(الصفحة 480)
ومنها : رواية الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه قال: «إذا لم تدر إثنتين صلّيت أم أربعاً ولم يذهب وهمك إلى شيء فتشهّد وسلّم ثمّ صلِّ ركعتين وأربع سجدات، تقرأ فيهما بأُمّ الكتاب ثمّ تشهّد وتسلّم، فإن كنت إنّما صلّيت ركعتين كانتا هاتان تمام الأربع، وإن كنت صلّيت أربعاً كانتا هاتان نافلة»(1).
ومنها : موثّقة صفوان عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: «إن كنت لا تدري كم صلّيت ولم يقع وهمك على شيء فأعد الصلاة»(2).
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ ما يمكن الاستدلال به لاعتبار الظنّ في الأوّلتين أيضاً من هذه الروايات، موثّقة صفوان، لأنّ مورد غيرها من سائر الروايات يختص بغير الأوّلتين كما هو ظاهر، فلابدّ حينئذ من ملاحظة مدلولها.
فنقول: ربّما يقال : بأنّ رواية صفوان لأجل احتمال كون المراد به هو خصوص صورة التردّد بين الاحتمالات الكثيرة الذي هو ما اصطلح عليه الفقهاء، تكون النسبة بينها وبين الأدلة الدالة على اعتبار العلم في الأوليين عموماً من وجه، لأنّ التردّد بين احتمالات كثيرة أعم من أن يكن في البين قدر متيقّن أو لا، فمن موارده ما إذا حفظ الأُوليين ثمّ تردّد بين احتمالات شتّى، وحينئذ فيشكل تقديمها على تلك الأدلة، نعم لو استفيد كون اعتبار الظنّ من حيث الطريقيّة يتم المقصود، فإنّه يكون دليل اعتباره حاكماً على أدلّة اعتبار العلم في الأوليين ولكنّه في غاية الاشكال.
ولا يخفى أنّ الظاهر من الرواية بعد عدم إمكان حملها على ما إذا فاتت منه صلوات لا يدري مقدارها، ولم يقع وهمه على شيء، لأنّ الحكم بوجوب الإعادة ينافي ذلك أنّ المراد به ما إذا كان عدد الركعات مجهولاً، سواء كان قدر متيقّن في
- (1) الفقيه1: 229 ح 1015; الكافي 3: 353 ح8 ; الوسائل 8 : 219 .أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب11 ح1.
- (2) الكافي 3: 8 35 ح1; التهذيب 2: 87 1 ح 744; الاستبصار 1: 373 ح 1419; الوسائل 8 : 225 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب15 ح1.
(الصفحة 481)
البين أم لم يكن; لأنّه في الصورة الاُولى يصدق أيضاً أنّه لا يدري كم صلّى.
وما ذكره من أنّ مصطلح الفقهاء في مثل هذا التعبير هو ما إذا كان التردّد بين احتمالات كثيرة; ممنوع جدّاً، ضرورة أنّه ليس لهم في استعمال كلمة «كم» إصطلاح خاصّ مغاير لمعناها بحسب اللغة .
نعم قد تعرّض الفقهاء لهذه المسألة ـ أي ما كان التردّد فيها بين احتمالات كثيرة ـ وحكموا فيها بالبطلان، ولكنّ الظاهر أنّ حكمهم بالبطلان فيها ليس لمدخلية كثرة الاحتمال فيه، بل لكون الركعتين الأوليين أيضاً من أطراف الاحتمال مع أنهما لا تحتملان السهو كما عرفت، فالإنصاف تمامية دلالة الموثقة على اعتبار الظنّ في الأوليين أيضاً.
أمّا اعتباره في الأفعال التي هي مقابل الركعات ومن أجزائها، فنقول: ـ بعد عدم اختصاص هذا النزاع بخصوص من يقول باعتباره في الركعات مطلقاً، لأنّه يجري ولو على القول باعتباره في خصوص الركعتين الأخيرتين، غاية الأمر أنّه بناءً عليه يختصّ النزاع بالأفعال التي تكون من أجزاء الأخيرتين كما لا يخفى ـ ربّما يستدلّ له بالأولويّة وأنّ أدلّة حجّية الظنّ في الركعة تدلّ على حجّية أفعالها بطريق أولى، وتوضيح هذا الدليل وتتميمه يتوقّف على ثلاث مقدّمات:
المقدمة الاُولى: إنّ الظنّ المتعلّق بالركعة لا يكون ظنّاً واحداً متعلّقاً بأمر واحد، ضرورة أنّ الركعة عبارة عن عدّة أفعال وأقوال مختلفة بحسب الحقيقة، والتركيب بينها تركيب اعتباريّ الذي مرجعه إلى ملاحظة الاُمور المختلفة المتعدّدة شيئاً واحداً وأمراً فارداً، باعتبار وحدة الغرض المترتّب عليها، فالكثرة فيه حقيقية والوحدة إعتبارية، بخلاف المركبات الحقيقية التي تكون الوحدة فيها حقيقية، والكثرة اعتبارية.
(الصفحة 482)
فالركعة عبارة عن جملة من الأعمال المختلفة المجتمعة، فالظنّ المتعلّق بها ليس ظنّاً واحداً، بل ينحلّ إلى الظنون المتعدّدة حسب تعدّد أفعال الركعة.
المقدمة الثانية: إنّه لا إشكال بعد انحلال الظنّ المتعلّق بالركعة إلى الظنون المتعدّدة، ودلالة الدليل على حجّية الظنّ بها، في أنّ كلّ ظن من تلك الظنون المتعدّدة إنّما يعتبر بالنسبة إلى متعلّقه، بمعنى أنّ الظنّ بالقراءة التي هي من أجزاء الركعة إنّما يعتبر بالنسبة إلى خصوص القراءة المظنونة، ولا معنى لأن يكون الظنّ بالقراءة معتبراً بالنسبة إلى الركوع مثلاً، والظنّ بالركوع حجّة بالإضافه إلى القراءة، فكل واحد من تلك الظنون إنّما يكون معتبراً في خصوص متعلّقه.
المقدمة الثالثة: إنّه إذا كان الظنّ المتعلّق ببعض أفعال الركعة حجّة ـ فيما لو كان سائر أفعال الركعة مظنوناً أيضاً كما هو مرجع اعتبار الظنّ المتعلّق بالركعة ـ ففيما لو كان سائر أفعالها معلوماً بالعلم الوجداني تكون حجّيته بالنسبة إلى الفعل المظنون بطريق أولى، فالدليل الدالّ على الاعتبار في الصورة الاُولى يدلّ على اعتباره في الصورة الثانية بالأولويّة.
ويمكن المناقشة في الأولويّة بأن يقال: إنّ اعتبار الظنّ المتعلّق ببعض أفعال الركعة إنّما هو لكونه طريقاً إليه، وأمارة بالنسبة إلى متعلّقه. ومقارنة هذا الظنّ مع الظنون المتعلّقة بباقي أفعال الركعة كما أنّها لا تؤثر في هذا الظنّ، كذلك مقارنته مع العلوم المتعلّقة بباقيها.
وبعبارة اُخرى: لا فرق في حجّية الظنّ بالقراءة مثلاً بين أن يكون سائر أفعال الركعة مظنوناً أو معلوماً، وتعلّق العلم بباقي أفعالها لا يوجب أن يكون الظنّ بها حجّة بطريق أولى بعد عدم تأثير المقارنة مع شيء منهما فيها; فدعوى الأولويّة ممنوعة.
ولكنّ يمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بأنّ مرجع اعتبار الظنّ في الركعة
(الصفحة 483)
وجوداً وعدماً إلى أنّه لو كانت الصلاة فاقدة للركعة التي ظن بإتيانها، أو واجدة للركعة الزائدة التي ظن بعدم الإتيان فأتى بها تكون صحيحة منطبقة لعنوان الصلاة. ومرجع اعتبار الظنّ في الفعل إلى أنّه لو كانت الصلاة فاقدة لفعل من أفعال الركعة الذي كان وجوده مظنوناً، أو واجدة لفعل زائد من أفعالها الذي ظن بعدم الإتيان به فأتى به، لكانت مع ذلك صحيحة واقعاً ومنطبقة لعنوان الصلاة.
ومن المعلوم أنّ الحكم بصحّة الصلاة فيما إذا كانت فاقدة لركعة أو واجدة لركعة زائدة يستلزم الحكم بالصحة فيما إذا كانت فاقدة لفعل أو واجدة لفعل زائد بطريق أولى كما لا يخفى.
هذا، والظاهر أنّ هذا الجواب ممنوع، لأنّه لا فرق في عدم تحقق المركّب بين أن يكون فاقداً لجزء أو فاقداً لأجزاء كثيرة،وكذا بين أن يكون مشتملاً على جزء زائد اعتبر عدمه أو أجزاء زائدة كذلك، ولا يكون عدم تحقّقه في الصورة الثانية أولى منه في الصورة الاُولى.
وبالجملة: إثبات الأولوية في غاية الإشكال، ولكنّ الاستدلال لا يتوقّف على دعواها، بل يتم ولو لم تكن أولوية، بتقريب أنّه لو فصّل بين الظنّ بالركعة والظنّ بأفعالها بعدم حجية الثاني دون الأول، يكون مرجع هذا التفصيل إلى أنّه يعتبر في حجية الظنّ بالقراءة مثلاً أن لا يكون سائر أفعال الركعة متحققاً ومأتياً به في الخارج، أو إلى مانعية الإتيان بسائر أفعال الركعة عن حجية الظن بالقراءة.
ومن الواضح أنّه لا مجال لتوهّم ذلك، فإنّه كيف يعقل بعد ثبوت الجزئية لسائر أفعال الركعة أن يكون عدمها معتبراً في حجية الظن بالقراءة أو وجودها مانعاً عنها، فالدليل على حجية الظن بالركعة يدلّ بإلغاء الخصوصية على اعتبار الظنّ بأفعالها، وإن شئت قلت: يدلّ على ذلك بمفهوم الموافقة الذي هو عبارة عن إلغاء الخصوصية، وإن كان في مصطلح المتأخرين من الأصوليين منحصراً بما إذا كان هنا
(الصفحة 484)
أولوية، ولكنّه في الأصل كان عبارة عن مطلق ما إذا لم يكن للخصوصية المذكورة في المنطوق مدخلية في ترتب الحكم، سواء كانت أولوية في البين أم لم تكن.
وبالجملة: لا مجال للإشكال في دلالة ما يدلّ على اعتبار الظنّ بالركعة على اعتبار الظنّ بالأفعال لا بالأولوية بل بإلغاء الخصوصية.
ويؤيّد ما ذكرنا قوله(عليه السلام) فيمن شكّ في الركوع وقد أهوى إلى السجود: «قد ركع»(1)، فإنّ هذا التعبير لا يكون إخباراً عن الواقع بأنّه قد تحقق منه الركوع، بل الظاهر أنّه بملاحظة أنّ التجاوز عن المحل أمارة مفيدة للظنّ النوعي بتحقق المشكوك في محلّه، فمرجعه إلى اعتبار الظنّ النوعي المتعلّق بإتيانه في محلّه، فمرجعه إلى اعتبار الظنّ النوعي المتعلّق بإتيانه في محلّه ، فإذا ظنّ ذلك بالظن الشخصي فلا محالة يكون حجّة، كما أنّه لو ظنّ بعدم الاتيان به في محلّه لا مجال حينئذ لاعتبار الظنّ النوعي على الخلاف.
وبالجملة: يستفاد من مثل هذا التعبير كفاية الظنّ ولو نوعاً في الإتيان بالشيء في محله، ونظير هذا التعبير ما ورد في تكبيرة الإحرام، وأنّه كيف يتركها المصلّي، فإنّ مرجعه أيضاً إلى ثبوت الأمارة الظنّية على الإتيان بها وكونها حجّة معتبرة كما هو غير خفيّ.
ويؤيّد ما ذكرنا أيضاً أنّ الظنّ إذا كان قويّاً يكون معتبراً عند العقلاء بلا ريب، حيث إنّهم يجعلونه بمنزلة العلم في العمل على طبقه وترتيب آثار الواقع عليه، فلا مجال لدعوى عدم اعتباره، وحينئذ فبضميمة عدم القول بالفصل بينه وبين الظنّ الضعيف هنا قطعاً يتمّ المطلوب; فانقدح من جميع ما ذكرنا إعتبار الظنّ في الصلاة مطلقاً.
- (1) الوسائل 6: 318. أبواب الركوع ب13 ح6 .