(الصفحة 55)
ثم إنّ مقتضى الروايات المتقدّمة الدالة على جواز العدول هل يكون جوازه في خصوص ما إذا شرع في المعدول عنه في الوقت المشترك بينه وبين المعدول إليه ، أو يعمّ ما إذا شرع في الأول ، ولو في الوقت المختصّ بالثاني؟ كأن نوى العصر بتخيل الإتيان بالظهر في الوقت المختصّ بها بناءً على القول باختصاص أوّل الوقت بها ، كما هو المشهور(1) ، وأمّا بناءً على الاشتراك في جميع الوقت من أوّله إلى آخره ، كما يقول به الصدوقان(2) ، فلا إشكال في جواز العدول ، لعدم الفرق بين أجزاء الوقت .
قد يقال بالاختصاص ، بما إذا وقع في الوقت المشترك نظراً إلى أنّ مقتضى الأخبار أنّ العدول إلى الفريضة السابقة إنما يصحّح خصوصية الترتيب المعتبر في صحة الصلاة اللاحقة كالعصر مثلا ، وبعبارة اُخرى ، إنّ الترتيب معتبر في صحة الصلاة اللاحقة ، واعتباره إنما هو في حال الذكر فقط ، ولذا لو تذكّر بعد الفراغ عن العصر تكون صلاته صحيحة ، ويجب عليه الإتيان بالظهر بعدها .
وحينئذ فالروايات الدالة على جواز العدول في الأثناء تدلّ على أنّه لو تذكّر في الأثناء يمكن له مراعاة هذا الشرط بجعلها الصلاة الأولى ثم الإتيان بالثانية ، فالعدول إنما يؤثر في مراعاة هذا القيد فقط ، وأمّا لو كانت صلاة العصر مثلا فاقدة لبعض الشرائط الاُخر أيضاً ، كوقوعها في غير وقتها ، فلا يؤثر العدول أصلا ، كما إذا كانت فاقدة للطهارة ، أو للقبلة ، أو لغيرهما من الشرائط .
وبالجملة : فمقتضى إطلاق أدلة العدول جوازه ، فيما لو تحقق لوقعت الصلاة التي عدل إليها واجدة للشرائط المعتبرة فيها ، وأمّا وقوع المعدول عنها فاقدة لبعض
- (1) الخلاف 1: 257. مسألة 4; المبسوط 1: 72; الغنية: 69; السرائر 1: 195; المعتبر 2: 27; كشف اللثام 3: 69; مستند الشيعة 4: 22; مسالك الأفهام 1: 138; رياض المسائل 3: 33.
- (2) المقنع : 106 ـ 107; الهداية: 127; وحكاه عن الصدوقين في رياض المسائل 3: 35،
- ولكن في المختلف حكاه عن أبي جعفر ابن بابويه فقط.
(الصفحة 56)
الشرائط المعتبرة في خصوصها ، فلا يضرّ أصلا بعد فرض أنّ العدول يؤثر في صيرورة الصلاة من أولها إلى آخرها ، الصلاة الأولى كما عرفت .
إن قلت : لا مجال لإنكار ظهور أدلة العدول بأنه لولا التذكّر في الأثناء المجوّز للعدول ، لوقعت المعدول عنها صحيحة ، وذلك يقتضي كونها واجدة للشرائط المعتبرة فيها مطلقاً في حال الذكر والنسيان ، والوقت من جملتها ، وإن شئت قلت : إنّ الأدلة متضمنة لجواز العدول من العصر إلى الظهر مثلا ، فاللاّزم أن تكون الصلاة صلاة العصر حتّى يجوز العدول عنها إلى الظهر ، ومن المعلوم أنّ مجرّد نية العصر لا تؤثر ما لم تكن واجدة لسائر الشرائط التي من جملتها الوقت ، إلاّ بناءً على قول الأعمّي كما لا يخفى ، مضافاً إلى ضعف التمسّك بالإطلاق مع كون الفرض من الفروض النادرة، خصوصاً مع كون المعروف بين المسلمين في وقت صلاة العصر هو الإتيان بها في أواسط الوقت ، فالإتيان بها في الوقت المختصّ بالظهر في غاية الندرة.
قلت : وقوع صلاة العصر في الوقت المختصّ بالظهر إنما يؤثر في بطلانها لو لم يعدل في أثنائها إلى السابقة التي تكون واقعة في وقتها ، وإلاّ فمع العدول لا دليل على بطلانها من الأول . وبعبارة اُخرى عروض البطلان للصلاة اللاحقة الواقعة في غير وقتها إنما يكون مراعى ببقائها إلى آخرها بعنوانها ، وأمّا لو عدل عنها في الأثناء إلى غيرها السابق عليها فلا دليل على البطلان أصلا . نعم ما ذكره من منع الإطلاق لكون الفرض من الفروض النادرة ممّا لا بأس به ، بل الظاهر ذلك كما لا يخفى .
ثم إنّ هذا كلّه فيما لو تذكّر في الأثناء ولم يتجاوز محل العدول ، وأمّا لو تجاوزه كأن تذكّر في العشاء بعد الركوع الأخير ، أو بعد السجدتين الأخيرتين ، إنّه فاتت منه صلاة المغرب ، قال صاحب الجواهر في رسالة نجاة العباد بوجوب الاتمام
(الصفحة 57)
والاتيان بالسابقة بعدها(1) ، وذكر السيد(قدس سره) في حاشية تلك الرسالة أنّ الأحوط إعادة اللاحقة أيضاً(2) .
هذا، والظاهر إنّه لم يقل أحد ببطلان اللاحقة ووجوب الإتيان بها بعد السابقة ، وتحقيق المسألة أن يقال : إنّ مقتضى بعض الأخبار المتقدّمة(3) ، أنّه لو نسي المغرب حتّى صلّى العشاء وفرغ منها ، يأتي بالمغرب بعدها ولا يجب إعادة العشاء ، كما يدلّ عليه أيضاً صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) الواردة في الخلل الدالة على أنّه «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود»(4) والشرط المفقود في المقام ليس من الخمس المذكور فيها .
فالمستفاد منهما أنّ اعتبار الترتيب الذي يستفاد من قوله(عليه السلام) : «إذا زالت الشمس . فقد دخل وقت الصلاتين، إلاّ أنّ هذه قبل هذه»(5) ، مختصّ بحال الذكر ، ويسقط فيما لو ذهل عن الواقع وأتى بالعشاء قبل المغرب ، وحينئذ فلا إشكال في سقوط شرطية الترتيب مع الغفلة عن الواقع ، حتّى فرغ من صلاة العشاء .
وإنما الإشكال فيما لو تذكّر في الأثناء ، فنقول : لو فرض أنّه لم يدلّ دليل على جواز العدول ، وقلنا بعدم جوازه كما عرفت أنّه مقتضى القاعدة ، فهل يستفاد من صحيحة زرارة الدالة على السقوط لو تذكّر بعد الفراغ ، وكذا من حديث لا تعاد عدم وجوب الإعادة ، لو زالت غفلته في الأثناء ، وسقوط شرطية الترتيب مع التذكر قبل الفراغ؟
الظاهر نعم ، فإنّه لا يختصّ حديث لا تعاد بالتذكّر بعد الفراغ ، فإنّه لو تذكّر في
- (1 و 2) نجاة العباد : 112 ، أحكام النية .
- (3) الوسائل 4 : 289. أبواب المواقيت ب62 ح6 .
- (4) الفقيه 1 : 181 ح857 ; التهذيب 2 : 152 ح597; الوسائل 4 : 312. أبواب القبلة ب9 ح1.
- (5) التهذيب 2 : 27 ح78; الاستبصار 1 : 262 ح941; الوسائل 4 : 181. أبواب المواقيت ب16 ح24 .
(الصفحة 58)
الركعة الثانية مثلا أنه لم يقرأ في الركعة الأولى ، فلا إشكال في عدم وجوب الإعادة للحديث المذكور ، فكذا لو تذكّر في الأثناء أنّه فات عنه بعض الشرائط ما عدا الثلاثة المذكورة فيها ، فلا يجب عليه الإعادة .
وحيث إنّ الروايات تدلّ على جواز العدول ، ومن المعلوم أنّ مورده فيما إذا لم يتجاوز محلّه . ففي غير هذا المورد ـ وهو ما إذا تجاوز محلّ العدول ـ نقول : إنّ مقتضى حديث لا تعاد عدم وجوب الإعادة ، لما عرفت من أنّه لو لم يكن في البين ما يدلّ على جواز العدول ، لقلنا بعدم جوازه ، وعدم وجوب الإعادة في موارد إمكان العدول أيضاً ، فالحكم بالصحة وعدم وجوب الإعادة في المسألة لايخلو من قوّة .
نعم يمكن أن يقال : إنّ الأدلة الدالة على شرطية الترتيب مطلقة ، والقدر المتيقّن من التقييد الذي يدلّ عليه حديث لا تعاد ، إنما هو فيما إذا تذكّر بعد الفراغ ، وأمّا لو علم في الأثناء فلم يعلم من الحديث تقييدها به أيضاً ، فالواجب الرجوع إليها كما لا يخفى . هذا ، ولكن عرفت أنّ الصحة لا تخلو من القوّة ، لما ذكرنا في وجهها .
فرع
لو صلّى بنية العصر مثلا ، فتخيّل في الأثناء أنّه لم يأت بالظهر ، فعدل عن العصر إليها ، ثم تذكّر أنّه أتى بالظهر قبل العصر ، فهل تقع هذه الصلاة فاسدة بحيث يجب عليه إعادة العصر ، أو تقع صحيحة بعنوان العصر بعد العدول إليها أيضاً؟ وجهان :
يظهر الوجه الثاني من صاحب الجواهر(قدس سره) في رسالة نجاة العباد ، حيث قال فيها : ولو عدل بزعم تحقق موضع العدول ، فبان الخلاف بعد الفراغ ، أو في الأثناء ،
(الصفحة 59)
كما لو عدل بالعصر إلى الظهر ، ثم بان له أنّه صلاّها ، فالأقوى صحتها عصراً ، والأحوط الاستئناف(1) .
هذا ، ولكن الظاهر هو الوجه الأول ، لعدم استدامة نية العصر بعد العدول عنها إلى الظهر ، ولو بزعم عدم الإتيان بها ، ولم يدلّ دليل على كفاية النية بعد التذكّر ، فالظاهر البطلان ووجوب الإعادة .
ثم إنّ مقتضى الأدلة المتقدّمة ، جواز العدول من الفريضة اللاحقة الحاضرة ، إلى الفريضة السابقة الفائتة ، وأمّا العدول من الفريضة السابقة إلى اللاحقة ، كما إذا شرع في الصلاة بنية الظهر بزعم أنّه لم يصلّها بعد ، فبان له في الأثناء أنّه صلاّها ، فعدل عنها إلى العصر ، فلا يجوز بعد عدم دلالة الدليل عليه ، وكون العدول مخالفاً للقاعدة كما عرفت في صدر المسألة ، كما أنّ مقتضى الأدلة جواز العدول من الفريضة إلى فريضة اُخرى .
وأمّا العدول من النافلة إلى النافلة ، أو إلى الفريضة فلا يجوز .
نعم يجوز العدول من الفريضة إلى النافلة في موضعين:
أحدهما : ما إذا شرع في الصلاة منفرداً ثم انعقدت الجماعة ، فإنّه يجوز له العدول إلى النافلة ، واتمامها ركعتين ، أو قطعها كما هو الشأن في جميع النوافل لإدراك فضيلة الجماعة .
ثانيهما : ما إذا قرأ في صلاة الجمعة التوحيد أو غيرها من السور ما عدى سورتها ، فإنّه يجوز له العدول منها إلى النافلة ، ثم استئنافها ، وفي غير هذين الموضعين لا يجوز العدول أصلا .
- (1) نجاة العباد : 113 ، أحكام النية .