(الصفحة 460)
وقد صرت في حال اُخرى في الصلاة أو في غيرها، فشككت في بعض ما سمّى الله ممّا أوجب الله عليك فيه وضوءه، لا شيء عليك فيه، فإن شككت في مسح رأسك فأصبت في لحيتك بللاً فامسح بها عليه وعلى ظهر قدميك، فإن لم تصب بللاً فلا تنقض الوضوء بالشكّ، وامض في صلاتك، وإن تيقّنت أنّك لم تتمّ وضوءَك فأعد على ما تركت يقيناً حتى تأتي على الوضوء»(1).
وظاهرها أنّه إذا قام من الوضوء وفرغ منه وقد صار في حال اُخرى في الصلاة وغيرها فشك في بعض ما سمّى الله ممّا أوجب الله عليه وضوءَه فلا شيء عليه.
3 ـ موثقة عبدالله بن أبي يعفور عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه»(2). والضمير في «غيره» يحتمل أن يرجع إلى الوضوء الذي شكّ في شيء منه ويحتمل أن يرجع إلى نفس ذلك الشيء المشكوك، فعلى الأوّل تكون الرواية متعرّضة لقاعدة الفراغ بالنسبة إلى الوضوء، وعلى الثاني لقاعدة التجاوز بالنسبة إليه، فتصير حينئذ مخالفة للفتاوى، حيث أنّ قاعدة التجاوز لا تجري عندهم في الوضوء.
هذا، ويمكن أن يستظهر من الرواية الوجه الأوّل، لأنّ أجزاء الوضوء باعتبار عدم استقلالها لا تكون ملحوظة مستقلّة، بل الملحوظ بهذا النحو إنّما هو نفس الوضوء باعتبار كونه موضوعاً للأثر، وحينئذ فالظاهر أنّ الضمير يرجع إليه لا إلى أجزائه غير الملحوظة.
وكيف كان، فلو فرض إجمال الرواية ودار أمرها بين الوجهين لكانت دلالتها
- (1) الكافي 3: 33 ح2; التهذيب 1: 100 ح 261 ; الوسائل 1: 469. أبواب الوضوء ب42 ح1.
- (2) التهذيب 1: 101 ح262; السرائر 3 : 554; الوسائل 1: 469. أبواب الوضوء ب42 ح2.
(الصفحة 461)
على الوجه الأولّ متيقّنة كما لا يخفى. ثمّ إنّ الرواية تدلّ بظاهرها على اتحاد المراد بالدخول في الغير والتجاوز عن الشيء المشكوك فتدبّر.
4 ـ رواية بكير بن أعين قال: قلت له: الرجل يشكّ بعدما يتوضّأ؟ قال: «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ»(1).
5 ـ رواية إسماعيل بن جابر قال: قال أبوجعفر(عليه السلام) : «إن شكّ في الركوع بعدما سجد فليمض، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض، كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه»(2).
6 ـ رواية حمّاد بن عثمان قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : أشكّ وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا؟ فقال: «قد ركعت، امضه»(3).
7 ـ رواية عبدالرحمن بن أبي عبدالله قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال: «قد ركع»(4).
وهذه الروايات الواردة في هذا المقام، بعضها يدلّ على الفرع الأول من الفرعين اللّذين ذكرنا في صدر المبحث، أنّه لا ينبغي الريب في ثبوتهما، وبعضها يدلّ على الفرع الثاني.
ولا يذهب عليك أنّ ما ورد في الفرع الأوّل الذي هو مجرى قاعدة الفراغ ـ كالرواية الثامنة من روايات محمد بن مسلم التي رواها عنه ابن بكير ـ لا يشمل الفرع الثاني أيضاً، لأنّ موضوع الحكم بوجوب المضي فيه هو الشكّ في الأمر الماضي، الظاهر في كون المشكوك هو صحته لا أصل وجوده، والمفروض
- (1) التهذيب 1: 101 ح265; الوسائل 1: 471. أبواب الوضوء ب42 ح7 .
- (2) التهذيب 2: 153 ح602 ; الاستبصار 1: 358 ح 1359 ; الوسائل 6: 317. أبواب الركوع ب13 ح4.
- (3) التهذيب 2: 151 ح594; الاستبصار 1: 358 ح 1356; الوسائل 6: 317. أبواب الركوع ب13 ح2.
- (4) التهذيب 2: 151 ح596; الاستبصار 1: 358 ح1358; الوسائل 6: 318. أبواب الركوع ب13 ح6.
(الصفحة 462)
في قاعدة التجاوز الجارية في الفرع الثاني هو الشكّ في أصل الوجود بعد التجاوز عن محلّه، فلا يشمله ما دلّ بظاهره على قاعدة الفراغ، كما أنّ ما ورد في قاعدة التجاوز كرواية إسماعيل بن جابر المتقدّمة لا يعمّ قاعدة الفراغ، لأنّ موردها هو الشكّ في أصل الوجود ومجرى تلك القاعدة هو الشكّ في صحّة ما وجد.
ثمّ إنّه بعدما ظهر أنّه في مقام الإثبات لا يمكن استفادة شيء من القاعدتين من الدليل الوارد في الاُخرى، فهل يمكن الالتزام بأنّ مرجعهما في مقام الاعتبار والثبوت إلى ملاك واحد ومناط فارد؟ الظاهر العدم، لأنّ مرجع قاعدة الفراغ إلى أصالة الصحة في عمل النفس، نظير أصالة الصحة الجارية في عمل الغير.
وكما أنّ المستند في أصالة صحّة عمل الغير هو لزوم اختلال النظام لو اعتبر الشكّ في صحّة عمله ولم يجز البناء عليها كما هو واضح، كذلك المستند في أصالة صحّة عمل النفس هو لزوم الحرج الشديد والعسر الأكيد لو رتّب الأثر على احتمال عدم صحّته، وهذا بخلاف قاعدة التجاوز الجارية في أثناء العمل، فإنّ عدم اعتبارها لا يستلزم حرجاً ولا عسراً، كما نلاحظ ذلك في الموارد التي لم يعتبر فيها قاعدة التجاوز، كما في الطهارات الثلاث.
نعم، الظاهر أنّ الحكمة في اعتبارها في الصلاة هو أنّ المسلمين لمّا كانوا في الصدر الأوّل ملتزمين بصلاة الجماعة التي مرجعها إلى جعل المأمومين صلاتهم تبعاً لصلاة الإمام ، فلو لم تعتبر قاعدة التجاوز فيها يلزم اشتغال المأمومين بعضهم بعمل مغاير لما اشتغل به الآخر، فتختلّ صورة الجماعة كما هو غير خفيّ.
وكيف كان، فالظاهر اختلاف الملاك وتعدّده في القاعدتين، وحينئذ فلابدّ من ملاحظة كلّ منهما على سبيل الاستقلال.
(الصفحة 463)
قاعدة التجاوز
قاعدة التجاوز، وإن كان اختصاص مورد جريانها بالشكّ في أصل وجود الجزء بعد التجاوز عن محلّه، إلاّ أنّه يستفاد منها الشكّ في صحّة الجزء المأتيّ به بمفهوم الموافقة، لأنّه إذا كان الحكم فيما لو شكّ في أصل الوجود هو البناء على الوجود، ففيما لو شكّ في صحّة ما وجد يكون الحكم بها بطريق أولى كما لا يخفى، ولانحتاج إلى ادعاء أنّ مرجع الشكّ في الصحة أيضاً إلى الشكّ في الوجود الصحيح كما ادّعاه الشيخ المحقّق الأنصاري(قدس سره)(1).
ثمّ إنّ قاعدة التجاوز تختص بالصلاة ولا تجري في غيرها كما عرفت، وصحيحة زرارة المتقدّمة الواردة في الصلاة وإن كانت ظاهرة في جريانها بالنسبة إلى الأذان والإقامة مع أنّهما ليسا من الصلاة، إلاّ أنّ الظاهر أنّ جريانها فيهما باعتبار كونهما مقدّمة للصلاة، فكأنّهما من أجزائها كما لا يخفى.
ثمّ المشهور بين الأصحاب هو أنّه يعتبر في قاعدة التجاوز، التجاوز عن محلّ المشكوك والدخول في الغير الذي كان من أجزاء الصلاة، ولا يكفي الدخول في مقدّمة الجزء، فلو شكّ في الركوع وقد أهوى إلى السجود أو شكّ في السجود وقد نهض إلى القيام، يجب عليه الاعتناء بالشكّ والعود للتدارك، ولا تجري قاعدة التجاوز(2).
هذا، وذهب جمع من المتأخّرين إلى أنّ المراد بالغير الذي يعتبر الدخول فيه
- (1) فرائد الاصول: 410 .
- (2) البيان : 253; الروضة البهيّة 1 : 323; روض الجنان: 349; رياض المسائل 4: 229; الحدائق 9: 179 .
(الصفحة 464)
غير الشيء الذي شكّ في تحقّقه، سواء كان من أجزاء الصلاة أو من مقدّمات الجزء(1)، ويدلّ عليه إطلاق قوله(عليه السلام) في رواية زرارة: «إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره»، فإنّ ظاهر كلمة «الغير» هو ما يغاير الشيء الذي شكّ فيه، والمغايرة بين الركوع وبين الهويّ إلى السجود متحقّقة، خصوصاً إذا جلس وانحنى بمقدار ركوع من يصلّي جالساً.
ويؤيّد هذا أنّ الملاك في عدم الاعتناء بالشكّ هو الدخول في الغير الذي كان من أجزاء الصلاة، والظاهر اعتبار وجود الإرادة الارتكازية المتعلقة بالإتيان بالمركب الناشئة منها إرادات اُخرى متعلّقة بأجزاء المركّب، فالاتيان بالشيء المشكوك عن إرادة متعلّقة به، موجود فيما لو لم يكن الغير من أجزاء الصلاة أيضاً.
هذا ، ولكن رواية عبد الرحمن بن أبي عبدالله تدلّ بظاهرها على التفصيل بين ما إذا شكّ في الركوع وقد أهوى إلى السجود فلا يعتني بشكّه، وبين ما إذا شكّ في السجود وقد نهض إلى القيام قبل أن يستوي قائماً فيعتني بشكّه ويرجع للسجود، حيث قال بعد السؤال عن حكم الصورة الاُولى والجواب عنه: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : رجل رفع رأسه من السجود فشكّ قبل أن يستوي جالساً، فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال: يسجد. قلت: رجل نهض من سجوده فشكّ قبل أن يستوي قائماً، فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال: «يسجد»(2) ولكن الرواية معرض عنها عند الأصحاب.
نعم، قد عمل بها السيّد(قدس سره) في العروة في خصوص موردها، فحكم بوجوب الرجوع إلى السجود مع الشكّ فيه، وقد نهض إلى القيام ولما يقم بعد، وعدم
- (1) منهم: صاحب ذخيرة المعاد: 376 وجواهر الكلام 12: 316 ـ 318 ومدارك الأحكام 4: 249.
- (2) التهذيب 2 : 153 ح603; الإستبصار 1: 359 ح1371; الوسائل 6: 369. أبواب السجود ب15 ح6.