(الصفحة 462)
في قاعدة التجاوز الجارية في الفرع الثاني هو الشكّ في أصل الوجود بعد التجاوز عن محلّه، فلا يشمله ما دلّ بظاهره على قاعدة الفراغ، كما أنّ ما ورد في قاعدة التجاوز كرواية إسماعيل بن جابر المتقدّمة لا يعمّ قاعدة الفراغ، لأنّ موردها هو الشكّ في أصل الوجود ومجرى تلك القاعدة هو الشكّ في صحّة ما وجد.
ثمّ إنّه بعدما ظهر أنّه في مقام الإثبات لا يمكن استفادة شيء من القاعدتين من الدليل الوارد في الاُخرى، فهل يمكن الالتزام بأنّ مرجعهما في مقام الاعتبار والثبوت إلى ملاك واحد ومناط فارد؟ الظاهر العدم، لأنّ مرجع قاعدة الفراغ إلى أصالة الصحة في عمل النفس، نظير أصالة الصحة الجارية في عمل الغير.
وكما أنّ المستند في أصالة صحّة عمل الغير هو لزوم اختلال النظام لو اعتبر الشكّ في صحّة عمله ولم يجز البناء عليها كما هو واضح، كذلك المستند في أصالة صحّة عمل النفس هو لزوم الحرج الشديد والعسر الأكيد لو رتّب الأثر على احتمال عدم صحّته، وهذا بخلاف قاعدة التجاوز الجارية في أثناء العمل، فإنّ عدم اعتبارها لا يستلزم حرجاً ولا عسراً، كما نلاحظ ذلك في الموارد التي لم يعتبر فيها قاعدة التجاوز، كما في الطهارات الثلاث.
نعم، الظاهر أنّ الحكمة في اعتبارها في الصلاة هو أنّ المسلمين لمّا كانوا في الصدر الأوّل ملتزمين بصلاة الجماعة التي مرجعها إلى جعل المأمومين صلاتهم تبعاً لصلاة الإمام ، فلو لم تعتبر قاعدة التجاوز فيها يلزم اشتغال المأمومين بعضهم بعمل مغاير لما اشتغل به الآخر، فتختلّ صورة الجماعة كما هو غير خفيّ.
وكيف كان، فالظاهر اختلاف الملاك وتعدّده في القاعدتين، وحينئذ فلابدّ من ملاحظة كلّ منهما على سبيل الاستقلال.
(الصفحة 463)
قاعدة التجاوز
قاعدة التجاوز، وإن كان اختصاص مورد جريانها بالشكّ في أصل وجود الجزء بعد التجاوز عن محلّه، إلاّ أنّه يستفاد منها الشكّ في صحّة الجزء المأتيّ به بمفهوم الموافقة، لأنّه إذا كان الحكم فيما لو شكّ في أصل الوجود هو البناء على الوجود، ففيما لو شكّ في صحّة ما وجد يكون الحكم بها بطريق أولى كما لا يخفى، ولانحتاج إلى ادعاء أنّ مرجع الشكّ في الصحة أيضاً إلى الشكّ في الوجود الصحيح كما ادّعاه الشيخ المحقّق الأنصاري(قدس سره)(1).
ثمّ إنّ قاعدة التجاوز تختص بالصلاة ولا تجري في غيرها كما عرفت، وصحيحة زرارة المتقدّمة الواردة في الصلاة وإن كانت ظاهرة في جريانها بالنسبة إلى الأذان والإقامة مع أنّهما ليسا من الصلاة، إلاّ أنّ الظاهر أنّ جريانها فيهما باعتبار كونهما مقدّمة للصلاة، فكأنّهما من أجزائها كما لا يخفى.
ثمّ المشهور بين الأصحاب هو أنّه يعتبر في قاعدة التجاوز، التجاوز عن محلّ المشكوك والدخول في الغير الذي كان من أجزاء الصلاة، ولا يكفي الدخول في مقدّمة الجزء، فلو شكّ في الركوع وقد أهوى إلى السجود أو شكّ في السجود وقد نهض إلى القيام، يجب عليه الاعتناء بالشكّ والعود للتدارك، ولا تجري قاعدة التجاوز(2).
هذا، وذهب جمع من المتأخّرين إلى أنّ المراد بالغير الذي يعتبر الدخول فيه
- (1) فرائد الاصول: 410 .
- (2) البيان : 253; الروضة البهيّة 1 : 323; روض الجنان: 349; رياض المسائل 4: 229; الحدائق 9: 179 .
(الصفحة 464)
غير الشيء الذي شكّ في تحقّقه، سواء كان من أجزاء الصلاة أو من مقدّمات الجزء(1)، ويدلّ عليه إطلاق قوله(عليه السلام) في رواية زرارة: «إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره»، فإنّ ظاهر كلمة «الغير» هو ما يغاير الشيء الذي شكّ فيه، والمغايرة بين الركوع وبين الهويّ إلى السجود متحقّقة، خصوصاً إذا جلس وانحنى بمقدار ركوع من يصلّي جالساً.
ويؤيّد هذا أنّ الملاك في عدم الاعتناء بالشكّ هو الدخول في الغير الذي كان من أجزاء الصلاة، والظاهر اعتبار وجود الإرادة الارتكازية المتعلقة بالإتيان بالمركب الناشئة منها إرادات اُخرى متعلّقة بأجزاء المركّب، فالاتيان بالشيء المشكوك عن إرادة متعلّقة به، موجود فيما لو لم يكن الغير من أجزاء الصلاة أيضاً.
هذا ، ولكن رواية عبد الرحمن بن أبي عبدالله تدلّ بظاهرها على التفصيل بين ما إذا شكّ في الركوع وقد أهوى إلى السجود فلا يعتني بشكّه، وبين ما إذا شكّ في السجود وقد نهض إلى القيام قبل أن يستوي قائماً فيعتني بشكّه ويرجع للسجود، حيث قال بعد السؤال عن حكم الصورة الاُولى والجواب عنه: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : رجل رفع رأسه من السجود فشكّ قبل أن يستوي جالساً، فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال: يسجد. قلت: رجل نهض من سجوده فشكّ قبل أن يستوي قائماً، فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال: «يسجد»(2) ولكن الرواية معرض عنها عند الأصحاب.
نعم، قد عمل بها السيّد(قدس سره) في العروة في خصوص موردها، فحكم بوجوب الرجوع إلى السجود مع الشكّ فيه، وقد نهض إلى القيام ولما يقم بعد، وعدم
- (1) منهم: صاحب ذخيرة المعاد: 376 وجواهر الكلام 12: 316 ـ 318 ومدارك الأحكام 4: 249.
- (2) التهذيب 2 : 153 ح603; الإستبصار 1: 359 ح1371; الوسائل 6: 369. أبواب السجود ب15 ح6.
(الصفحة 465)
وجوب الرجوع للتشهد مع الشكّ فيه كذلك(1).
وأنت خبير بأنّ هذا مستبعد جدّاً، إذ لا خصوصية لمورد الرواية أصلاً; فالإنصاف أنّ الرواية مطروحة باعتبار إعراض الأصحاب عنها، حيث إنّهم لم يفصلوا بين المقامين، بل أفتوا بوجوب الرجوع والعود للتدارك فيهما معاً.
ويدلّ على مقالتهم رواية إسماعيل بن جابر المتقدّمة، حيث إنّ الظاهر كون الفرعين المذكورين أوّلاً توطئة للقاعدة الكلّية المقرّرة بقوله(عليه السلام): «كلّ شيء شكّ فيه...». وحينئذ فيظهر منه أنّ السجود والقيام حدّ للغير الذي يعتبر الدخول فيه، وأنّه لا غير أقرب من السجود بالنسبة إلى الركوع ومن القيام بالنسبة إلى السجود، لأنه لو كان الهويّ إلى السجود كافياً في عدم الاعتناء بالشكّ في الركوع، والنهوض للقيام كافياً عند الشكّ في السجود، لكان أخذ السجود والقيام في مقام التوطئة مستهجناً جدّاً كما هو ظاهر.
فالرواية ظاهرة في أنّ الهويّ إلى السجود والنهوض للقيام لا يتحقق بشيء منهما الدخول في الغير الذي يوجب عدم الاعتناء بالشكّ. هذا، والظاهر أنّ الشهرة حيث كانت في المسائل الفرعيّة لا المسائل الأصليّة التي تكشف الشهرة فيها عن وجود نصّ معتبر في البين، فلا مانع من مخالفتها، لعدم كونها كاشفة حينئذ عن النصّ، والرواية قد عرفت أنّها معرض عنها، مضافاً إلى أنّه يمكن أن يكون المراد بالهويّ إلى السجود البلوغ إلى حدّ السجود، فلا دلالة لها على التفصيل بين الصورتين.
وكيف كان، فالظاهر إطلاق كلمة الغير وشمولها لمقدّمات الأجزاء أيضاً، خصوصاً بعدما عرفت من وجود الملاك فيما إذا دخل في مقدّمات الأجزاء أيضاً،
- (1) العروة الوثقى1: 650. احكام الشكوك مسألة 10.
(الصفحة 466)
مضافاً إلى أنّه من البعيد الفرق بين من أهوى إلى السجود ولمّا يبلغ حدّه، وبين من هوى إليه وبلغ حدّه، وهكذا بالنسبة إلى الناهض للقيام، ولمّا يبلغ حدّه والناهض له المستوي قائماً.
نعم، يمكن الفرق بين الصورتين ـ كما في رواية عبدالرحمن بن أبي عبدالله المتقدّمة ـ بأنّ من أهوى إلى السجود ولم يبلغ حدّه يصدق عليه أنّه جاوز عن محلّ الركوع ودخل في غيره، وأمّا من كان ناهضاً للقيام وكان في حالة بين حالتي الجلوس والقيام، فمرجع شكّه في أنّه سجد أم لم يسجد إلى أنّ هذه الحالة التي هو فيها هل هي الحالة المسبوقة بالجلوس للسجود أو الحالة المسبوقة بالقيام بعد الركوع، وأنّه مهو من القيام إلى السجود.
ومن المعلوم أنّه مع هذا الشكّ لا يتحقق عنوان التجاوز أصلاً، كمن شكّ في حال القيام في أنّ قيامه هل هو القيام المسبوق بالركوع، أو القيام الذي يجب له أن يركع بعده؟.
وبعبارة أُخرى: شكّ في أنّ هذا القيام هل هو القيام للركوع أو القيام عن الركوع؟
فإنّه لا شبهة في أنّه يجب عليه أن يركع ولا يعتني باحتمال كون هذا القيام مسبوقاً بالركوع، وحينئذ فلا تكون الرواية مخالفة للروايات المتقدّمة الواردة في قاعدة التجاوز. هذا كلّه في قاعدة التجاوز.
قاعدة الفراغ:
أمّا قاعدة الفراغ فمقتضى أكثر الروايات الواردة فيها، أنّ مجريها هو مجرّد الفراغ والانصراف من العمل الذي كان مشتغلاً به، مثل ما رواه عليّ بن رئاب عن