداقاً للمعدول عنه ، ولا للمعدول إليه ، امّا عدم وقوعها مصداقاً للمعدول عنه ، فلأنّه تعتبر استدامة النية إلى آخر الصلاة ، فقصد عنوان الظهرية لا يؤثر في صيرورة الصلاة صلاة الظهر ، إلاّ إذا كان باقياً إلى الفراغ منها .
وأمّا عدم وقوعها مصداقاً للمعدول إليه ، فلأنّ القصد المحقّق لبعض العناوين ، لا يؤثر في تحقّقه بحيث يوجب تخصّص العمل بتلك الخصوصية ، إلاّ إذا كان ثابتاً حين الشروع في العمل ، وتأثير القصد الحادث في الأثناء في الأجزاء المأتيّ بها قبله ، بحيث صار موجباً لصيرورتها أجزاءً للمعدول إليه .
مضافاً إلى أنّه خلاف الأصل ـ لأنّ الأصل عدم التأثير ـ ومخالف لحكم العقل أيضاً ، فإنّه كيف يمكن أن يؤثر الشيء الحادث فيما يكون ثابتاً قبل حدوثه كما هو واضح ، ووقوعها مصداقاً لكلّ من المعدول عنه والمعدول إليه مستلزم لكلا المحذورين ، مضافاً إلى أنّه كيف يمكن أن تقع صلاة واحدة مصداقاً لأزيد من عنوان واحد ، كما هو أظهر من أن يخفى؟! .
وممّا ذكرنا ـ جواز العدول مخالف للأصل والقاعدة بل لحكم العقل ـ يظهر إنّه
- (1) المعتبر 2: 409; تذكرة الفقهاء 2: 361; جامع المقاصد 2: 495; مفتاح الكرامة 2: 47، وج3: 399; جواهر الكلام 13: 106; كشف اللثام 4: 438 .
(الصفحة 48)
قد وردت نصوص على الجواز في بعض الفروع ، فلا يجوز التعدّي عن موردها بوجه أصلا ، فاللاّزم أن ننظر إلى تلك النصوص حتّى يظهر موارد الترخيص .
فنقول : قد وردت في هذا الباب روايات .
منها : صحيحة زرارة الطويلة ، وهي ما رواه عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «إذا نسيت صلاة أو صلّيتها بغير وضوء وكان عليك قضاء صلوات فابدأ بأوّلهنّ فأذّن لها وأقم ، ثم صلّها ، ثم صلّ ما بعدها بإقامة إقامة لكلّ صلاة» . وقال : قال أبوجعفر(عليه السلام) : «وإن كنت قد صلّيت الظهر وقد فاتتك الغداة فذكرتها فصلّ الغداة أيّ ساعة ذكرتها ولو بعد العصر ، ومتى ما ذكرت صلاة فاتتك صلّيتها»، وقال : «إذا نسيت الظهر حتّى صلّيت العصر فذكرتها وأنت في الصلاة أو بعد فراغك فانوها الاُولى ثم صلّ العصر، فإنّما هي أربع ، مكان أربع وإن ذكرت أنّك لم تصلّ الأولى وأنت في صلاة العصر وقد صلّيت منها ركعتين فانوها الأولى ، ثم صلّ الركعتين الباقيتين ، وقم فصلّ العصر ، وإن كنت قد ذكرت أنّك لم تصلّ العصر حتى دخل وقت المغرب ولم تخف فوتها فصلّ العصر ثم صلّ المغرب ، فإن كنت قد صلّيت المغرب فقم فصلّ العصر ، وإن كنت قد صلّيت من المغرب ركعتين ثم ذكرت العصر فانوها العصر ثم قم فأتمّها ركعتين ثم تسلّم ثم تصلّي المغرب ، فإن كنت قد صلّيت العشاء الآخرة ونسيت المغرب فقم فصلّ المغرب ، وإن كنت ذكرتها وقد صلّيت من العشاء الآخرة ركعتين أو قمت في الثالثة فانوها المغرب ثم سلّم ، ثم قم فصلّ العشاء الآخرة ، فإن كنت قد نسيت العشاء الآخرة حتى صلّيت الفجر ، فصلّ العشاء الآخرة وإن كنت ذكرتها وأنت في الركعة الأولى أو في الثانية من الغداة فانوها العشاء ، ثم قم فصلّ الغداة وأذّن وأقم ، وإن كانت المغرب والعشاء قد فاتتاك جميعاً فابدأ بهما قبل أن تصلّي الغداة ، إبدأ بالمغرب ثم العشاء ، فإن خشيت أن تفوتك الغداة إن بدأت بهما فابدأ بالمغرب ثم الغداة ثم صلّ العشاء ، وإن
(الصفحة 49)
خشيت أن تفوتك الغداة إن بدأت بالمغرب فصلّ الغداة ثم صلّ المغرب والعشاء إبدأ بأوّلهما، لأنّهما جميعاً قضاء أيّهما ذكرت فلا تصلّهما إلاّ بعد شعاع الشمس».
قال : قلت : ولِمَ ذاك؟ قال : «لأنّك لست تخاف فوتها»(1) .
والمراد بقوله(عليه السلام) في صدر الرواية : فابدأ بأوّلهن فأذّن لها . . . ، يحتمل أن يكون إيجاب الابتداء بما فات منه أولاً من الصلوات الفائتة ، بمعنى أنّه يجب مراعاة الترتيب بينها ، ويحتمل أن يكون ذلك توطئة للحكم المذكور بعده ، وهو الأذان والإقامة ، بمعنى أنّ مايؤتى به أولاً يتأكّد له الأذان والإقامة معاً دون ما يؤتى به بعده ، فإنّه لا يتأكّد فيه إلاّ الإقامة وحدها ، فالمقصود بيان هذا المعنى ، لا إيجاب الابتداء بما فات أولاً .
ثم إنّ قوله : «وقال أبو جعفر(عليه السلام)» يحتمل أن يكون المقول لذلك القول قد ذكره الإمام(عليه السلام) متعاقباً للحكم الذي ذكره أولاً بلا فصل، ويحتمل أن يكون التعاقب ناشئاً من الراوي، بمعنى أنّ كلّ حكم من الأحكام المذكورة في الرواية قد صدر من الإمام(عليه السلام) في زمان ، والآخر قبله أو بعده ولو مع فصل ، غاية الأمر إنّ الراوي ذكرها في كتابه مثلا متعاقباً .
ثم إنّ المراد بقوله(عليه السلام) : «فصلّ الغداة أيّ ساعة ذكرتها ولو بعد العصر» ، يحتمل أن يكون وجوب الإتيان بها عند حدوث الذكر كما يقول به القائل بالمضائقة ، ويحتمل أن يكون وجوب الإتيان بها في حالة الذكر لا عند حدوثه ، وعلى الأول يحتمل أن يكون المراد به التوقيت كما يظهر من قدماء الأصحاب(2) ، بمعنى أنّ وقت القضاء إنما هو عند حدوث الذكر ، فإذا لم يأت بها في وقته، تصير قضاءً أيضاً .
- (1) الكافي 3 : 291 ح1; التهذيب 3 : 158 ح340; الوسائل 4 : 290. أبواب المواقيت ب63 ح1 .
- (2) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) 3: 38; السرائر 1: 272; الكافي في الفقه : 149; المهذّب 1: 126; التحرير 1: 50; المختصر النافع: 46; قواعد الأحكام 1: 310.